ومرة قال لي: أصاب أحيانا بذهول مرضي عندما أنظر حولي ، فأجد نفسي غريبا وسط نفر من الموظفين التعساء الجهلاء الخانعين المطيعين المتملقين المنافقين، الله يرحمك يا أبي، لم بددت مالك في القمار؟!
ولم يكن يوجد ما يدل على إسلامه إلا شهادة الميلاد، ولا يعرف من دينه إلا اسم «محمد»، ولم ألمس فيه اهتماما بقيمة من القيم وإن كان شجاعا كريما محافظا على كرامته، وكان مدخنا مجنونا وسكيرا عربيدا ومقامرا متهورا وأكولا متوحشا، وكنا نسير معا عادة عقب انصرافنا من الوزارة حتى محطة الترام الواقعة تحت مسكنه، فلا يكف عن الكلام دقيقة واحدة، وأتابعه أنا بالسمع والبصر، وكان ينتقد كل ما تقع عليه عيناه ويقارنه بنظيره في فرنسا أو إنجلترا: أتعجبك هذه المحال والدكاكين؟ إنها زنزانات سوقية. - انظر إلى قذارة الشوارع في قلب المدينة! سيأتي يوم يطالب فيه الذباب بحقوق المواطن! - ما رأيك في هؤلاء الغلمان الحفاة في شارع سليمان باشا؟! - انظر إلى هذا المنظر الفريد، الكارو والجمل والسيارة في قافلة واحدة، وتقولون الاستقلال التام أو الموت الزؤام؟! - أيعجبك حقا ذلك المقرئ المدعو علي محمود؟ رجل ضرير منفر المنظر يزعق كالأبله، قارن ذلك بقداس كاثوليكي تسبح في جوه الموسيقى الخالدة! - صدقني إن رجال السياسة الذين تعجب بهم لا يصلحون موظفين مبتدئين في سفارة أجنبية. - وملايين الفلاحين القذرين بأي منطق يستحقون الحياة؟ .. لماذا لا تستغنون عنهم بالآلات الزراعية الحديثة؟! - إن خير ما تمخضت عنه الحضارة المصرية هو الحشيش، ومع ذلك فما أقبحه بالمقارنة بالويسكي! - هل حقا تعجب بهؤلاء الكتاب والأدباء؟ .. صدقني إنهم أميون على المستوى العالمي. - اسمح لي أبول على جميع من تحبهم من زعماء وأدباء ومطربين. - أتعرف ما هي أكبر نعمة أغدقت علينا؟ .. هي الاستعمار الأوروبي، وسوف تحتفل الأجيال القادمة بذكراه كما تحتفلون بمولد النبي. - لا يغيظني شيء كما يغيظني ضربكم الأمثال بعدالة عمر ودهاء معاوية وعسكرية خالد، عمر شحاذ، ومعاوية دجال، وخالد فتوة درجة ثالثة لم يجد من يؤدبه. - المرأة المصرية هي المخلوق الوحيد الذي يستحق التقدير، فهي لبؤة، ويمكنها إذا منحت مزيدا من الحرية إسعاد هذا الشعب الذي يستحق الإبادة. - أليس الأفضل للإنسانية أن ينتشر الأوروبيون في الأرض وأن يبيدوا من عداهم من بني آدم؟!
لم يكن يقرر ذلك عن حقد، ولا عن رأي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، ولكن عن انفعال، ووسط ضحكات بريئة، ولو صادف بعد ذلك شخصا يتعصب لأوروبا لانقلب بنفس الحماس مدافعا عن الشرق، فهو معارض بطبعه، إن قلت حلوا قال مرا، وإن قلت مرا قال حلوا، مغتنما الفرص على الحالين للكلام. ولم أجد عنده أصالة في عواطفه إلا ما تعلق بكريمته، فهو يعبدها عبادة، يروي أحداثها التافهة كأنها ملاحم، ويستشهد بكلامها الفارغ كأنه جوامع الحكم، وينقل إلينا آراءها - التي ينسبها إليها كذبا وادعاء - فيما مر بالوطن من أحداث وحروب، منوها بذكائها المبكر الذي يكبر سنها بعشرات السنين. وكنت دائما أخاف أن يصطدم يوما بشخص قوي ومؤذ مثل عدلي المؤذن أو شرارة النحال، ولكن ضخامته أسبغت عليه مهابة فرضت على كبار الموظفين احترامه، وهو من ناحية أخرى - بعد تجاربه المؤسفة في السفارة الفرنسية والإذاعة والمقطم - تجنب أصحاب النفوذ ما وسعه ذلك. وكان يقول لي: لعن الله الأيام التي علمتنا احترام الأوغاد، الله يسامحك يا بنتي!
