بسم الله الرحمن الرحيم
(١) ما تقول (٢) السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين ﵃ أجمعين، وأعانهم على إظهار الحق المبين، وإخمال الكفار والمنافقين، في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها التي أغلقت (٣) بأمر ولاة الأمور، إذا ادعى أهل الذمة: أنها غلِّقت ظلمًا، وأنهم يستحقون فتحها، وطلبوا ذلك من ولي الأمر أيده الله تعالى ونصره.
فهل تقبل دعواهم؟ وهل تجب إجابتهم أم لا؟!
وإذا قالوا: إن هذه الكنائس كانت قديمةً، من زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ وغيره. وأنهم يطلبون أن يقروا (٤)، على ما كانوا عليه في زمن عمر ﵁ وغيره من خلفاء المسلمين، وأن إغلاقها مخالفٌ لحكم الخلفاء الراشدين.
فهل القول مقبولٌ منهم أو مردود؟
وإذا ذهب (٥) أهل الذمة إلى من يقدم من بلاد الحرب، من رسولٍ أو غيره، فسألوه أن يسأل ولي الأمر في فتحها، أو كاتبوا ملوك الحرب ليطلبوا ذلك من ولي أمر المسلمين فهل لأهل الذمة ذلك؟ وهل ينتقض عهدهم أم لا؟!
_________
(١) في الظاهرية: مسألة سئل عنها الشيخ الإمام العلامة الحافظ تقي الدين ابن تيمية الحراني الحنبلي تغمده الله برحمته في الكنائس.
(٢) في نسخة مصر: ما يقول.
(٣) في الظاهرية: غلّقت.
(٤) في الأصل: يقرون وما أثبته من المصرية هو الصواب.
(٥) في القاهرية: بعث.
1 / 99
وإذا قال قائلٌ: إنهم إن لم يجابوا إلى ذلك حصل للمسلمين ضررٌ، إما بالعدوان على من عندهم من الأسرى (١) (٢)، أو (٣) المساجد، وإما بقطع متاجرهم عن ديار الإسلام، وإما بترك معاونتهم لولي أمر المسلمين على ما يعتمده من مصالح المسلمين، ونحو ذلك. فهل هذا القول صوابٌ، أو خطأٌ؟ بينوا ذلك مبسوطًا مشروحًا.
وإذا كان في فتحها تغير قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، [وحصول الفتنة والفرقة بينهم] (٤)، وتغيرت قلوب أهل الصلاح والدين، وعموم الجند والمسلمين على ولاة الأمور؛ لأجل إظهار شعائر الكفر، وظهور عزهم وفرحهم وسرورهم بما يظهرونه وقت فتح الكنائس، من الشموع والجموع والأفراح وغير ذلك، وهذا فيه تغير قلوب المسلمين من الصالحين وغيرهم (٥)، حتى إنهم يدعون الله تعالى على من تسبب في ذلك، وأعان عليه.
فهل لأحد أن يشير على ولي الأمر بذلك؟ ومن أشار عليه بذلك هل يكون ناصحًا لولي أمر المسلمين أم غاشًّا له؟!
وأي الطرق هو الأفضل لولي الأمر -أيده الله تعالى- ولأوليائه من قمع أعدائه وإذلالهم؟ أو مطاوعتهم (٦)؟!
_________
(١) في المصرية: الأسراء وهو وجه في جمعها.
(٢) في الظاهرية: الأسرى المسلمين.
(٣) في المصرية: المساجد بدون أو التخيير.
(٤) ما بين المعكوفين زيادة من المطبوعة، وزدتها لما فيها من إيضاح وبيان، وإلا فجميع النسخ متفقة على عدم ذكر هذه العبارة.
(٥) لأن المسلم يتغير قلبه ويحزن لظهور المنكر وإعلانه، بل لوقوعه أولًا وهذا أقل ما يكون من المسلم الحقيقي لحديث أبي سعيد الخدري ﵁ أن النبي ﷺ قال [من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] والتغير بالقلب بكرهه وبغضه وهو متعين على الجميع إما باللسان واليد فهما لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا وأولاهم ولي الأمر ونائبه وأهل الحسبة.
