Maqam Ibrahim - part of 'Athar Al-Mu'allami'
مقام إبراهيم - ضمن «آثار المعلمي»
Investigator
محمد عزير شمس
Publisher
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٤ هـ
Genres
الرسالة الرابعة عشرة
مقام إبراهيم
16 / 435
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أحاط بكلّ شيءٍ علمًا، وأتقن كلَّ شيءٍ خلقًا وأمرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد، فهذه رسالة في شأن "مقام إبراهيم"، وما الذي ينبغي أن يُعمَل به عند توسعة المطاف؛ حاولتُ فيها تنقيحَ الأدلّة ودلالتها على وجه التحقيق، معتمدًا على ما أرجوه من توفيق الله ــ تبارك اسمُه ــ لي، وإن قلَّ علمي، وكلَّ فَهمي.
فما كان فيها من صواب فمن فضل الله عليَّ وعلى النّاس، وما كان فيها من خطأ فمنّي، وأسأل الله التوفيق والمغفرة.
قال الله ﵎ في سورة البقرة (الآية ١٢٥): ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾.
وقال سبحانه في سورة الحج (الآية ٢٦): ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾.
جاء عن جماعة من السلف تفسير "التطهير" في الآيتين بالتطهير من الشرك والأوثان.
16 / 437
وهذا من باب ذكر الأهمّ الذي يقتضيه السبب؛ فإنّ إخلال المُشركين بتطهير البيت كان بشركهم ونَصْبِهم الأوثانَ عنده.
ولا ريبَ أنّ التطهير من ذلك هو الأهمّ، لكنّ "التطهير" المأمور به أعمّ.
أخرج ابن أبي حاتم (^١) عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا: "من الأوثان والريب، وقول الزور والرّجس". ذكره ابن كثير وغيره (^٢).
وقال البغوي (^٣): قال ابن جبير وعطاء: "طهِّراه من الأوثان والريب وقول الزُّور".
وأخرج ابن جرير (^٤) عن عُبيد بن عُمير قال: "من الآفات والريب".
* * * *
_________
(^١) في "تفسيره" (١/ ٢٢٧).
(^٢) "تفسير ابن كثير" (١/ ٦١٣) و"الدر المنثور" (١/ ٦٣٣).
(^٣) في "معالم التنزيل" (١/ ١١٤).
(^٤) في "تفسيره" (٢/ ٥٣٢، ٥٣٣).
16 / 438
أقام إبراهيم وإسماعيل ــ ﵉ ــ البيتَ على الطهارة بأوفى معانيها؛ فالأمر بتطهيره أمرٌ بالمحافظة على طهارته، وأن يُمنَع ويُزال عنه كلُّ ما يخالفها.
وقوله: ﴿لِلطَّائِفِينَ ...﴾ الآية، يدلُّ على أنّه مع أنّ التطهير مأمورٌ به لحرمة البيت، فهو مأمورٌ به لأجل هذه الفِرَق ــ الطائفين والعاكفين والقائمين والرُّكع السجود ــ لتؤدِّي هذه العباداتِ على الوجه المطلوب.
وهذا يبيّن أن "التطهير" المأمورَ به لا يَخُصُّ الكعبة، بل يَعُمُّ ما حواليها، حيث تُؤدَّى هذه العبادات، وأنّ في معنى التطهير إزالةَ كلِّ ما يمنع من أداء هذه العبادات، أو يُعسِّرها، أو يُخِلُّ بها، كأن يكون في موقع الطواف ما يَعُوق عنه؛ من حجارةٍ أو شوكٍ أو حُفَر.
فثبت الأمر بأن يُهيَّأَ ما حول البيت تهيئةً تمكِّن الطائفين والعاكفين والمصلِّين من أداء هذه العبادات بدون خلل ولا حرج.
لم يُحدّد الشارع ما أمر بتهيئته حول البيت بمقدارٍ مسمًّى، لكن لمّا أمر بالتهيئة لهذه الفرق على الإطلاق عُلِم أنّ المأمور به تهيئةُ ما يكفيها ويتّسع لهذه العبادات مع اليُسر.
فلمّا كان المسلمون قليلًا في عهد النبي ﷺ، كان يكفيهم المسجد القديم.
