Mashahid Mamalik

Idwar Ilyas d. 1341 AH
103

Mashahid Mamalik

مشاهد الممالك

Genres

ويلي ذلك قصور عظيمة للنظارات، وهي: الخارجية والمالية والحربية والعدلية والزراعة والبحرية والبوسطة، وليس للداخلية وزارة في واشنطن؛ لأن كل ولاية حرة في أمورها الداخلية، ولها وزير خاص بها في قاعدة الولاية، وقد دخلت سراي الخارجية بعد أن أرسلت اسمي إلى الوزير وهو يومئذ المستر فيش، فقابلني وقرأ كتاب توصية بي جئت به من صديق له في فلادلفيا فرحب بي كثيرا، وأراني بعض جوانب الوزارة، وفي جملتها قاعة عظيمة حوت رسوم الوزراء الأميركيين جميعهم من يوم تأسيس الجمهورية إلى ذلك الحين، وقد دعاني هذا الوزير للعشاء في منزله فلبيت الطلب ووجدت عنده المستر سانفورد سفير الأميركان في بلاد البلجيك، وتوجهنا بعد العشاء إلى منزل وكيل الوزارة لحضور مرقص واحتفال كبير فلقيت هنالك النواب والشيوخ والحكام وسراة الأميركان، وفي جملتهم بعض من الذين قضوا فصل في الشتاء في مصر وعرفتهم فيها. ودخلت أيضا وزارة المالية متفرجا في جوانبها وفيها مطبعة سرية تطبع أوراق الحكومة المتداولة بين الناس كالنقود، وعملها سري لا يصل إليه العمال أنفسهم؛ لأن الذي يطبع لا يرى الذي يجمع الحروف، والذي يصنع الورق لا يعرف صانع الحبر وهلم جرا، وفي كل ذلك حذر من التقليد وتحمل الغبن والخسارة. ونظارة المالية هذه تصرف كل ورقة من هذه الأوراق تقدم إليها بقيمتها نقود، وهي في ذلك مثل بنك إنكلترا وبنك فرنسا وغيرها من المصارف تتداول الأيدي أوراقها كما نتداول النقود، وإذا وجدت أوراق مالية مزورة من هذا القبيل فما على صاحبها إلا أن يحضر إلى نظارة المالية فتعطيه ورقة بقيمتها، وتغير أيضا الأوراق البالية من كثرة الاستعمال.

ومدينة واشنطن مثل الدولاب شكلا، مركزها الكابتول الذي ذكرناه، ومن هناك تتفرع الشوارع في شكل دائرة، وتسمى بأسماء حروف الهجاء تسهيلا واختصارا. والمنازل والحوانيت كلها منمرة مثل بقية المدن الكبيرة، والشوارع مصقولة بالأسفلت وهي واسعة كثيرة النظافة. وفي المدينة نحو ثلاثمائة وخمسين ألف نفس كانوا في أول هذا القرن 8028 فصاروا 23364 في سنة 1840، ومائة وعشرة آلاف في سنة 1870، ونحو مائة وخمسين ألفا في سنة 1880، وفي جملة سكانها 40 ألفا من النواب والشيوخ وموظفي الحكومة والسفراء وعائلات هؤلاء الموظفين؛ فلذلك قيل إنها مدينة الموظفين والنواب، وقد ارتفعت أسعار المأكولات فيها ارتفاعا كبيرا حتى إنها لتعد الآن من أكثر مدن الأرض غلاء، وأكثر الخادمين في منازلها من سكانها السود، وهم يقربون من خمسين ألفا فيها. وفيها من المشاهد الكبرى غير الذي عددناه تماثيل لواشنطن محرر أميركا، ومسلة تعرف باسمه أيضا ارتفاعها 555 قدما، وكلها من الرخام الأبيض بلغت نفقة إنشائها ثلاثمائة ألف جنيه، ومنها تمثال لافايت القائد الفرنسوي الذي أعان الأميركان على الاستقلال، وتمثال مارشال وهو مؤسس نظام المحاكم والقضاء في الولايات المتحدة.