(٦) في الظاهرية: أو مطاوعتهم عنهم في ذلك.
1 / 100
بينوا لنا ذلك، وابسطوا بسطًا شافيًا، مثابين مأجورين -إن شاء الله تعالى- وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن الصحابة المكرمين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، يا أرحم الراحمين (١) .
الرد على دعوى أن المسلمين ظلموهم بإغلاق كنائسهم:
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها فهذا كذبٌ مخالفٌ (٢) لأهل العلم (٣) . فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الأئمة، كسفيان الثوري (٤)، والأوزاعي (٥)، والليث بن سعد (٦)، وغيرهم، ومن قبلهم من
_________
(١) آمين واجعلنا معهم بجودك وإحسانك يا رب العالمين، وإن رغم أنف الرافضة وأذنابهم، والخوارج الناصبة وأذيالهم أعداء السنة والدين.
(٢) في المصرية: مخالف به لأهل العلم.
(٣) في المطبوعة مخالف لإجماع المسلمين.
(٤) الأئمة الأربعة معروفون وسفيان الثوري هو: أبو عبد الله سفيان بن سعيد الكوفي الجهبذ ولد سنة ٩١هـ ومات سنة ١٦١ هـ من كبار الأئمة الحفاظ كثير الشيوخ وروى عنه الجماعة فأكثروا الرواية عنه منهم جماعة حدث عنهم وحدثوا عنه،..... حافظ فقيه إمام حجة وأكثر العلماء الثناء عليه في علمه وورعه انظر النبلاء ٧/٢٢٩-٢٧٩، وطبقات ابن سعد ٦/٣٧١-٣٧٤، والتاريخ الكبير للبخاري ٤/٩٢-٩٣ وتهذيب الكمال ص ٥١٥.
(٥) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام ولد سنة ٨٨ هـ وتوفي سنة ١٥٧ هـ، أخرج له أصحاب الكتب الستة وأحمد " الجماعة " كان ﵀ من أفضل أهل زمانه وأعلمهم، وكان قذى في أعين المبتدعة القدرية انظر النبلاء ٧/١٠٧-١٣٤، طبقات ابن سعد ٧/٤٨٨، طبقات خليفة ٣٥١-٣١٦، المعرفة والتاريخ الفسوي ٢/٣٩٠-٣٩٧ وتهذيب الكمال ٨٠٨.
(٦) هو الإمام الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية، أخرج له الجماعة، وهو من كبار أئمة الحديث وأصحاب المدارس الفقهية ولد سنة ٩٤هـ وقال فيه الحافظ في التقريب، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور توفي سنة ١٧٥هـ وكان يومًا مشهودًا رفع الله درجاتهم في عليين. النبلاء ٨/١٣٦-١٦٣، الطبقات ٧/٥١٧، طبقات خليفة ص٢٩٦، تهذيب الكمال ١١٥٢، المعارف لابن قتيبة ٥٠٥ وما بعدها.
1 / 101
الصحابة والتابعين، متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة كأرض مصر والسواد (١) بالعراق، وبر الشام ونحو ذلك، مجتهدًا في ذلك، ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك (٢) ظلمًا منه؛ بل تجب طاعته في ذلك (٣) .
وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم، كانوا ناقضين العهد، وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم.
تكذيب دعوى وجود الكنائس بالقاهرة منذ عهد الخلفاء الراشدين:
وأما قولهم إن هذه الكنائس من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ وأن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها، فهذا أيضًا من الكذب. فإن من المعلوم المتواتر أن القاهرة (٤) بنيت بعد عمر بن الخطاب ﵁ بثلاثمائة سنة، بنيت بعد بغداد، وبعد البصرة والكوفة (٥) وواسط (٦) .
وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، مثل ما فتحه المسلمون صلحًا، وأبقوا لهم كنائسهم القديمة،
_________
(١) المقصود بأرض السواد الأرياف وأماكن الزراعة، وصارت علمًا على ما حول دجلة والفرات من أراضي الزراعة.
