ولما انتقل بعض اليهود من الشرق إلى أوروبا أخذوا معهم نسخا عديدة من الكتب المقدسة يعتمد عليها. من هذه نسخة: جليل، وجدت في إسبانيا، ونسخة ابن شير وابن نفتالي رئيسي مدرستي بابل وطبريا، ونسخة أريحا، وهي أصح نسخ الشريعة الموسوية، والنسخة الهندية، والنسخ السينمائية، ونسخ عديدة غيرها يبلغ عددها نحو 854 نسخة جميعها في مكاتب أوروبا.
وقد حفظت إلى الآن عند السامريين في نابلس نسخ من الخمسة الأسفار بالخط السامري القديم، وهم يدعون أن عندهم نسخة باقية بخط فينحاس بن أليعازار بن هارون. أما ادعاؤهم أقدمية هذه النسخة فباطل؛ لأنه قد ثبت أنها مأخوذة عن الترجمة السبعينية مع بعض تغييرات موافقة للمعتقد السامري. ومن مقابلة هذه النسخ جميعها يبين أنها قد حفظت مع التدقيق والصحة، وأن اختلاف القراءات لا يمس عقيدة أو عملا، بل يسير على دقة لهجة بعض كلمات وضبط حركاتها.
هذا؛ وأول من بحث في قواعد اللغة العبرية الأستاذ سعيد الفيومي في القرن العاشر، وهو من أساتذة بابل ؛ فقد ترجم العهد القديم كله تقريبا إلى العربية بالحروف العبرية، ومن معاصريه الذين بحثوا في اللغة دوناش بن لبراط، وابن تميم، ومناحم بن سروق، ويهوذا بن قريش. وقد بحث هذا الأخير في اللغات السامية الثلاث وقابل بينها وبين لغة التوراة ولغة المشنا. ولأبي يهوذا حيوج، ويهوذا بن قريش، وأبي الوليد مروان، وابن أشير، ويهوذا بن بلعام، وإبراهيم بن عزرا، وعائلة قمحي، وسلمون يارحون، وربي ليفي بن جرسون، وابن جبيرول، وهارون بن يرسف وغيرهم مؤلفات عديدة قيمة في اللغة العبرية.
وممن اشتهر من العلماء المسيحيين في اللغة العبرية روكلين، اللغوي الشهير، وجون باكستروف، وشولتز، وشريدر، وجزينيوس، وروبنصون، وإيوالد، وغيرهم.
وقد بلغ عدد المؤلفات التي تبحث في اللغة العبرية في سائر اللغات ما ينيف عن 800 مجلد لكتاب مسيحيين أكثر من نصفها.
النحو العبري
وعند الدكتور فؤاد حسنين أن اليهود يدينون للكنعانيين بلغتهم العبرية، وللعرب المخضرمين بتذوق هذه اللغة وآدابها، وللمسلمين بوضع الكتب العلمية وصرفها؛ وذلك أن العبريين هاجروا من شمال الجزيرة العربية حول منتصف الألف الثاني ق.م إلى فلسطين أو أرض كنعان، فوجدوا فيها شعبا ساميا راقيا، يتكلم الكنعانية ويكتب بها، فلما استقر بالعبريين المقام أخذوا يتركون لغتهم الأصلية التي جاءوا بها، والتي كانت تتألف من لهجة آرامية، ويستعملون مكانها لغة وطنهم الجديد، شأنهم في ذلك شأنهم اليوم في البلاد التي يأوون إليها، فهم يتكلمون الإنجليزية في إنجلترا وأمريكا، والفرنسية في فرنسا، والألمانية في ألمانيا، وهلم جرا، لكنهم كانوا فيما يفكرون ويكتبون متأثرين بلغتهم الأصلية، لذلك اصطلح على تسمية هذه اللغة التي أصبحت خاصة بهم «اللغة العبرية» التي ظلوا يتكلمونها حتى القرن الثاني ق.م. ففي ذلك القرن اختفت من الحياة العامة، ورضيت بالمعابد، وصارت لغة طبقة خاصة من علماء اليهود، وأخذت تحل محلها لغات أخرى، منها السامية ومنها الأجنبية، وأصبح اليهود في الشام والعراق يتكلمون لغة تزداد مع سير الزمن فسادا، حتى أصبحت قبيل الإسلام خليطا من العبرية والكلدانية واليونانية الدارجة التي لا أدب لها.
لكن حدث في ذلك الوقت أن أرسل الله رسوله «محمدا» بالهدى ودين الحق، وقام بعض يهود الجزيرة العربية وألبوا الناس عليه.
