بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل الله ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فهذا سفر جديد ومؤلف نفيس ينشر لأول مرة، للعلامة القرآني والمجاهد المرابط١ الرباني، شيخ الإسلام والمسلمين أبي العباس أحمد بن تيمية ﵀، نقدمه للمجاهدين الصابرين المرابطين في كل مكان من ثغور الإسلام لا سيما بيت المقدس، الذي يمر بوقت عصيب تكالبت فيه كل قوى الشر لمساعدة أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود في مؤامراتهم لإحكام السيطرة عليه ولهدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم!! وهذا هو سر مقولتهم المشهورة التي رددها أساطينهم في عصرنا٢: "لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل"!!
_________
١ راجع: في رباط شيخ الإسلام بالثغور "العقود الدرية" لابن عبد الهادي ص (٢٩٠) .
٢ قالها ابن جوريون ورددها من بعده مرارا بيجن وجولدا مائير..
1 / 5
ولا يزال العدوان مستمرًا على القدس والأقصى الأسير، والمسلمون يغطون في سبات عميق!! فالأنفاق تحت أرض الأقصى تشق والحفريات تتواصل لتفريغ الأتربة والصخور من تحته ليكون على فراغ فيتعرض للسقوط والانهيار، والجماعات الصهيونية تدنس ساحاته يوميا"١.
ولن ينسى التاريخ ذلك الموقف البطولي للمرابطين بأكناف بيت المقدس في "انتفاضة القدس" وتصديهم لليهود الحاقدين!!
ولا أنسى هذا المشهد الذي شاهده العالم من خلال الفضائيات، عندما حاولت جماعة "أمناء الهيكل" اليهودية أن تضع حجر الأساس لهيكلهم المزعوم بعد أن حصلت على إذن من الحكومة الإسرائيلية فتصدى لهم المصلون المرابطون بالأقصى وقذفوهم ورجموهم بالأحذية والنعال!!
وأهل الإسلام اليوم بأشد الحاجة للصبر والمصابرة والرباط والمرابطة والثبات بثغور المسلمين في أرجاء الأرض كلها لا سيما الثغور الشامية وعلى رأسها: بيت المقدس، والأقصى الأسير!!
يقول العلامة ابن قدامة ﵀: "فأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا، لأنهم أحوج، ومقامه به أنفع، قال أحمد: أفضل الرباط أشدهم كلبا"٢.
_________
١ المغني (١٣/٢٠) .
٢ المغني (١٣/٢٠) .
1 / 6
وصف النسخة:
فقد اعتمدت على نسخة وحيدة تقع ضمن "مجموع" لشيخ الإسلام، محفوظ بـ"دار الكتب المصرية" برقم ٤٤٤ فقه تيمور.
وتقع هذه النسخة في ٧٥ صفحة، كل صفحة بها ١٣ سطر. وبخط الناسخ: عبد الحميد الحكيم١ كما جاء بآخر أحد الرسائل بالمجموع وهي مكتوبة بخط رقعة جميل إلا أنها كثيرة السقط والأخطاء.
وأما تحقيق نسبة الكتاب للمؤلف:
لم أجد أحدا ممن ترجم لشيخ الإسلام ذكر هذا المصنف؛ لكن الذي يطالع كلامه في مصنفاته الأخرى يراه قد أكثر الكلام على مسائل الكتاب وتلخيصها مع تطابق كبير بين كلامه هنا وهناك٢.
وأما عنوان الكتاب فقد أثبته كما سماه المصنف ﵀ في أوله حيث قال: "مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى".
_________
١ وقد سبق أن قمت بتحقيق مصنف آخر لشيخ الإسلام من هذا المجموع وهو"حكم الانغماس في العدو وهل يباح" وذكرت أن ناسخه لا يعرف! فليصحح وينتبه.