نعم كثُر الحُجّاج في حجّة الوداع، لكن لم يكن منتظرًا أن يكثروا تلك الكثرة، أو ما يقرب منها في السنوات التي تليها، وكانت بيوت قريش ملاصقةً للمسجد، لا تمكن توسعته إلا بهدمها، وهدمُها يُنفِّرهم، وعهدهم
16 / 439
بالشرك قريب.
فلمّا كثروا في زمن عمر ﵁، وزال المانع؛ هدم الدُّور، وزاد في المسجد، وهكذا زاد مَن بعده من الخلفاء بحسب كثرة المسلمين في أزمنتهم.
وادَّخر الله تعالى الزيادة العظمى لصاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، أيّده الله، وأوزعَه شكر نِعَمِه، وزادَه من فضله.
* * * *
16 / 440
قدّم الله تعالى في الآيتين "الطّائفين" على "العاكفين" و"المصلين"، والتقديم في الذكر يُشعِر بالتقديم في الحكم، فقد بدأ النبي ﷺ في السعي بالصفا، وقال: "نبدأ بما بدأ الله به" (^١)، وبدأ في الوضوء بالوجه.
فيؤخذ من هذا أنّ التهيئة للطائفين أهمّ من التهيئة للعاكفين والمُصلّين.
فعلى هذا يُقَدّم الطائفون عند التعارض، ولا يكون تعارضٌ عند إقامة الصلاة المفروضة جماعةً مع الإمام؛ لأنّ الواجب عليهم جميعًا الدخولُ فيها، وإنّما يمكن التعارضُ بين الطائفين وبين العاكفين والمصلّين تطوّعًا.
وإذْ كان المسجد ــ بحمد الله ــ واسعًا، وسيزداد سعةً، فإنّما يقع التعارض في المطاف، كما إذا كثُر الطائفون، وكان في المطاف عاكفون ومصلّون تطوّعًا، وضاق المطاف عن أن يسعَهم جميعًا بدون حرجٍ ولا خلل.
فإن قُدِّم بقرب البيت العاكفون والمصلّون، وقيل للطائفين: طوفوا من ورائهم، كان هذا تأخيرًا لمن قدّمه الله، ولزم منه (^٢) الحرج على الطائفين، لطول المسافة عليهم، مع أنّ الطواف يكون فرضًا في الحجّ والعمرة، وإذا خرج العاكفون والمصلّون عن المطاف، وأدّوا عبادتهم في موضع آخر من المسجد، زال الحرجُ والخللُ البتّة.
* * * *
_________
(^١) أخرجه مسلم (١٢١٨) ضمن حديث جابر الطويل.
(^٢) ط: "فيه"، والتصويب من المخطوطة.
16 / 441
منذ بعث الله تعالى نبيّنا محمدًا ﷺ لم يزل عدد المسلمين يزداد عامًا فعامًا، وبذلك يزداد الحُجّاج والعُمّار، ومع ذلك فقد توفّرت في هذا العصر أسبابٌ زاد لأجلها عدد الحجّاج والعمّار زيادةً عظيمة.
منها: حدوث وسائط النقل الأمينة السريعة المريحة.
ومنها: الأمن والرّخاء الّلذان لا عهدَ لهذه البلاد بهما، ولذلك زاد عدد السّكان والمقيمين زيادةً لا عهدَ بها.
ومنها: الأعمال العظيمة التي قامت وتقوم بها الحكومة السعودية لمصلحة الحجّاج، بما فيها تعبيد الطُّرق، وتوفير وسائط النقل، والعمارات المريحة، كمدينة الحُجّاج بجُدّة، والمظلاّت بمنًى ومزدلفة وعرفة، وتوفير المياه، وكلّ ما يحتاج إليه الحجّاج في كلّ مكان، وإقامة المستشفيات العديدة، والمَحْجَر الصحي الذي قضت به الحكومة السعودية على ما كانت بعض الدول تتعلّل به لمنع رعاياها عن الحجّ أو تصعيبه عليهم، والعمارة العظمى للمسجد النبوي، والتوسعة الكبرى الجارية الآن (^١) للمسجد الحرام، وغيرُ ذلك ممّا زاد في رغبة المسلمين من جميع البلاد في الحجّ.
فزاد عدد الحجّاج في السنين الماضية، ويُنتظَر استمرار الزيادة عامًا فعامًا، لذلك أصبح المسجد ــ على سعته ــ يضيق بالمصلّين في كثيرٍ من أيّام الجُمَع في غير موسم الحجّ، فما الظنُّ به فيه؟
فوفّق الله تعالى جلالة الملك المعظّم سعود بن عبد العزيز ــ أطال الله عمره في صالح الأعمال ــ لتوسعته، والعمل فيه جارٍ.
