تتألف بلاد الحبشة من ثلاث عشرة ولاية لكل منها ملك يلقب بالرأس، وهو حاكم الولاية القائم بشئونها الإدارية والسياسية تحت إشراف الإمبراطور أو النجاشي، وهناك ألقاب أخرى وهي: دجاج ودجاز وداز جماح دفيتواري وقيفا زماج ... وغير ذلك من الألقاب. وتتألف من تلك الممالك الصغيرة إمبراطورية ذات شأن عظيم، ويلقب الإمبراطور هناك بالنجاشي وهو لقب كلقب بطليموس عند دولة البطالسة، وقيصر عند الروس، وشاه عند العجم، وباي تونس عند التونسيين، وخديوي عند ولاة مصر سابقا. وللحبشة لقب ثان هو منليك إلا أنه يقصر على الملوك من سلالة نبي الله سليمان عليه السلام؛ لأنه تزوج بلقيس ملكة سبأ ولما رزق منها بولد قال لها: «مني إليك.» فمزجت الجملتان فصارت «منليك». وجاء في رحلة الدكتور محمد نيازي الذي كان طبيبا لأحد الآلايات المصرية في سنة 1282ه بالسودان، قال: سمعت من أحد الأطباء الإفرنج يقول إنه قرأ في بعض المؤلفات القديمة أن ذلك المولود الذي هو منليك الأول بن سليمان، كانت بلقيس تخاف عليه من قومها، فبعثته إلى مدينة سوبا ليربى بها وسميت المدينة سبأ، ثم حرف الاسم إلى سوبا لتقادم الزمان، وقد تبوأ عرش الحبشة كثير من الملوك فلا حاجة إلى بيان أسمائهم وزمن ولاية كل منهم تجنبا للتطويل. (11) القضاء في الحبشة
ويقول الأديب محمد عبد الرحيم: «إنه بالرغم عن كساد الثقافة الحبشية وبوار سوق العلوم العقلية والنقلية، فإن القضاء سائر بطريقة كافلة للحقوق المدنية والاجتماعية، والقائمون به يؤدونه بأمانة ونزاهة جديرتين بالإعجاب، حتى كان كل آمنا على حقه وكل بما فعلت يداه رهينا، وما كان للحبشة نواميس شرعية ولا قوانين وضعية فيما يختص بالمعاملات القضائية، بل كان القضاء يسير مع العرف إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، وهناك قام أحد رجال الدين المسيحي المدعو أسعد عسال القبطي ووضع للحبشة قانونا نسقه تنسيقا بديعا، قسمه على قسمين؛ الأول منهما يختص بالكنيسة وتعاليمها الدينية، وقد لخص ذلك من تعاليم المذهب الأرثوذكسي والديانة الإسرائيلية، والثاني في المعاملات وكان مرجعه فيه كتاب «التنبيه» لأبي إسحق الشيرازي في فقه السادة الشافعية، وقد أطلق على هذا القانون اسم «فتانفوس»، وقد صدق جلالة الإمبراطور على المعاملة به في جميع أنحاء الأقاليم الحبشية، أما المسئولون عن تنفيذه في القرى فهم أكبر سكانها سنا وأكثرهم حنكة، وفي العواصم الرءوس ما عدا «أديس أبابا» التي يباشر القضاء فيها جلالة الإمبراطور بنفسه، وهو يجلس في ساحة مكشوفة، ثم ترفع على رأسه مظلة كبرى «شمسية» كملوك الفور وواداي، ويجلس عن يمين الإمبراطور 12 رجلا وعن شماله 12 رجلا من أعيان المملكة الذين يشترط أن يكون فيهم رئيس الكهنة بردائه الكهنوتي، ويحمل القانون المسمى «فتانفوس» كاهن آخر، ثم يؤتى بالمتقاضين فيقفون صفا أمام الإمبراطور على بعد 30 مترا منه، ثم يؤذن لهم في عرض ظلامتهم على هيئة القضاء، فينادي المظلوم بأعلى صوته قائلا: «جاتهوه جاتهوه.» أي: يا حضرة الإمبراطور. يكررها سبع مرات، وذلك بين دائرة من جنود الحرس المدججين بالسلاح، والناس في سكون شامل لهيبته.»