٢ راجع: "مجموع الفتاوى" (١٨/٢٨٣، ٢١/٤٥٥، ٢٢/٩١، ٢٧/٤٠، ٥٠، ٥٥، ٥٠٨، ٢٨/٥) وهذا ما ساعدني في تصويب كثير من الأخطاء الواقعة بالأصل.
1 / 7
وأما عملنا في التحقيق:
فقد اتخذت هذه النسخة أصلا؛ وصوبت ما فيها من أخطاء وسقط بالرجوع إلى كلام المصنف في كتبه الأخرى.
كما قمت بضبط فقرات الكتاب كلها، ونسقت عباراتها ورقمت فقراتها برقم مسلسل ووضعت لها عناوين جانبية.
كما قمت بعزو الآيات ووضع العزو بجوار الآيات، وخرجت الأحاديث والآثار وبينت مرتبتها من حيث القبول والرد.
كما وضعت بعض التعليقات المهمة وأكثرها من كلام شيخ الإسلام من كتبه الأخرى، وبعض المصادر من كتب الفقه.
كما صنعت له فهارس للآيات والأحاديث والآثار والموضوعات. هذا وقد اجتهدت في ذلك حسب الوسع والطاقة.
والله تعالى أسأل أن ينصر الإسلام، وأن يحفظ ثغور المسلمين وأن يجعلنا من المرابطين الصابرين الثابتين، إنه نعم المولى ونعم النصير. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الإسماعيلية في ١رجب ١٤٢٢هـ
أبو محمد أشرف بن عبد المقصود غفر الله له
1 / 8
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران:٢٠٠) .
1 / 9
صور المخطوطة
1 / 11
p١٣
1 / 13
p١٤
1 / 14
النص المحقق للكتاب
...
مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها لله تعالى
تأليف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
المتوفى سنة ٧٢٨هـ رحمه الله تعالى
تحقيق وتعليق: أبي محمد أشرف بن عبد المقصود
1 / 15
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي ونعم الوكيل
مسألة المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى؟!
الجواب
اتفاق الأئمة والسلف على أفضلية المرابطة على المجاورة بالحرمين
١- الحمد لله، المرابطة في ثغور المسلمين – وهو المقام فيها بنية الجهاد – أفضل من المجاورة في الحرمين باتفاق أئمة المسلمين وأهل المذاهب الأربعة وغيرهم١.
من البدع تعظيم الأماكن بغير دليل شرعي
٢- وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد٢
_________
١ قال المصنف ﵀: "المقام في الثغور من أجل الجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة ما أعلم في ذلك خلافا بين العلماء" "مجموع الفتاوى" (٢٧/٥١) .
وقال أيضا ﵀: "المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء" (٢٧/٤٠) .
وقال أيضا ﵀: "المقام في الثغور المسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من المجاورة في الساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاع بين أهل العلم، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة" "مجموع الفتاوى" (٢٨/٥)
٢ في الأصل: "فساد" بدون واو، وقد أثبتها لاستقامة السياق بها.
1 / 17
النيات في الأعمال الشرعيات صار يخفى مثل هذه المسألة على كثير من الناس حتى صاروا يعظمون الأماكن التي كان المسلمون يعظمونها لكونها ثغورا ظانين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعة ما أنزل الله بها من سلطان.
٣- فإنه يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذكر "غزة" و"عسقلان" و"الإسكندرية" و"جبل لبنان" و"مكة" و"قزوين"، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يوجب شرف هذه البقاع١.
فضل بعض الأماكن بكونه ثغرا لا لأجل خاصية ذلك المكان
٤- وإنما كان ذلك؛ لكونها كانت ثغور المسلمين، فكانوا صالحوا المسلمين يتناوبونها، لأجل المرابطة بها لا لأجل الاعتزال عن الناس وسكنى "الغيران"٢ و"الكهوف"، أو نحو ذلك مما
_________
١ قال المصنف ﵀: "عامة ما يوجد في كلام المتقدمين من فضل عسقلان والإسكندرية أو عكة أو قزوين أو غير ذلك، وما يوجد من أخبار الصالحين الذين بهذه الأمكنة ونحو ذلك فهو لأجل كونها كانت ثغورا لا لأجل خاصية ذلك المكان وكون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها لا اللازمة لها، بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر، أو دار حرب أو دار سلم، أو دار علم وإيمان أو دار جهل ونفاق فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتهم بخلاف المساجد الثلاثة فإن مزيتها صفة لازمة لها لا يمكن إخراجها عن ذلك.." "مجموع الفتاوى" (٢٧/٥٢) .