_________
(^١) محرم سنة ١٣٧٨ هـ[المؤلف].
16 / 442
وأشدُّ ما يقع الزّحام في الموسم: في المطاف، وتنشأ عن ذلك مضارُّ تلحقُ الأقوياءَ، فضلًا عن الضعفاء والنساء، ويقع الخلل في هذه العبادة الشريفة ــ وهي الطواف ــ؛ لزوال ما يُطلَب فيه من الخشوع والخضوع والتذلُّل، وصدق التوجّه إلى الله ﷿؛ إذ يهتمُّ كلُّ من وقع في الزّحام بنفسه.
وقد يكون مع الرجل القويّ ــ أو الرجلين ــ ضعيفٌ أو امرأة أو أكثر فيحاول القويّ أن يدفع الزّحام عن نفسه وعمّن معه، فيدفع من بجنبه وأمامه ليشقّ له ولمن معه طريقًا على أيّ حالٍ، فيؤذي بعضهم بعضًا، وربّما وقع النزاع والخصام والضرب والشتم، ويقع زحام الرّجال للنساء، وقد قال النبي ﷺ: "إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" (^١)، وقد رأينا من النّاس من يُسِيء بغيره الظنّ، وربّما أدّى ذلك إلى الإيذاء بالدّفع والشّتم، وربّما بالضرب.
ومن المعلوم أنّ صحة الطواف لا تتوقّف على أدائه في المطاف، وإنّما شرطه أن يكون في المسجد، لكن جرى العمل على أن يكون في المطاف، ولو مع الزّحام؛ لأسباب:
منها: أنّ خارج المطاف غير مهيّأ للطواف فيه بغير حرج.
ومنها: أنّ غير الطائفين يقفون ويجلسون ويسلُكون وراءَ المطاف وعند زمزم، فيشقُّ على الطائفين تخلُّل تلك الجموع.
ومنها: أنّ من أهل العلم من يشترط لصحّة الطواف في المسجد أن لا
_________
(^١) أخرجه البخاري (٢٠٣٨، ٢٠٣٩) ومسلم (٢١٧٥) من حديث صفية بنت حُيي.
16 / 443
يحول بين الطّائف والكعبة بناءٌ ونحوه، وممّن ذكر ذلك صاحب "الفروع" (ج ٢ ص ٣٩٠) (^١).
وإزالة هذه العوائق إنّما تتمّ بتوسعة المطاف.
فلم يكن بُدٌّ من توسعة المطاف، والعمل بذلك جارٍ، ولله الحمد.
إنّ أضيق موضعٍ في المطاف هو ما بين المقام والبيت، ويزداد ضِيقُه بالنّاس شدّة؛ لقربه من الحجر الأسود والمُلتزم، حيث يقف جماعةٌ كثيرة للاستلام والالتزام والدعاء.
وإذا كانت توسعة المطاف مشروعةً، فتوسعة ذلك الموضع مشروعةٌ، وما لا يتمُّ المشروع إلاّ به ــ ولا مانعَ منه ــ فهو مشروع.
يرى بعضُ أهل العلم أنّ هذا منطبقٌ على تأخير المقام، وأنّ التوسعة المطلوبة لا تتمّ إلاّ به.
فأمّا ما يقوله بعضهم من إمكان طريقة أُخرى لتوسعة المطاف في تلك الجهة أيضًا مع بقاء "المقام" في موضعه، وذلك بأن يُحدّد موضعٌ يكفي المصلّين خلفَه، ويُوسّعَ المطافُ من وراء ذلك توسعةً يكون مجموع عرضها وعرض ما بين المقام والبيت مُساويًا لعرض المطاف بتوسعته في بقيّة الجهات، فإذا كثُر الطائفون سلك بعضُهم أمام المقام كالعادة، وسلك بعضُهم في التوسعة التي خلفه، وخلف موضع المُصلّين فيه= ففي هذه الطريقة خلَلٌ من أوجهٍ:
الأوّل: أنّها مخالفةٌ لعمل مَن عملُهُ حُجّة؛ فإنّ موضع المقام في الأصل
_________
(^١) (٦/ ٣٧) ط. مؤسسة الرسالة.
16 / 444
بلصق الكعبة، وسيأتي إثباته.
