فلما شاهدها زوس، تذكر حياتهما الخالية من الآثام، ومسلكها المجيد، فأمر الرياح الشمالية أن تقشع السحب وتكشف السماء للأرض، والأرض للسماء، كما حث رب البحر أحد أعوانه أن ينفخ في بوقه الصدفي ويأمر المياه أن تنحسر، فأطاعت المياه أمره، وعاد البحر إلى شواطئه، والأنهار إلى مجاريها.
عندئذ خاطب ديوكاليون زوجته بورا قائلا: «أيتها الزوجة، أيتها المرأة الوحيدة القائمة فوق الأرض، لقد جمعني بك في بادئ الأمر رباط القرابة والزيجة، والآن يجمعني بك هذا الخطر الجسيم، يا ليت لنا قوة جدنا بروميثيوس، فنستطيع أن نجدد الجنس البشري كما خلقه هو أولا.
هلمي إذن نسع إلى هذا المعبد القائم هناك، ونسأل الآلهة ماذا يمكننا فعله في هذا الصدد.»
ولج ديوكاليون وزوجته باب المعبد، وكان ملطخا بالأوحال، وتقدما من المذبح، ولم تكن هناك نار مستعرة، فانبطحا أرضا وراحا يصليان بدموع حارة لربة المعبد، لعلها تطلعهما على سبيل الخلاص من الصعاب التي أمامهما.
أجابت الربة على سؤالهما وقالت: «فلترحلا من المعبد برأسين متدثرين، وحلل مفككة، ولتلقيا خلفكما برفات أمكما.»
أثارت كلمات الربة دهشة ديوكاليون وزوجته.
فقالت بورا: «أظن ما أمرتنا به الربة متعذر التنفيذ؛ إذ كيف نجرؤ على إلحاق الدنس برفات آبائنا؟»
ثم أخذا يبحثان عن أ كثر مناطق الغابة ظلا، وهما يرددان في أذهانهما كلمات الربة، وأخيرا قال ديوكاليون: «هناك أحد أمرين، إما أن ذكائي يخونني، وإما أن الأمر لا بد لنا من طاعته دون أن يتطرق الكفر وعدم الإيمان إلى نفسينا إن الأرض هي أم الجميع، والأحجار عظامها، فيمكننا أن نلقي بها خلف ظهورنا، وأظن أن هذا هو ما تعنيه الربة، وعلى أية حال، فلو حاولنا ذلك لما أصابنا مكروه.»
حجب ديوكاليون وبورا وجهيهما، وجردا جسدهما من الملابس وأخذا يلتقطان الأحجار ويلقيانها خلف ظهريهما، فأخذت الأحجار للعجب تنمو وتتخذ لنفسها أشكالا، وتصبح رويدا رويدا ذات هياكل بشرية، كما لو كانت كتلا خشبية في يد نحات لم ينته من تشكيلها وإتمامها، وصارت الأجزاء الطينية لحما وشحما، أما الأجزاء الحجرية فصارت عظاما، وظلت الفروق كما هي، أي إنها احتفظت بالاسم دون الوظيفة، وانقلبت الأحجار التي ألقاها ديوكاليون رجالا والتي ألقتها بورا نساء، وكان جيلا جديدا قويا، قادرا على القيام بجلائل الأعمال، كما نعطي اليوم عن أنفسنا دلالة صارخة عما كان عليه منبتنا وأصلنا!
هذه هي الأسطورة الإغريقية في شيء من الإسهاب والتفصيل وهي تروي الدور الذي لعبته المرأة في بدء الخليقة، فالمرأة الأولى التي خلقت من الطين والماء، والتي أطلقوا عليها اسم باندورا، فضلا عن كونها مصدر جميع الشرور والآثام التي ملأت الأرض والبحر، فإنها كانت أيضا حواء أجيال من البشر أغضبوا الآلهة، فلم يجد زوس بدا من القضاء على نسلها، فلجأ إلى الطوفان يبيد به جميع البشر.
Unknown page