وعدت بعد هذه السياحات إلى مركزي في فلادلفيا، فعلمت من المستر تشايلد أن فيها اثنين من أشراف الإنكليز وكبراء مشاهيرهم، هما اللورد دوفرن واللورد روزبري، فأما اللورد دوفرن فقد كان مدعوا للعشاء في تلك الليلة عند المستر تشايلد ودعيت أنا أيضا، وكان اللورد دوفرن يومئذ حاكم مستعمرة كندا الإنكليزية ثم صار واليا للهند، ونقل منها إلى الآستانة سفيرا ثم نقل إلى رومة فإلى باريس، ومنها استقال من الخدمة بعد أن شهد جميع الناس أنه من أبرع سفراء زمانه وأكثرهم استعدادا لحل المعضلات. وقد كان من حسن حظي أني اجتمعت به للعشاء في منزل المستر تشايلد، وكان في جملة قوله لنا أنه شديد الميل إلى رؤية مصر وآثارها، وقد تحققت أمنيته هذه؛ لأنه جاء مصر بعد إخماد الثورة العرابية مندوبا من قبل حكومته لتنظيم حكومتها، وتقرير القواعد التي تسير عليها، ويذكر القراء أن مصر سائرة الآن بحسب آرائه المنشورة في التقرير المشهور، وأنه كان يدير حركة المسألة المصرية مدة وجوده في الآستانة، ولما جاء مصر في مهمته المذكورة ندبني دولتلو رياض باشا يوما لإبلاغه كلاما، فلما اجتمعت به ذكرني باجتماعنا في فلادلفيا قبل ذلك الحين بسبعة أعوام. وأما اللورد روزبري فإني أخبرني صديقي المستر دركسيل - الذي مر ذكره - أنه كان ضيفا عنده، ودعاني للعشاء في ذات ليلة فاجتمعت بهذا الرجل العظيم، وهو الذي صار بعد ذلك وزيرا للخارجية على عهد غلادستون، ثم خلفه في رئاسة الوزارة الحرة، وله شهرة تدوي بها الآفاق، فلست أزيد القراء به علما، وكان يوم قابلته شابا تلوح عليه أدلة العظمة ويكثر من الصمت والتأمل، ولكنه إذا قال شيئا كان قوله عذبا طليا يسحر السامعين.

ختام المعرض

كل الذي مر بك تم في ستة أشهر ونحن في المعرض الأميركي العام، حتى إذا قرب ختامه بدأنا بالاستعداد للعود إلى مصر، ووزعت الجوائز قبل الختام بقليل على أصحاب الصناعة والتجارة وغيرهم ممن عرض شيئا يستحق الذكر، وكان في جملة الجوائز واحدة للمعرض المصري نالها على نوع من القطن، ولما جاء يوم الختام - وهو 10 نوفمبر سنة 1876 - قدم رئيس الجمهورية من العاصمة باحتفال مثل الذي وصفناه عند افتتاح المعرض، فألقى خطابا وجيزا شكر فيه الدول المتحابة التي شاركت الولايات المتحدة في احتفالها ومعرضها، وذكر مصر معها بنوع خاص، وأعلن إقفال المعرض، فأطلق مائة مدفع ومدفع، وصدحت الآلات الموسيقية بالأنغام، ودار ذكر الوداع والتهاني، وكان مدير المعرض وعماله يثنون على الحاضرين ويودعون ويذكرون أوقات الصفاء. وفي مساء ذلك اليوم استقبل رئيس الجمهورية مندوبي الدول للوداع وشكر كلا منهم على حدة، وانصرفنا ونحن نذكر أياما قضيناها بكل ما يفيد العقل والنفس، وأرسلت آخر التقارير عن المعرض إلى سمو الخديوي توفيق باشا، وبدأنا بتوديع أولئك الأصدقاء الذين أظهروا لنا لطفا وكرما غير معتاد. ثم سافرنا من مدينة فلادلفيا آسفين لفراقها ومن فيها، وسرت إلى مدينة نيويورك ونزلت في فندق هوفمان أياما، ثم ركبت باخرة من بواخر شركة هويت ستار الإنكليزية، ومعنى اسمها النجم الأبيض ومركزها في مدينة لفربول ببلاد الإنكليز، فودعت الأصدقاء وغادرت ربوع الأميركان بعد إقامة 14 شهرا، وكان ربان الباخرة رجلا كريم الأخلاق، وفيها كثار من أهل الوجاهة بينهم الموسيو بلتنف معتمد روسيا في المعرض، ولما كان زمان سفرنا في فصل الخريف أو أول الشتاء، فإن الجو أظلم مدة السفر كله، وكثر الضباب والمطر، ولكن الأمواج لم تزد عن الحد المعتاد فوصلت السفينة ميناء لفربول ليلة عيد الميلاد من تلك السنة بعد أن مخرت في البحر تسعة أيام اجتازت فيها 3000 ميل، وكان بعض الركاب لا يصدقون أنها تصل في ذلك اليوم والبعض يصدقون، فجعلوا يتراهنون ولما قضي الأمر وتم المراد ربح بعضهم من البعض الآخر مالا وافرا بهذا الرهان، وعول أكثرهم على شراء هدية لربان الباخرة بهذا الربح؛ لأنه كان كثير الاهتمام براحة المسافرين.