٢ "الغيران": جمع غار وهو كهف، وانقلبت الواو ياء لكسرة الغين."النهاية لابن الأثير (٣٩٥/٣) .
1 / 18
يظنه الجهال أهل البدع والضلال١.
جبل لبنان وما جرى فيه
٥- ثم إن من هذه البقاع ما غلب عليه العدو، أو سكنه أهل البدع والفساق؛ ففسد حال أهله، مثل ما جرى على "لبنان" ونحوه٢.
_________
١ قال المصنف ﵀: "فإن سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعا للمسلمين إلا عند الفتنة في الأمصار التي تحوج الرجل إلى ترك دينه من فعل الواجبات وترك المحرمات، فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه؛ فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" "مجموع الفتاوى" (٢٧/٥٢) .
٢ قال المصنف ﵀ مبينا حقيقة "جبل لبنان"" "ليس في فضل جبل لبنان وغيره نص لا عن الله ولا عن رسوله بل هو وأمثاله من الجبال التي خلقها لله وجعلها أوتادا للأرض آية من آياته.."
إلى أن قال: "فهذه السواحل الشامية كانت ثغورا للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة، وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان ﵁، فتحها معاوية فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام وغلب عليه هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام سواحله وغير سواحله وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة، فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام بل وأكثر بلاد الشام وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن يسر الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل نور الدين وصلاح الدين وغيرهما فاستنقذوا عامة الشام من النصارى، وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في "جبل لبنان" وغيره، وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى، وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض ليس فيه من الفضيلة شيء ولا يشرع بل ولا يجوز المقام بين النصارى أو الروافض يمنعون المسلم من إظهار دينه ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلي عن الناس زهدا ونسكا يحسب أن فضل هذا الجبل ونحوه لما فيه من الخلوة وأكل المباحات من الثمار التي فيه؛ فيقصدونه لأجل ذلك غلط منهم وخطأ" "مجموع الفتاوى" (٢٧/٥٠-٥٥) وراجع أيضا: "الإستقامة" (٢/٦١.)
1 / 19
كون المكان ثغرا مثل كونه دارا للإسلام
٦- وكون١ المكان ثغرا هو مثل كونه دارا لإسلام ودارا لكفر٢ مثل كون الرجل مؤمنا وكافرا، هو من الصفات التي تعرض وتزول:
٧- فقد كانت "مكة" شرفها الله أم القرى قبل فتحها دار كفر وحرب تجب الهجرة منها ثم تغير هذا الحكم لما فتحت٣.
حتى قال ﷺ: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" ٤.
٨- وقد كان "البيت المقدس" بأيدي العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى٥.
_________
١ في الأصل: "أو كون" وما صوب هو الموافق للسياق.
٢ في الأصل بدون اللام، وزدتها ليستقيم السياق.
٣ قال المصنف ﵀: "قال الله تعالى لموسى ﵇: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (لأعراف: ٤٥) وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة" "مجموع الفتاوى" (١٨/٢٨٣)
وقال أيضا: ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أطوع لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال؛ ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان: بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور "مجموع الفتاوى" (١٨/٢٨٣) .
٤ البخاري (٢٧٦٣) ومسلم (١٣٥٣) (٤٤٥) من حديث ابن عباس ﵄.
