(زحل والمريخ والنار والماء والشهوة والغضب): فان هذه أمور لو لم تكن لبطل بسبب فقدها خير كثير ولا يمكن خلقها إلا ويلزم منها شر قليل وعلم أن ذلك مما يلزم منه مرضى به فالخير مقضى به بالذات والشر مقضى به بالعرض ومرضى بالعرض وكل بقدر* فان قيل كان ينبغى أن يخلق بحيث يكون خيرا محضا فيقال معنى هذا السؤال أنه كان ينبغى أن لا يخلق هذا القسم لأن القسم الذى هو خير محض فقد وجد وبقى فى الامكان ما لا يتمحض خيره ولكن يكثر خيره ويقل شره وكان الخير فى وجوده لا فى عدمه فلو لم يكن كذلك لم يكن هذا القسم فمعنى السؤال أن النار ينبغى أن يخلق بحيث لا يكون نارا وزحل بحيث لا يكون زحلا وهو محال فان قيل فلم قلتم إن الشر قليل قلنا لأن الشر عبارة عن الهلاك والنقصان ومعناه عدم ذات أو عدم صفة ذات هو كمال بالذات وهذا يستحيل فى حق الملك والفلك كما سبق ولا يوجد هذا إلا من حيث توجد الصور المتضادة وهى العناصر إذ يعدم بعض الصور بعضا لتضادها لا محالة فلا يكون ذلك إلا فى الأرض ولو كان الشر عاما فى كل الأرض لكان قليلا إذ كل الأرض قليلا بالاضافة إلى الوجود فكيف والسلامة غالبة وإنما توجد هذه الشرور فى حق الحيوانات وهى أقل ما فى الأرض ثم لا يوجد إلا فى أقل الحيوانات إذ أكثرها يسلم والذى لا يسلم فانه فى أكثر أحواله يسلم وإنما يتغير فى بعض الأحوال أو فى بعض الصفات لا فى الكل فلا يخفى أنه نادر بالاضافة إلى الخير* وعلى الجملة فكل هذا لا يرجع إلا إلى فساد أحوال الذات والخوف من عدم الذوات حيث يتصور الخوف أشد من الخوف من عدم الصفات فالشر هو عدم وإدراك العدم هو الألم والخير هو الكمال وإدراكه هو اللذة فقد اتضح كيفية صدور هذه الموجودات من الأول وكيفية ترتبها وكيفية دخول الشر فيها وكيفية دخوله تحت القضاء والقدر وإنما منع من ذكر سر القدر لأنه يوهم عند العوام عجزا فان الصواب فى أن يلقى اليهم أن الأول قادر على كل شىء ليوجب ذلك تعظيما فى صدورهم فلو فصل وقيل لا بل هو قادر على كل ممكن وقسمت الأمور إلى ممكنة وغير ممكنة وقيل إن خلق النار بحيث يطبخ به الطبيخ ويذاب به الجوهر ولكنه لا يحرق حطب الفقير إذا وقع فى داره غير ممكن لظنوا أن ذلك عجز بل لو قيل لبعضهم أنه لا يقدر على خلق مثل نفسه ولا على الجمع بين السواد والبياض لظن ذلك عجزا فهذا هو سر القدر على ما قيل والله أعلم بالصواب.
~~(الطبيعيات) بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثالث (الفن الثالث فى الطبيعيات)
قد ذكرنا أن الموجود ينقسم إلى جوهر وعرض والعرض ينقسم إلى ما يفهم من غير إضافه إلى الغير كالكمية والكيفية وإلى ما لا يفهم إلا بالاضافة وهو متفرع على الجوهر والكيفية والكمية وأن العلم بالجوهر والعرض وأحكام الوجود من الالهيات وأن التقسيم ينزل منه إلى الكمية التى هى موضوع الرياضيات وإلى ما يتعلق بالمواد تعلقا لا يقبل التجريد عنها فى الوهم والوجود وهو موضوع نظر الطبيعيات فانه يرجع إلى النظر فى جسم العالم من حيث وقوعه فى التغير والحركة والسكون فينحصر مقصوده فى أربع مقالات.
(واحدة): فيما يلحق سائر الأجسام وهى أعم أمورها كالصورة والهيولى والحركة والمكان.
(والثانية): فيما هو أخص منه وهو نظر فى حكم البسيط من الأجسام.
(والثالثة): النظر فى المركبات والمتزجات.
(والرابعة): النظر في النفس النباتى والحيوان والانسانى وبها يتم الغرض.
(المقالة الأولى): فيما يعم سائر الأجسام وهى أربعة الصورة والهيولى إذ لا ينفك عنهما جسم وقد ذكرناهما والحركة والمكان فلا بد الآن من ذكرهما.
(القول فى الحركة): ولا بد من بيان حقيقتها وبيان أقسامها* أما الحقيقة فالمشهور أن الحركة تطلق على الانتقال من مكان إلى مكان فقط ولكن صارت باصطلاح القوم عبارة عن معنى أعم منه وهو السلوك من صفة إلى صفة أخرى تصيرا اليه على التدريج* وبيانه أن كل ما هو بالقوة وأمكن أن يصير بالفعل ينقسم إلى ما يصير بالفعل دفعة واحدة كالأبيض يسود دفعة وكالمظلم يستنير دفعة استنارة مستقرة واقفة لا تزيد وإلى ما يصير بالفعل تدريجا فيكون له بين القوة المحضة وبين الفعل المحض سلوك ويتدرج فى الخروج من القوة إلى الفعل ولا يكون هو محض القوة لأنه ابتدأ فى الخروج منها ولا محض الفعل فانه لم ينته بعد إلى الحد الذى هو المقصود واليه التوجه كالمظلم مثلا وقت الصبح يستنير تدريجا فلا يكون نيرا بالقوة المحضة إذا ابتدأ بالوجود ولا يكون بالفعل المحض لأن الحد الذى هو المقصود بالحصول لم يحصل وكذلك إذا ابتدأ الجسم بالاسوداد مفارقا للبياض فما دام سالكا بين البياض والسواد يسمى متحركا أى متغيرا على التدريج والانتقال من حال إلى حال إنما يقع فى المقولات العشر لا محالة.
(قسمة أولى للحركة) ولا تقع الحركة من جملتها إلا فى أربعة.
Unknown page