ففي كل أمة، وفي كل عصر، تختلف المرأة والرجل في الكفاية والقدرة على جملة الأعمال الإنسانية، ومنها أعمال قامت بها المرأة طويلا، أو انفردت بالقيام بها دون الرجال.
ومن قصور الفكر عند الداعين إلى قيام المرأة بجميع أعمال الرجل في الحياة العامة والخاصة، أن يقال: إن المرأة إنما تخلفت في الكفاية والقدرة بفعل الرجل ونتيجة لأثرته واستبداده وتسخيره المرأة في خدمة مطالبه وأهوائه.
فإن هذا القول يثبت رجحان الرجل ولا ينفيه، فما كان للرجال جملة أن يسخروا النساء جملة في جميع العصور وجميع الأمم لولا رجحانهم عليهن، وزيادتهم بالمزية التي يستطاع بها التسخير، ولو كانت مزية القوة البدنية دون غيرها. •••
ومما يلاحظ أن أكثر القائلين بدعوة المرأة إلى القيام بعمل الرجل، جماعة الماديين الذين يردون كل قوة في الإنسان إلى قوة البنية المادية، فإذا قيل: إن قوة الجسد هي مزية الرجل على المرأة، فليست هناك قوة أخرى تحسب في باب المفاضلة بين الجنسين.
على أن الواقع أن الكفاية التي تمكن الإنسان من الغلبة على سائر الناس لم تكن قط من قبيل القوة الجسدية دون سائر القوى الإنسانية، وكثيرا ما كان المتغلبون المتسلطون على من دونهم أضعف جسدا من الخاضعين لهم، العاملين في خدمتهم. وكثيرا ما كانت قوة الحكم بمعزلة عن قوة الأعضاء، وصلابة التركيب. وأيا كان القول في هذا فإن الجنس لا يمتاز في جملته بقوة الجسد دون أن يرجع ذلك إلى فضل في التكوين يوجب الامتياز والرجحان.
وإذا نظرنا إلى سوابق التسخير في تاريخ الإنسان، تبين لنا أنه كان نصيبا عاما لجميع الضعفاء الخاضعين للأقوياء المسلطين عليهم، وكان نصيبا عاما على الأقل لطوائف العبيد الذين خضعوا للأقوياء والضعفاء، ممن كانوا يسمون بالأحرار تمييزا لهم عن الأرقاء المستعبدين، وقد نبغ من هؤلاء الأرقاء المستعبدين زمرة من الأدباء وأصحاب الفنون، كما نبغ منهم «سادة» يزاحمون الأحرار على أعمال الرئاسة والقيادة، وينتزعون الحكم وهم غرباء عن البلاد التي يحكمونها. وهم في عددهم قلة ضئيلة، بالقياس إلى عدد النساء من الحرائر والإماء، وهن نصف الجنس الإنساني أو يزدن قليلا على حسب الإحصاء. •••
وفضل الرجال على النساء ظاهر في الأعمال التي انفردت بها المرأة، وكان نصيبها منها أوفى وأقدم من نصيب الرجال. وليس هو بالفضل المقصور على الأعمال التي يمكن أن يقال: إنها قد حجبت عنها، وحيل بينها وبين المرانة عليها، ومنها الطهي والتطريز والزينة وبكاء الموتى وملكة اللهو والفكاهة التي اقترنت فيها السخرية بالتسخير، عند كثير من المضطهدين أفرادا وجماعات.
فالمرأة تشتغل بإعداد الطعام منذ طبخ الناس طعاما قبل فجر التاريخ، وتتعلمه منذ طفولتها في مساكن الأسرة والقبيلة، وتحب الطعام وتشتهيه، وتتطلب مشتهياته وتوابله في أشهر الحمل خاصة، كما تتطلب المزيد منه في أيام الرضاع، ولكنها - بعد توارث هذه الصناعة آلاف السنين - لا تبلغ فيها مبلغ الرجل الذي يتفرغ لها بضع سنوات، ولا تجاريه في إجادة الأصناف المعروفة، ولا في ابتداع الأصناف والافتنان في تنويعها وتحسينها، ولا تقدر على إدارة مطبخ يتعدد العاملون فيه من بنات جنسها أو من الرجال.
وصناعة التطريز وعمل الملابس - كصناعة الطهي - من صناعات النساء القديمة في البيوت، ولكنها تعول على الرجال في أزيائها، ولا تعول فيها على نفسها، وتفضل معاهد «التفصيل» التي يتولاها الرجال على المعاهد التي يتولاها بنات جنسها، وكذلك تفضل معاهدهم على معاهد النساء في أعمال التجميل والزينة عامة ... ومنها تصفيف الشعر وتسريحه واختيار الأشكال المستحبة لتضفيره وتجميعه. وقد عنيت المرأة بألوان الطلاء منذ عرفت الزينة والتحلية الصناعية، ولكنها لم تحسن من هذه الصناعة ما أحسنه الرجل في سنوات قصار، حين اشتغل بتغيير الملامح لتمثيل الأدوار على المسرح، أو حين اشتغل بتغيير الملامح للتنكر والاستطلاع، وقد كان هذا التفوق في صناعة «التفكر» أولى بالمرأة لطول عهدها بفنون المداراة والحجاب. •••
وتنوح المرأة على موتاها، وتتخذ النواح على الموتى صناعة لها في غير مآتمها، ولم تؤثر عن النساء قط في لغة من اللغات مرثاة تضارع المراثي التي نظمها الرجال، ولا تظهر في «مراثيهن» مسحة شخصية تترجم عن النفس وراء الكلمات والمرددات المتواترة التي تقال في كل مأتم، وفي كل وفاة، وتنقل محفوظة كما تنقل مرتجلة من نظم قائلتها في فجيعتها التي تعنيها ولا تعني غيرها، كأنها الأصوات التي تترجم عن غرائز الأحياء على نحو واحد في الحزن والألم أو في الشوق والحنين.
Unknown page