٥ المسجد الأقصى وبيت المقدس أمانة تسلمتها أمة الإسلام، وقد حفظ المسلمون هذه الأمانة في عهودهم المتوالية حتى جاء عصرنا فضاع بيت المقدس وهو يتعرض اليوم لأخطر مؤامرة لهدمه ولئن خلص اليهود لتنفيذ هذه المؤامرة بين ظهراني جيل من المسلمين يبلغ ربع سكان العالم فو الله إنه لعار لا يمحوه الزمان ولا يغسله الماء!! راجع: "قبل الكارثة نذير ونفير" ص (٢٩٨) .
1 / 20
تعريف الثغور وحكم المرابطة بها
٩- فالثغور هي: البلاد المتاخمة١ للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يخيف العدو أهلها ويخيف٢ أهلها العدو والمرابطة بها أفضل من المجاورة بالحرمين باتفاق المسلمين.
١٠- كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إما على الأعيان٣ وإما على الكفاية.
حكم المجاورة
١١- وأما المجاورة فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي مستحبة أم مكروهة؟
١٢- فستحبها طائفتان٤ من العلماء من أصحاب مالك والشافعي٥، وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره٦.
أدلة من قال بالكراهة
_________
١ في الأصل: "المباحثة" وكتب فوقها كذا، وما أثبته هو الموافق للسياق.
٢ في الأصل: "ويحيقوا " وكتب بالهامش ولعله "يخيف" وهو ما أثبته لموافقته السياق وراجع: "مجموع الفتاوى" (٢٨/٤١٨) .
٣ تكررت جملة "إما على الأعيان" في الفقرة التي قبله بعد كلمة بالحرمين!!
٤ في الأصل: "طائفتين" وما أثبته من الهامش لموافقته للسياق.
٥ راجع: "شرح مختصر الخليل" (٣/١٧٠) و"المنتقى شرح الموطأ" (٣/١٦٢، ١٦٣) و"مغني المحتاج" (٢/٢٤٠) و"المجموع شرح المهذب" (٨/٢٦٢، ٢٦٣) .
٦ راجع "المبسوط" (٣/١١٥) و"شرح السير الكبير" (١/١٣) و"البحر الرائق" (٢/٣٢٣) و"رد المختار" (٢/٥٢٤) و"الفتاوى الهندية" (٥/٣٢٥) .
أدلة من قال بكراهة المجاورة ... ١٣- قالوا: لأن المقام بها يفضي إلى الملك لها. وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيتضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل البلد.
أدلة من قال بكراهة المجاورة ... ١٣- قالوا: لأن المقام بها يفضي إلى الملك لها. وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيتضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل البلد.
1 / 21
١٤- قالوا: وكان عمر يقول عقب المواسم: "يا أهل الشام شامكم يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم] ١".
١٥- ولأن المقيم بها يفوته الحج التام والعمرة التامة؛ فإن العلماء متفقون على أنه إن أنشأ سفر العمرة من دويرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج والعمرة.
١٦- وهم متفقون على أنه أفضل من التمتع والقران والإفراد الذي يعتمر عقب الحج.
تصحيح خطأ في الاعتمار
١٧- وأما ما يضنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو في غيره إلى الجبل للاعتمار؛ وهو المراد بقوله ﷺ: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" ٢ حتى صار المجاورون وغيرهم يحافظون على الاعتمار من أدنى الحل أو أقصاه كاعتمارهم من التنعيم التي بها المساجد التي يقال لها "مساجد عائشة"، أو من "الحديبية" وعمرة "الجعرانة"؛ فكل ذلك غلط عظيم مخالف للسنة النبوية، ولإجماع الصحابة.
١٨- فإنه لم يعتمر النبي ﷺ ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قط لا قبل الهجرة ولا بعدها.
_________
١ ما بين المعقوفتين زيادة ليستقيم بها السياق.
٢ البخاري (١٨٦٣) ومسلم (١٢٥٦) (٢٢١) عن ابن عباس ﵄
1 / 22
لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي ﷺ من مكة إلا عائشة فقط
١٩- بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي ﷺ من مكة إلا عائشة فقط، فإنها قدمت متمتعة؛ فحاضت، فمنعها الحيض من الطواف قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي ﷺ أن يعمرها بعد الحج١، ثم بعد ذلك بنيت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: "مساجد عائشة".
