فقال يزيد بن الوليد: ومن لهذا الأمر سواك يا ابن شهاب، وأنت اليوم مناط هذه الأمة في أمور دينها؟ ولقد كان عمر بن عبد العزيز ناصحا للمسلمين حين كتب إلى عماله في الآفاق يدعوهم إلى الأخذ بآرائك في الدين، ويقول لهم: إنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية من ابن شهاب؛ فمد الزهري يده إلى يزيد كالمتوسل إليه أن يكف عن هذا المديح، ثم قال: أرسل إلي الخليفة إبراهيم المخزومي بعد أن انفتلت من صلاة الغداة، فقال: إن أمير المؤمنين يدعوك إليه الساعة، فذهبت معه على تثاقل وكره، فلما حضرت مجلسه أقبل علي كاسف النفس حزينا، وكان ولداه مسلمة والعباس واقفين في خدمته، ثم قال: اقرب مني قليلا يا أبا بكر. فقربت وسادتي من وسادته، فاتجه إلي وقال: إني نظرت يا ابن شهاب في أمري، وأمر هذا الملك الذي أسوسه، والأمة التي أرعاها، فرأيت أني أسير إلى الفناء وثبا، وأعدو نحو الموت عدوا، فإن هذه الذبحة ما زالت تعتادني بين الحين والحين، وقد استطعت حتى الساعة أن أنجو منها بذلك الدواء الذي أتجرعه، ولكن نوباتها أخذت تتقارب وتطول، وأخشى أن أكون مائتا بعد أيام أو أشهر، وقد بذلت كل ما في قدرة رجل مثلي لإنهاض الدولة، وتمكين سلطانها، ولو كنت أعلم أن الذي يلي هذا الأمر من بعدي رجل حمال للأعباء، شديد على اللأواء، كامل الرجولة، طاهر النفس، نقي الجيب، يخاف ربه، ويخافه عدوه، لهان علي الأمر واستقبلت الموت سعيدا رضيا، ولكن الخلافة ستنتقل إلى ابن أخي الوليد، وهو - كما علمت، وعلم أهل الحضر والمدر - قد نسي نفسه، ونسي حسبه، وانصرف إلى جلساء السوء، فماذا يكون من أمر هذه الأمة إذا وليها هذا الفتى؟ وماذا يكون من أمر أطراف الدولة، والثورات فيها لا تنطفئ نيرانها، ولا يركد قتامها؟ وماذا يكون من أمر ملك بقي إلى اليوم أكثر من ثمانين عاما تؤثله جبابرة الأمويين بآرائهم وسيوفهم؟ لن يبقى من ذلك شيء، وستتمزق فلول بني أمية في البلاد حيارى مطاردين، يحسدون رعاة الإبل في الصحاري الجرد على ما هم فيه من رخاء ونعمة. لقد بذلت كل ما في وسع البشر لإصلاح هذا الرجل، فلم ألق نجحا؛ وكان من آخر أمري أن وليته الحج بالناس لأصلح من سيرته، وأغريه بتقوى الله إغراء، فكان منه ما علمت وعلم الناس، والآن وقد ضاقت بي الحيلة، أدعوك لتذهب إليه أنت ويزيد بن الوليد وابن عنبسة؛ لتبصروه بما يجب عليه إزاء الله، وإزاء الخلافة، وإزاء نفسه، ولتخبروه بأن صلاحه لن يكون له وحده، بل لهذه الأمة التي نخشى أن تذهب ضياعا، وتصبح نهبا مقسما، هذا يا أبا بكر آخر سهم في كنانتي، فإن أجاب وأطاع هدأت نفسي، وإلا فلله أمر هو فاعله، اذهب الآن مباركا موفقا، وقد أمرت يزيد بن الوليد وابن عنبسة أن ينتظراك لدى الباب.
