فلما أجبته قال: لا تؤاخذني فأنا لا أقرأ.
وسايرته حتى موقف سيارته في ميدان الأزهر، وهناك سألني: ماذا يدور في الدنيا؟
فذكرت من الأمور ما رأيته جديرا بالذكر، منوها بصفة خاصة بالثورة الجديدة فقال: هبوط صعود، موت بعث، مدني عسكري، فلتسر الدنيا في طريقها، أما أنا فإني أستعد لرحلة أخرى.
وغاب عني من جديد حتى قرأت نعيه عام 1957 على ما أذكر، وأطرف ما سمعت عنه بعد ذلك ما قيل من عثور ابن أخيه على مخطوط له لترجمة غاية في الجمال لديوان «أزهار الشر» لبودلير لم يعرف بالضبط تاريخ ترجمته، ولما كان ابن أخيه هو الوريث الوحيد له - توفيت زوجته في العام السابق لوفاته - فقد أذن بنشره، وهكذا بقي اسمه في المكتبة العربية مقرونا باسم بودلير على ديوان «أزهار الشر».
ولا خلاف في الرأي عن الدكتور إبراهيم عقل بين طلبته، فقد اعتبروه - بلا استثناء - مهرجا، ولكن ثمة مفكرا له وزنه مثل الأستاذ سالم جبر كان يراه ضحية لمجتمع فاسد، وإن لم يغفر له انهزاميته، وذات يوم قال لي أستاذي ماهر عبد الكريم بصوته الهامس: إنكم تظلمون إبراهيم عقل.
فلم أتكلم احتراما لعواطفه نحو صديقه، فقال: إنه عقلية فذة، وكان يبهرنا بذكائه، ونحن في السربون. فقلت: لم يفد أحد من ذكائه شيئا.
فقال متجاهلا تعليقي: وهو الوحيد في مصر الذي يتمتع بعقل فلسفي، بالنظرة الشاملة للأشياء.
ونظر إلي باسما ثم استطرد: لم يخلق كاتبا، ولكنه محدث موهوب، نوع من سقراط، خص أصدقاءه الحميمين بزبدة أفكاره، وطرح أيسر ما عنده على الناس.
فقلت له: لعله يحتاج إلى أفلاطون جديد؛ ليرد إليه اعتباره!
ولكنه اندثر فلم يبق منه إلا مأساة، وترجمة نادرة لأزهار الشر.
Unknown page