وكان من بين هؤلاء اليهود الذين ناصبوا النبي العداء، وأجلوا عن قلب الجزيرة بنو قينقاع وبنو النضير، ويهود خيبر ووادي القرى وغيرهم، الذين نشئوا في الجزيرة العربية نشأة تتفق إلى حد ما والخلق العربي والمثل العربية من حيث الشجاعة والكرم والأمانة والوفاء، إلى جانب العناية بالفصاحة والبلاغة وقرض الشعر، على نقيض إخوانهم في الشام والعراق الذين كانوا يقاسون آلام الاستعمارين البيزنطي والفارسي. ولا أدل على رقي يهود قلب الجزيرة من أن دواوين الأدب العربي حفظت لنا كثيرين من شعرائهم أمثال السموءل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض وغيرهم، الذين يدل نبوغهم في الشعر على سلامة ذوقهم اللغوي، وتأصل العربية والطباع العربية فيهم، وقد نقلوها إلى إخوانهم في العراق والشام؛ لذلك لم يكد يمضي نصف قرن على فتح المسلمين تلك البلاد حتى أصبح اليهودي يجيد العربية قراءة وكتابة. ولم يقف أثر المسلمين عند هذا الحد، بل نجدهم يحولون اهتمام اليهود إلى كتابهم المقدس ليجادلوا من يجادلهم من ناحية، وليحافظوا عليه من التغيير والتبديل من ناحية أخرى، فضبطوه بالحركات كما ضبط المسلمون القرآن الكريم. وكانت النتيجة المحتومة لانتشار معرفة اللغة العبرية ودراستها، وفهم الكتاب المقدس والعناية به، أن ولد شعر عبري حديث انصرف صاحبه إلى فنون أخرى غير فنون الشعر العربي، التي كانت تتجلى في ذلك العصر في مدح السيف والفروسية والحب، ورثاء المجد الغابر، وهجاء الخصم الذي لا يستطيع الشاعر قتله أو الوصول إليه، بينما يتغنى الشاعر العبري بمديح الله ورثاء الأمة العبرية؛ ومن ثم تفنن فنظم للكنيس كثيرا من الشعر الديني الذي يستخدم في العبادة، ومع سير الزمن وكثرة تأثر هؤلاء الشعراء بالعرب والعربية، أدخلوا القافية في شعرهم بعد أن كان غير مقفى.
إن التاريخ يحدثنا أن اليهود لم يكتبوا كتبا علمية في قواعد لغتهم إلا بعد أن تتلمذوا للعرب، وبعد أن نشئوا في مهد الثقافة الإسلامية نشأة مكنتهم من فهم العلوم العربية على اختلاف أنواعها، ففي أواخر القرن التاسع والنصف الأول من العاشر الميلادي ظهر «سعديا» «892-942م»، وهو سعيد بن يوسف الفيومي، فيلسوف اليهود في القرن العاشر، فقد تأثر سعديا هذا لا بالعلوم اللغوية العربية فقط، بل بالعلوم الدينية الإسلامية أيضا، وتشربت روحه بمذهب المعتزلة، حتى إنه استعان به عند معالجته للديانة اليهودية، ويطلق عليه نحويو اليهود «أبا النحو العبري»، فقد وضع مؤلفا يقع في اثني عشر كتابا يسمى «كتب اللغة»، وهو يعد أول مؤلف منظم في قواعد اللغة العبرية، ومن بواعث الأسف أن أكثره قد فقد، وقد عالج فيه الأبجدية، وخواص الحروف الحلقية، وإبدال الحروف وإدغامها، وتصريف الأفعال، كما عالج الأسماء والحروف، كذلك وضع كتبا أخرى بالعربية والعبرية لسنا في حاجة إلى الإشارة إليها هنا، وحسبنا أن نذكر مؤلفه العظيم «أجرون»؛ أي «معجم لغوي»، فقد قسم فيه الكلمة إلى «أصل» و«زيادة»، أو بمعنى آخر إلى أصل وعلامة إعراب، وقد أورد فيه قائمة تشتمل على تسعين كلمة عبرية وآرامية نادرة الوجود في العهد القديم، فاسترعى بذلك النظر إلى وجوب العناية بالدراسة المقارنة التي عالجها هناك في الوقت نفسه «يهوذا بن قريش»، الذي ولد في شمال غربي أفريقيا. وغير سعديا ويهوذا نجد أمثال «مناحم بن سروق» اليهودي الإسباني «حول عام 960م»، و«دونش بن لبراط» تلميذ سعديا، وقد ولد في مدينة «فاس»، وهو يعد أول من قسم الفعل العبري إلى خفيف «مجرد» وثقيل «مزيد»، كما أنه استخدم معلوماته في اللغة العربية وطبقها على العبرية، وخاصة العروض، واستعان باللغة العربية في فهم الكتاب المقدس، فقارن بين اللغتين، واستشهد على وجوب العناية باللغات السامية بذكر قائمة تشتمل على مائة وسبعين كلمة من الكتاب المقدس لن تفهم إلا عن طريق اللغة العربية.
Unknown page