وكأن طول الحديث قد أجهد الزهري، فأخذ يرسل أنفاسا قصارا متلاحقة، ثم قال وهو ينظر إلى السلمي: وهكذا جئنا أبا مساحق لنروض هذا المهر الحرون؛ حتى يسلس قياده، وإني أرى في ملامحك ما يدل على الاستنكار والمخالفة، فهل لديك من شيء يقال؟ - لقد أطلتم الحديث، وسلكتم فيه فنونا، ولكنكم اتجهتم اتجاها واحدا، ونظرتم إلى الرجل من ناحية واحدة، فصورتموه كما شاءت نفوسكم لاهيا مرحا، تسلب من صفات الرجولة، وقطع كل صلة بينه وبين الخلق الكريم، وهذا تصوير مائن أيها البررة الأتقياء، إني خالطت الوليد منذ كان غلاما في الحادية عشرة، وهو الآن يجاوز الثلاثين، خالطته خلاط معاشرة واختبار، وسبرت غور نفسه، وعرفت ظاهر أمره وباطنه، فرأيت أنه سر آبائه جميعا، ففيه دهاء مروان بن الحكم وشغفه بالانتقام، وفيه تيه عبد الملك وكبرياؤه، وصدق عزيمته، وفيه عناد أبيه، وضعف نفسه، ثم إن به عرقا من أخواله بني هاشم أمده بالبلاغة، وإجادة الشعر، وذلل له سبيل التمكن من اللغة، ومعرفة الأخبار ، إنه ابن آبائه حقا، ورثهم في الجاه والمال والخلافة، كما ورثهم في الجبلة والخلق، وفيما يزين وفيما يشين، إنه حقيبة من وراثات مختلفة متباينة: فيها الخير، وفيها الشر، وفيها ما يسوء، وفيها ما يسر، وأشهد إني ما رأيته يقرأ القرآن، أو يدرس أحاديث النبي الكريم إلا متطهرا متطيبا جالسا على ركبتيه في خشوع ورهبة، وأشهد أنه طالما حدثني عن نفسه، وما ينساق إليه من هفوات الشباب، والدموع تنهمر من عينيه، والحزن يملأ جوانب نفسه، وكثيرا ما كان يقول وهو في تلك الحال: وماذا أفعل وقد خلقت ريشة في مهب الأهواء، وقصبة جوفاء في بحر مائج بالفتنة والإغراء؟ ثم يرفع رأسه إلى السماء في رعب وضراعة وهو يردد: اللهم إنك إنما سميت الغفور لأنك تغفر لمثلي. وسمعته مرة وقد اجتمع بفتية من بني أمية وهو يقول لهم: يا بني أمية، إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، ويثور ثورة الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء رقية الشيطان، إني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة، وأشهى إلي من الماء البارد إلى ذي الغلة، ولكن الحق أحق أن يقال.
فأسرع ابن عنبسة يقول: أخشى يا أبا مساحق إذا طال بنا المجلس أن تزعم أن صاحبك من الملائكة الأطهار. - لا يا ابن أخي، إنه ليس من الملائكة الأطهار، إنه قد يكون أحيانا عبد نفسه، إذا جمحت به أرخى لها العنان، وتركها تسير به إلى حيث تريد، ولكني أقول: إنه رجل له جانبان: جانب للخير، يظهر فيه نبله، وكرم عنصره، وطهارة عرقه، وجانب للشر يرحل فيه العقل، وتنحل العزيمة، ويختفي الوليد الشريف الكريم، ويأتي الوليد الظريف المرح، وربما كان في انقياده إلى وازع نفسه لا يزيد عن أمثاله من الفتيان الذين خلقوا على غرار فطرته، ولكن الوليد أضاف إلى ما فيه من ضعف العزيمة ما طبع عليه من العناد، والتحدي، والتباهي بازدراء آراء الناس، وعدم المبالاة بلوم اللائمين، فلم يراء كما يراءون، ولم يخف الرقباء كما يخافون، بل قال ما يقول في علانية وسخرية، وكشف ذات نفسه لأعدائه وأصدقائه في غير خوف أو حذر، ومما أكثر فيه القالة شغف الناس بالأقاصيص، وغرائب الأخبار، فهم إذا نقل إليهم كاذب أنه شرب كأسا لم يرقهم أن ينقلوا الخبر كما هو، وأي طرافة في أن يشرب شاب كأسا محرمة بعد أن فسد الزمان؟ فراحوا يقولون: إنه شرب باطيتين حتى انتفخ بطنه، وهنا ابتدره ابن عنبسة فقال: إن الناس لا ينقلون إلا ما يسمعون من غلمان القصر وجواريه، وقد بلغني أنه اصطنع بركة في هذا القصر، وملأها خمرا، وأنه إذا استخفه الطرب ألقى فيها نفسه، وأخذ يكرع؛ حتى يبين النقص في أطرافها. - هذا اختلاق مائن، وإفك كاذب، فالوليد أبغض الناس للقذر، أو ما فيه احتمال القذر، وهو لحرصه على النظافة لا يشرب من إناء شرب منه غيره، ثم كيف يستساغ في العقل أن يشرب من البركة حتى يظهر النقص فيها؟ إنه لو فعل لكان اليوم من الهالكين، واسترحنا من الجدل في شأنه؛ وهذه الفرية البلقاء لا تقل في بشاعة كذبها عما يتناقله الناس من أنه أراد يوما أن يتفاءل، ففتح القرآن، فكانت أول آية تقع تحت عينيه قوله تعالى:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . فقد قالوا إنه غضب عند ذلك وعربد، ومزق المصحف، وقال:
أتوعد كل جبار عنيد؟
فها أنا ذاك جبار عنيد!
إذا ما جئت ربك يوم الحشر
فقل يا رب مزقني الوليد
ويكفي لتفنيد هذا الهراء أني أعلم، وأنكم تعلمون أن العرب على ولوعها بالتفاؤل لا تتفاءل بالمصاحف، ولا بما يدون في الكتب، فإن ذلك لم يكن من عاداتها منذ خلق الله الصحراء والجمل.
وأكبر الظن عندي أن هناك ثلاث طوائف تعمل على الكيد لبني أمية كلهم لا للوليد وحده، وأنها تبذل الجهد ناشطة لإسقاط الدولة ومحو آثارها، وهذه الطوائف هي: طائفة الناقمين من غير العرب بعد أن أذلهم بني أمية، وقضوا على عزمهم ومجدهم، وأنزلوهم بدار الهوان والإتعاس، وطائفة بني العباس الذين يدعون «لمحمد بن علي»، والذين ربضوا بخراسان متربصين، يتحينون الفرصة للوثبة، وينشرون جواسيسهم وعمالهم في البلاد؛ ليبثوا في الناس كراهية الخلافة ورجال الدولة، ويذيعوا عنهم خروجهم عن الدين، واحتجانهم الأموال وتبديدها في اللهو والنعيم، وهناك شيعة علي بن أبي طالب الذين يجتذبون الناس بزهدهم، ويستدرون عطفهم بما أوقع بهم بنو أمية من القتل والتشريد، هؤلاء جميعا يعملون كادحين لإسقاط عرش الأمويين، وقد وجدوا في الوليد منبعا فياضا لإشاعة الأكاذيب، وابتداع الأخاليق، وراحوا يهولون من كل ما يبدو منه من لهو، فإذا لم يصدر عنه شيء رسم خيالهم أبشع الصور، ولفق لهم أسوأ الأحاديث، وهنا التفت إليه الزهري وقال: عجيب أمرك يا ابن مساحق، تعترف بعبث صاحبك، ثم تدفع عنه، وحينما ترى أن حجتك لا تنهض بجناح تحاول أن تنقل الأمر من الوليد إلى بني أمية عامة، ثم ما يحيط بهم من أحداث وأعداء. - لا يا أبا بكر إنني إنما أنكر على الناس تعصبهم عليه، وتألبهم للكيد له، وأخشى أن يكون من أسباب ذلك أنه ولي العهد، وأنه يسد الطريق على أبناء هشام، ولعله لو تخلى عن هذه الولاية لارتدت عنه سهامهم، ولعاش كما يعيش غيره، ولسكتت عنه ألسن السوء.
Unknown page