وعدت بعد ذلك إلى مصر فتشرفت بمقابلة سمو الخديوي وعرضت عليه نتيجة المأمورية، فأظهر الرضى والارتياح، وكان ذلك ختام سياحتي في الولايات المتحدة ومأموريتي في معرضها المشهور، والحمد لله على حسن الختام.

معرض باريس العام

سنة 1900

لما أوشك قرن الحضارة والاختراع على الختام، خطر لأمة الفرنسيس أن تجعل عامه الأخير ممثلا لآياته جامعا لكل حسناته، فتقيم في باريس الحسناء معرضا عاما لتسابق الأمم فيه إلى عرض النفائس والبدائع، وتتجلى آيات التقدم الباهر في كل أبواب العمران والارتقاء، فنادت أمم الأرض تدعوها إلى الاشتراك في هذا المعرض العظيم ولبتها الشعوب متوافدة على عاصمتها البهية من جميع الأمصار قادمة بما أنتجت قرائح نوابغها من فنون هذا الزمان ومصنوعاته وعلومه واكتشافاته، حتى إذا فتحت أبواب هذا المعرض المشهور كانت القصور المنيفة قائمة في جوانب أرضه الرحيبة بين ما مهدوا من بهي الطرق وبديع الحدائق والمشاهد التي تختلب العقول، وقد ملئت هاتيك القصور بآثار الأوائل والأواخر، ونسقت غرائب التقدم الحديث من مبتكرات الأقوام المختلفة، فبدت جميعها آيات بينات تشهد بمقدرة الإنسان وارتفاع درجة العمران في ذلك القرن العجيب؛ لأن المعرض كان صورة للأرض مصغرة ولكنها بديعة الإتقان وافية البيان ساحرة للأذهان، ما أتى الناس بمثلها في جميع الأزمان.

وما اشتهر في الأقطار بناء هذا المعرض حتى بدأ كل ذي قدرة على الذهاب يتحفز استعدادا لرؤية محاسنه وبدائعه؛ لأن المعرض مدرسة للمرء تزيده علما واختبارا، وتمثل لديه ما صنع الأولون والآخرون وما أدركوا من أسرار الطبيعة، وما سخروا من عناصرها، وما أنجزوا لترقية حالة الأفراد والأقوام في كل زمان ومكان، وما يمكن أن يكون قد بلغه بالخبر ولم يظهر أمامه بالعيان، ولا سيما هذه المخترعات التي لا تعد، وقد تناولت معظم ما في الأرض وغيرت شكله تغييرا يكاد يحسب من خوارق المعجزات، مثل البخار الذي أودى بالأبعاد وقرب البلاد من البلاد، حتى إنه يمكن أن يسير المرء في أيامه حول الأرض في أقل من أربعين يوما لو استمر على المسير، وما كان ذلك فيما قبل بالأمر الميسور، ومثل التلغراف الذي جعل الأرض أصغر مما صغرها البخار، حتى إن الواقف في أطراف الشمال يمكن له العلم بأخبار النائي في أقاصي الجنوب والوقوف على أحوال كل صقع سحيق ساعة بعد ساعة، وأصبح الأمر الذي كان يلزمه صبر الأعوام حتى يصل بعض المواقع المتباعدة يذيع حال وقوعه وينتشر بين جميع الأقوام، وأغرب ما في هذا النوع تلغراف ماركوني الذي ينقل الأخبار بلا سلك ولا موصل عبر دقائق الهواء، تدفعها آلته الكهربائية أمواجا تلو أمواج في الفضاء حتى إذا بلغت موضع آلة أخرى من هذا النوع نقرت عليها نقرا خفيفا وطبعت إشارات مثل إشارات التلغراف المألوف ، فيقرأها القارئون وهم لا يرون مصدرها ولا واسطة وصولها.

Unknown page