ومن المألوف في الحبشة نظام التحكيم، وكثيرا ما يلجأ المتخاصمان إلى رجل محترم في الطريق يحتكمان إليه وينزلان عند حكمه. (12) إيطاليا والحبشة: الجيش الإيطالي
منذ بعيد تستعد إيطاليا لغزو الحبشة، وقد بلغ ما أرسلته من الجنود إلى أريتريا حتى آخر سبتمبر سنة 1935 ربع مليون جندي إيطالي، مرت من قناة السويس على سفن حربية إيطالية ومعها ستمائة طائرة ومدافع كثيرة رشاشة وسيارات مدرعة، هذا عدا الجيش الإيطالي الذي في شمال إيطاليا وعدده 500 ألف، وعدا الجنود الوطنيين.
بدأت إيطاليا استعمارها الأفريقي بإنشاء شركة إيطالية اشترت ثغرا صغيرا يدعى «عصب » سنة 1869 من شيخها، وكانت من أملاك الباب العالي التركي، فاحتج على هذا البيع وعده باطلا لصدوره من غير مالك، ولكن الشركة الإيطالية «شركة روباتينو» نزلت عن «عصب» إلى الحكومة الإيطالية التي أرسلت بعض التجار الإيطاليين للإقامة بها وعلى رأسهم «الكونت أنتونيللي» الذي عقد مع إمبراطور الحبشة منليك الثاني معاهدة صداقة، واحتلت إيطاليا ثغر مصوع وجزرا غيرها وتألفت مستعمرة أريتريا، منتهزة فرصة الثورة المهدية في السودان وضعف مصر وسعي كل من إنجلترا وفرنسا لتقسيم أفريقيا الوسطى والشرقية، وواصلت إيطاليا احتلال بلاد الحبشة، وطلب الإمبراطور منليك إلى الجنرال جيته الإيطالي إخلاء البلاد وضم منليك «هرر» إلى أملاكه، ووقعت حرب بين الرأس ألولا وهزم الجيش الإيطالي في يناير سنة 1887 على مقربة من دوجالي، فأرسلت الحكومة الإيطالية في أواخر سنة 1887 جيشا عدده 25 ألفا نصفه من الإيطاليين ونصفه من الأهلين واحتل الجيش «صاتي».
وقد حدث في أثناء ذلك أن الملك يوحنا انتفض على الإمبراطور منليك وحارب جنود المهدي عند «القلابات» وقتل في مارس سنة 1888، وانهزمت جنوده بعد انتصارها في حياته.
وقد عقدت إيطاليا مع «منليك» معاهدة أوتشيالي، وبناء عليها قبل الإمبراطور أن تكون حكومة إيطاليا وسيطا بين الحبشة والدول الأجنبية في جميع المسائل.
وقد كتبت هذه المعاهدة من نسختين: نسخة باللغة الحبشية، ونسخة باللغة الإيطالية. والنسخة الحبشية تقول:
يجوز لجلالة الإمبراطور أن يتخذ وساطة حكومة جلالة ملك إيطاليا سبيلا إلى تسوية جميع المسائل المتعلقة بالدول الأجنبية.
فأما النسخة الحبشية فتقول «يجوز»، والنسخة الإيطالية تقول: «يوافق إمبراطور الحبشة ... إلخ.» وقد وقع منليك النسخة الحبشية ولم يوقع على النسخة الإيطالية، وفي 12 فبراير سنة 1893 أبلغ منليك الثاني الدول بأنه غير مرتبط بالمعاهدة الإيطالية التي نشرتها إيطاليا، وفسرتها على أنها جعلت الحبشة تحت حمايتها.
Unknown page