وهناك حدود يعينها العظماء لسلوكهم وهي جميعا تبدو تافهة لأول نظرة، ولكنها عند التأمل تكشف لنا عن صرامة في النفس يراد منها تماسك الأخلاق ومتانة الشخصية وتوحد الهدف وانتظام النشاط.
إن العظيم لا يبعثر حياته ولا يستسلم لكل شهوة ولا ينقاد إلى كل رغبة؛ لأن عظمته تعين له الهدف في حياته وتبعثه على أن يتعهد نفسه بالتربية، وهو ينكر الكثير على نفسه، كي يصل إلى هذا الهدف، وهو دائم اليقظة متنبه الوجدان إلى شخصيته، ثم هو يأخذ بعادات صغيرة تعينه على بلوغ الهدف وعلى استبقاء قواه موفرة لهذا البلوغ.
ونحن حين نقعد إلى مكاتبنا كي نؤدي عملا ما، نحس جدا وتبصرا ومسئولية لا نحس مثلها حين نؤدي مثل هذا العمل ونحن في السرير، وكثير من الخيبة التي يعانيها بعض الشباب أنهم يؤدون أعمالهم مستهترين متراخين لم يحلقوا لحاهم ولم ينتصبوا متحفزين لعملهم، وقلما يجيدون لذلك ما يعملون؛ لأن إهمالهم لعادات الجد في أشخاصهم يجعل أعمالهم أيضا مهملة، وإنما نضبط أعمالنا ونحزم شئون مهنتنا إذا كنا نحن قد ضبطنا شخصيتنا ووعينا لأنفسنا الحدود والشروط التي تحول دون التراخي في أخلاقنا أو الضعف في شخصيتنا.
الفصل الثامن عشر
ضرورة الجنون
كتبت إحدى الصحف كلمة عن قاسم أمين جاء فيها أنه كان ينصح للأدباء بأن يبتكروا وأن يجنوا.
وقد يحتاج هذا الكلام إلى قليل من التفسير، فقد كان قاسم أمين نفسه أديبا قبل أن يكون قاضيا، وقد جن جنونين: الأول في 1898 عندما أخرج كتابه الذي دعا فيه إلى سفور المرأة، وجن جنونه الثاني في 1906 عندما دعا إلى إنشاء جامعة مصرية.
ومعنى الجنون هنا مخالفة العرف ومجابهة الرأي العام بضد ما يعتقد، والدعوة إلى سفور المرأة في أواخر القرن الماضي بعد مئات السنين من الحجاب والنقاب والانفصال من المجتمع والترهل في البيت كانت تبدو بلا شك جنونا؛ إذ لم تكن تقل في غرابتها عن الدعوة للرجال بأن يسيروا في عري تام لأن الملابس ترهقهم وتؤذيهم في صحتهم.
وكذلك دعوته إلى إنشاء جامعه في وجه الجهل العام كانت من الغرابة بحيث كانت تعد شذوذا وجنونا.
ومن كلمات الإنجيل التي تقترب من موضوعنا هذا قوله: «أنت لست حارا ولست باردا ولكنك فاتر، ولذلك تقيئك نفسي».
Unknown page