وكانت هذه الصيغة معدة في اليوم الثامن عشر من شهر سبتمبر سنة 1917م.
وقد وافق عليها الرئيس ويلسون، وبعد ما عطل اليهود الإنجليز الصيغة الأولى عطلوا الثانية؛ إذ رأوا أن الصيغة الثانية لا تزال مصرة على تسليم فلسطين للصهيونيين تحت حجة «إعادة تنظيمها». ولا شك في أن الفضل الأكبر يعود إلى مستر أدوين مونتاجو وسير فيليب ماجنوس وزملائهما من اليهود في وقفتهم الصامدة ضد الصهيونية.
وقد كتب مستر ج. م. ن. جيفر في كتابه «فلسطين: الحقيقة» يقول متحدثا عن الصيغة الثانية من مشروع تصريح بلفور، وعن احتجاجات اليهود الإنجليز عليها؛ مما أدى إلى إبدالها بصيغة ثورية: «إن ما يلفت النظر هنا أنه لو لم يكن لحركة اليهود الإنجليز هذه وجود لكانت الحكومة البريطانية قد سلمت فلسطين إلى الهيئة الصهيونية؛ ففي الصيغتين المقترحتين أغضت الحكومة نظرها عن العرب تماما وكأنهم لم يكونوا في الوجود.»
كان من أثر احتجاج الشخصيات البارزة من اليهود الإنجليز على الصيغة الثانية لمشروع تصريح بلفور لأنها تضمنت تسليم فلسطين للصهيونيين وإعادة تنظيمها؛ أن الحكومة البريطانية طلبت من اللجنة السياسية تعديل الصيغة للمرة الثانية؛ فعدلتها دون أن تذكر فلسطين على أنها الوطن القومي لليهود، ولكنها بدلا من ذلك ذكرت رغبة الحكومة البريطانية في «إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين».
ولكن هذا أيضا لم يحز قبول اليهود الإنجليز الذين أصروا على حذف كلمتي «الوطن القومي» من التصريح. والواقع أن زعيمهم مستر أدوين مونتاجو استطاع بحكم منصبه كوزير لشئون الهند أن يعرض الأمر مباشرة على أعضاء الوزارة، وقدم لهم مذكرة شديدة كادت تفضي بهم إلى إغضاء النظر عن السياسة التي تناصر الصهيونية لو لم يضطر هو إلى السفر إلى الهند في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر 1917م ليبدأ سلسلة من الإصلاحات التي لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم.
على أن الجو لم يخل تماما للورد بلفور؛ فإن المعارضة بين أعضاء الوزارة استمرت، وخاصة من جانب لورد كيرزون، ولو أن معارضته لم تكن قوية فسرعان ما نزل عن اعتراضاته.
وفي الوقت ذاته كان الصهيونيون قد فقدوا الصبر؛ فبعثوا إلى بلفور بمذكرة أخيرة طالبوا فيها بإصدار التصريح ملوحين بخطر تحول الشعور الإسرائيلي ضد الحلفاء، ثم استخدموا النفوذ الأمريكي حتى بعثت الحكومة البريطانية إلى البيت الأبيض بصيغة التصريح التي وافقت عليها، وفيما يلي نصها:
تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للجنس اليهودي في فلسطين، وستبذل كل مساعيها لتسهيل الوصول إلى هذا الهدف على أن يكون مفهوما أن لا يتخذ أي شيء يضر بالحقوق المدنية والدينية للجاليات غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به يهود البلاد الأخرى الذين هم قانعون بجنسياتهم ورعويتهم الحالية.
وعرض ويلسون هذه الصيغة على القاضي برانديس وأعوانه فلم تعجبهم الخاتمة، وفي النهاية عدلت الجملة الأخيرة بحذف كلمات «الذين هم قانعون بجنسياتهم ورعويتهم الحالية»، وأبرق ويلسون إلى الحكومة البريطانية بموافقته.
وفي لندن عدلت كلمة «الجنس اليهودي» فصارت «الشعب اليهودي»، ومضى أسبوعان ثم أدرج الموضوع في جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء التي عقدت يوم 2 نوفمبر سنة 1917م، وكان جماعة من زعماء الصهيونية يجلسون في الحجرة الخارجية، وحين وافق المجلس على الصيغة النهائية خرج سير مارك سايكس من قاعة الاجتماع مملوءا حماسا، وألقى بقنبلته إلى الجماعة قائلا: «إنه ولد!»
Unknown page