(٢) أي هدم كنائسهم بأرض العنوة مجتهدًا أو متبعًا.
(٣) وزادت المطبوعة [ومساعدته في ذلك ممن يرى ذلك] وفيها حصر وجوب مساعدة الإمام في هذا على من يرى، دون من لا يرى ذلك فلا تجب طاعته للإمام! فلاحظه.
(٤) القاهرة هي عاصمة مصر الآن.
(٥) الكوفة: بلد خُطت سنة ١٧ هـ قريبة من نهر الفرات في وسط العراق وشمال النجف مباشرة، وجنوب كربلاء انظر الأطلس التاريخي ص١١٣-١١٥.
(٦) واسط: مدينة وسط العراق على ضفاف أحد فروع دجلة في جنوب شرق بغداد، وشمال شرق سواد العراق انظر الأطلس التاريخي ص ١١٣.
1 / 102
بعد أن شرط عليهم فيه عمر بن الخطاب ﵁ أن لا يحدثوا كنيسة في أرض الصلح، فكيف في بلاد المسلمين؟!
بقاء الكنائس في مدائن الإسلام:
بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة، كالعراق ومصر ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة؛ لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسةٌ بعد عهد (١) . فإن في سنن أبي داود بإسنادٍ جيد عن ابن عباس ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال: "لا تصلح قبلتان بأرضٍ، ولا جزية
_________
(١) هكذا في جميع النسخ ولعل الأصح ما في المطبوعة: بغير عهد.
وهذا طرف مما جاء في هدم كنائس المشركين خصوصًا اليهود والنصارى، وغيرهم من باب أولى: فقد روى البيهقي بسنده ٢٠٢١٩ إلى ابن عباس ﵄ قال: صالح رسول الله ﷺ أهل نجران - يعني النصارى - على ألفي حلة وقال: على أن لا تهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثًا، أو يأكلوا الربا. وهذا معنى ما رواه عبد الرزاق في المصنف رقم (١٠٠٠٤) بسنده قال. قال عمرو بن ميمون: واستشارني عمر - يعني ابن عبد العزيز - في هدم كنائسهم - فقلت لا تهدم، هذا صولحوا عليه، فتركها عمر. والمقصود بها الكنائس التي صولحوا وهي قائمة بأيديهم، ليس ما أحدثوا بعد.
ولهذا قال عبد الرزاق (رقم ١٩٢٣٤، ١٠٠٠٢) أخبرنا ابن التيمي عن أبيه قال حدثني شيخ من أهل المدينة يقال له: حنش أبو علي أن عكرمة أخبره، قال: سئل ابن عباس: هل للمشركين أن يتخذوا الكنائس في أرض العرب؟ فقال: أما ما مصر المسلمون فلا ترفع فيه كنيسة، ولا بيعة، ولا صليب، ولا سنان، ولا ينفخ فيها ببوق، ولا يضرب ناقوس، ولا يدخل فيها خمر ولا خنزير.
وما كانت من أرض صولحوا صلحا، فعلى المسلمين أن يفوا لهم بصلحهم. وتفسير ما مصر المسلمون: ما كانت من أرضهم أو أخذوها عنوة.
وهذا بنحوه ما رواه البيهقي عنه في الكبرى ٩/ ٢٠٢ وفي آخره: أو أيما مصر اتخذه العجم فعلى العرب أن يفوا لهم بعهدهم فيه، ولا يكلفوهم ما لا طاقة لهم به. ورواه بنحوه أبو عبيدة في الأموال ص ٢٦٩. ومحصل هذا أن كنائسهم التي صولحوا عليها تبقى لهم بالشروط التي ذكرها ابن عباس وقبله عمر بن الخطاب ﵃ وستأتي في آخر الفتوى مفصلة.
أما ما أحدثوا بعد الصلح معهم - سواء على حين ضعف من المسلمين أو غرة منهم - فلا يجوز إقرارهم عليها؟ بل يجب هدمها وتأديبهم. رحم الله حالنا وضعفنا، وجبر مصيبتنا.
1 / 103