٢٠- وأما "عمرة الحديبية": فإن النبي ﷺ هل هو وأصحابه من "ذي الحليفة" ثم حلوا بـ"الحديبية" لما صدهم المشركون عن البيت فكانت "الحديبية" حلهم لا ميقات إحرامهم.
وهذا متواتر يعلمه عامة العلماء وخاصتهم، وفي ذلك أنزل الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾ ٢ الآيات باتفاق العلماء٣.
_________
١ البخاري (١٥٦١) ومسلم (١٢١١) (١٢٨) عن عائشة ﵂ قالت: خرجنا مع النبي ﷺ ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي ﷺ من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فخل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن، فأحللن، قالت عائشة: فحضت، فلم أطف بالبيت، فلما كانت ليلة الحصبة قالت: يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة؟ قال: وما طفت ليالي قدمنا مكة؟ قلت: لا قال: فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك كذا وكذا، قالت صفية: ما أراني إلا حابستهم. قال: "عقرى حلقى أو ما طفت يوم النحر؟ " قالت: قلت: بلى قال: "لا بأس انفري" قالت عائشة: فلقيني رسول الله ﷺ وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها.
٢ في الأصل سقطت من الآية كلمة ﴿وأتموا﴾ وراجع: تفسير الطبري (٢/٢١٩) .
٣ راجع أيضا: "مجموع الفتاوى" (٧/٢٥٠) و"اقتضاء الصراط" (١/٤٢٥) و"زاد المعاد" (٢/٩٠) .
1 / 23
٢١- وأما "عمرة الجعرانة": فإن النبي ﷺ لما قاتل هوازن بوادي حنين الذي قال الله فيها: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:٢٥-٢٧) .
٢٢- وحاصر "الطائف" ونصبت عليها بالمنجنيق، ولم يفتحها وقسم غنائم حنين بـ "الجعرانة" فلما قسمها دخل إلى مكة ثم خرج منها؛ لم يكن بمكة فخرج منها إلى الحل ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل "مكة".
٢٣- بل الصحابة ﵃ وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك، بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خروجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك كما قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع١.
_________
١ راجع: "شرح العمدة" (٢/٣٣٤، ٥٣٥، ٢٤/ ١٤٨، ١٤٩) و"مجموع الفتاوى" (١٧/٤٢٧) .
1 / 24
استحباب الجمهور للمجاورة بشروط
٢٤- والمقصود هنا: أن من العلماء من كره المجاورة بمكة، لما ذكر من الأسباب وغيرها لكن الجمهور يحبونها في الجملة إذا وقعت على الوجه المشروع الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الراجحة عليها.
الأدلة على استحباب المجاورة بمكة.
٢٥- قال الإمام أحمد١، وقد سئل عن الجوار بمكة؟ فقال: وكيف لنا [به] ٢، وقد قال النبي ﷺ: "إنك لأحب البقاع إلى الله، وإنك لأحب إلي".
٢٦- وجابر جاور مكة، وابن عمر كان يقيم بمكة٣.
٢٧- وقال أيضا:"ما أسهل العبادة بمكة، النظر إلى البيت عبادة"٤.
_________
١ نقله في"الإنصاف" (٣/٥٦٢) و"الفروع" (٣/٣٦٢) والمغني (٥/٤٦٤) .
٢ ما بين المعوقتين زيادة من"الإنصاف" ليستقيم بها السياق
٣ ابن أبي شيبة (٣/١٨٦) عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبو سعيد الخدري. عطاء قال: جاور عندنا جابر بن عبد الله وابن
٤ راجع:"الإنصاف" (٤/٥٠) و"مجموع الفتاوى" (٢٦/٤١٣) . وعند ابن أبي شيبة (٣/٣٤) عن طاوس ومجاهد وعطاء وعبد الرحمان بن الأسود:"النظر إلى البيت عبادة".