وقد دعوته إلى الفيشاوي وعرفته ببعض الأصدقاء مثل جعفر خليل ورضا حمادة وشعراوي الفحام، فأعجبه المكان وأحب الأشخاص، وفي جنازتي شعراوي وجعفر بكى كطفل، وبالرغم من مودتنا الحميمة فإنني لم أسلم من غضبه، فيوما كنت أقرأ الجريدة فاطلعت على صفحة مخصصة لذكرى سلامة حجازي، ونقلا عن كاتبها قلت للأستاذ عباس فوزي بسرور: هل تصدق أن فردي قال عن سلامة حجازي إنه لو كان ولد في إيطاليا لما كان له - فردي - شأن؟!
وإذا بالأستاذ عبد الرحمن يرمي بكتاب كان يقرؤه وصاح بي كبركان: ما هذا الكلام الفارغ! أتصدق أي كلام يتقوله هؤلاء الأوباش في الصحف؟ .. من هو سلامة حجازي؟ .. إن أي منادي سيارات فرنسي أعذب منه صوتا، ولكن هكذا أنتم أيها المصريون، لن تزالوا غارقين في أوهام الكلمات حتى تموتوا، كوكب الشرق ... مطرب الملوك والأمراء ... سلطانة الطرب ... عاهل التمثيل في الشرق ... لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا، ولم لا تتمنى أن تكون حمارا، فيكون لك نفع على الأقل، نيلة تاخدكم أنتم وبلدكم!
وفي عام 1950 زوج معبودته «كريمته» من موظف في البنك الأهلي، واحتفل بزواجها في الأوبرج، وسعد كما لم يسعد من قبل فسعدنا به، وبعد ذلك بعامين، وعلى التحديد في صباح يوم 27 يناير 1952 دخل علينا معاون الوزارة وقال: البقية في حياتكم في الأستاذ عبد الرحمن شعبان!
وفزعنا كأنما نسمع عن الموت لأول مرة. كان حتى أمس يتخذ مجلسه بيننا في الإدارة، وسرت معه حتى مسكنه في شوارع مكتظة بالمتظاهرين والمخربين، وألسنة النيران تشتعل هنا وهناك في المحال العمومية والملاهي والسينمات، وعلمنا في أثناء النهار ونحن نشيع جنازته أنه كان ساهرا في الترف كلوب مع بعض أصدقائه من الإنجليز حين هاجم المتظاهرون النادي فقتلوا من فيه، وقتل الرجل فيمن قتل، وانتهت حياته العجيبة.
عبد الوهاب إسماعيل
إنه اليوم أسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، وبالرغم من أنني لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية إلا أنني لم أرتح أبدا لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين، وقد عرفته في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم في أثناء الحرب العظمى الثانية، كان في الثلاثين من عمره، يعمل مدرسا للغة العربية في إحدى المدارس الثانوية، وينشر أحيانا فصولا في النقد في المجلات الأدبية أو قصائد من الشعر التقليدي. كان أزهريا، لا علم له بلغة أجنبية، ومع ذلك أثار اهتمامي واحترامي بقوة منطقه، وهو يناقش أشخاصا من المعروفين بثقافتهم الواسعة واطلاعهم العميق على اللغات الأجنبية مثل الدكتور إبراهيم عقل وسالم جبر وزهير كامل، وامتاز بهدوء الأعصاب وأدب الحديث فما احتد مرة أو انفعل ولا حاد عن الموضوعية، ولا بدا في مستوى دون مستوياتهم الرفيعة، فكأنه ند لهم بكل معنى الكلمة، فاقتنعت بحدة ذكائه ومقدرته الجدلية، واطلاعه الواسع رغم اعتماده الكلي على التراث والكتب المترجمة، ولم يداخلني شك في أنه أذكى من إبراهيم عقل وسالم جبر وزهير كامل جميعا، وحتى نقده للكتب العصرية لم يتسم بالهزال أو السطحية بالقياس إلى نقد المتخصصين من حملة المؤهلات الباريسية واللندنية، وإن كان ثمة فارق دقيق فلم يكن لينكشف إلا لعين العارف المدقق.
قال لي عنه يوما الدكتور ماهر عبد الكريم: إنه شاب موهوب ومن المؤسف أنه لم يرسل في بعثة.
Unknown page