الأدلة على استحباب المجاورة بمكة ... ٢٨- واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عدي ابن حمراء الزهري أنه سمع النبي ﷺ يقول، وهو واقف بالحزورة
الأدلة على استحباب المجاورة بمكة ... ٢٨- واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عدي ابن حمراء الزهري أنه سمع النبي ﷺ يقول، وهو واقف بالحزورة
1 / 25
في سوق مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح"١.
٢٩- ورواه أحمد من حديث أبي هريرة أيضا٢.
ومن الأدلة على استحباب المجاورة
٣٠- وعن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح غريب"٣.
_________
١ أحمد (٤/٣٠٥) والنسائي في الكبرى (٤٢٥٢،٤٢٥٣) وابن ماجه (٣١٠٨) والترمذي (٣٩٢٥) والحاكم (٣/٧،٤٣١) وصححه الألباني في"صحيح ابن ماجه" (٣١٠٨) .
"الحزورة": بالحاء المهملة والزاي، قال الطيبي: "على وزن القشورة موضع بمكة، وبعضها شددها، والحوزرة في الأصل: بمعنى التل الصغير، سميت بذلك، لأنه كان هناك تل صغير وقيل: لأن وكيع بن سلمة بن زهير بن ولي أمر البيت بعد جرمهم فبني صرحا كان هناك وجعل فيها أمة يقال لها حزورة، فسميت حزورة مكة بها". "تحفة الأحوذي" (١٠/٤٢٦) .
٢ أحمد (٤/٣٠٥) والنسائي في الكبرى (٤٢٥٤) .
٣ الترمذي (٣٩٢٦) والطبراني في الكبير (١٠/٢٦٧، ٢٧١) وصححه الحاكم (١/٤٨٦) وابن حبان (٣٧٠٩) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (٣٩٢٦) .
قال المباركفوري ﵀: "ما سكنت غيرك" هذا دليل للجمهور على أن مكة أفضل من المدينة خلافا للإمام مالك ﵀، وقد صنف السيوطي رسالة في هذه المسألة".
1 / 26
ومن الأدلة على استحباب المجاورة
٣١- قالوا: فإذا كانت أحب البلاد إلى الله ورسوله ولولا ما وجب عليه من الهجرة لما كان يسكن إلا إياها، علم أن المقام بها أفضل إذا لم يعارض ذلك مصلحة راجحة كما كان في حق النبي ﷺ والمهاجرين؛ فإن مقامهم بالمدينة كان أفضل من مقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد بل ذلك كان واجب عليهم، وكان مقامهم بمكة حراما حتى بعد الفتح، وإنما رخص للمهاجر أن يقيم فيها ثلاثا.
٣٢- كما في "الصحيحين"١ عن العلاء بن الحضرمي أن النبي ﷺ أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا.
٣٣- وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا [مقيمين بدار، هاجروا منها وتركوها] ٢؛ لكونهم هاجروا عنها، وتركوها لله.
_________
١ البخاري (٣٩٣٣) ومسلم (١٣٥٢) (٤٤٢) واللفظ له.
فائدة: "قال القاضي عياض ﵀: في هذا الحديث حجة لمن منع المهاجر قبل الفتح من المقام بمكة بعد الفتح، قال: وهو قول الجمهور، وأجاز لهم جماعة بعد الفتح مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح ووجوب سكنى المدينة؛ لنصرة النبي ﷺ ومواساتهم له بأنفسهم، وأما غير المهاجر ومن آمن بعد ذلك: فيجوز سكنى له أي بلد أراد، سواء مكة وغيرها بالاتفاق" "شرح النووي لمسلم" (٩/١٢٢، ١٢٣) .
٢ ما بين المعقوفتين زيادة ليست في الأصل زدتها بالاستفادة من كلام المصنف، ليستقيم بها السياق.
1 / 27