فلمّا كَثُر النّاس في عهد عمر ﵁، وصار بقاءُ المقام بجنب الكعبة ــ ويصلّي الناس خلفَه ــ مظنّةَ تضييقِ المطاف على الطائفين= أخّرهُ ليبقى ما أمامه للطائفين مُتّسعًا لهم، ويخلو ما وراءه للمصلين، وأقرّه سائر الصحابة ﵃، فكان إجماعًا، وهو حُجّة.
وقيل: إنّ النّبي ﷺ هو الّذي أخّرَ المقامَ للعلّة نفسِها.
وأيًّا ما كان فهو حجّة، وكان ممكنًا حينئذٍ أن يبقى المقامُ بجنب الكعبة، ويُحْجَر لمن يصلّي خلفَه موضعٌ يطوف الطائفون من ورائه، ويُوسَّع لهم المطاف من خلف.
وهذا نظير الطريقة الأخرى التي يشير بها بعضهم الآن، وأبعد منها عن الخلل، وقد أعرض عنها مَن عمله حُجّة، واختار تأخير المقام عن موضعه الأصليّ.
وإذا كانت الحالُ الآنَ كالحال حينئذٍ، فالذي ينبغي هو الاقتداء بالحجّة، وتأخير المقام.
وإذا ساغ لهذه العلّة تأخيره عن موضعه الأصليّ؛ فلَأن يَسُوغ لأجلها تأخيرُه عن موضعه الثاني أولى.
الثاني: أنّ تلك الطريقة لا تفي بالمقصود؛ لأنّ حاصلها أن يكون للمطاف في ذاك الموضع فرعٌ يسلك وراء المقامِ وموضعِ المصلِّين فيه.
وهذا مظنّة أن يَحرِص أكثر الطائفين على أن يسلكوا أمام المقام كالعادة، واختصارًا للمسافة، ويَحرِص على ذلك المطوّفون، وخلف
16 / 445
المطوّف جماعةٌ لا يجدون بُدًّا من متابعته، فيبقى الزّحام قريبًا ممّا كان.
الثالث: أنّه إن أُحيط موضعُ المصلين خلفَ المقام بحاجز شقَّ الدّخولُ إليه والخروجُ منه، وإن لم يُحجَز كان مظنّة أن يسلكه بعض الطائفين اختصارًا للمسافة، فيقع الخلل في العبادتين.
وإنّما كان يمنعهم من ذلك فيما مضى ــ مع بُعد المسافة ــ: توهُّمهم أنّ الطواف لا يصحّ إلا في المطاف.
وسيزول هذا الوهم عند توسعة المطاف من خلفه.
وبقيت أوجهٌ أُخرى؛ كتقديم حقّ المصلين على حق بعض الطائفين، وتطويل المسافة عليهم، واحتمال أن يضيق الموضع الذي يُخصَّص للمصلين خلف المقام؛ لأنّهم يكثرون في بعض الأوقات، ويَحرِص كثيرٌ منهم على المُكْث هناك للدعاء وغير ذلك.
وبالجملة فلا ريب أنّه إذا تحقّقت العلّة، ولم يكن هناك مانعٌ من تأخير المقام؛ فتأخيره هو الطريقة المُثلى.
هل هناك مانعٌ؟
يُبدي بعض الفضلاء مُعارضاتٍ، يرى أنّها تشتمل على موانعَ، وسأذكرها مع ما لها وما عليها، وأسأل الله التوفيق:
المعارضة الأولى:
يقول بعض الناس: ذكر جماعةٌ من المفسّرين ما يدلُّ على أنّ المقام ليس هو الحجر فقط، بل هو الحجر والبقعة التي هو فيها الآن، وتأخير
16 / 446
البقعة غير ممكن، فإذا نُقِلَ الحجر عنها، فإمّا أن يفوتَ العملُ بالآية، وإمّا أن يبقى الحكم للبقعة؛ لأنّها موضع الصلاة.
وأقول: إنّ النّظر في هذا يقتضي بسطَ ما يتعلّق بالمقام، وسأشرح ذلك في فصولٍ:
16 / 447
الفصل الأول
ما هو المقام؟
عامّة ما ورد فيه ذكر المقام من الأحاديث والآثار وكلام السّلف والأئمة ــ ويأتي كثيرٌ منها ــ يُبيّن أنّ "مقام إبراهيم" الذي في المسجد هو الحجر المعروف، غير أنّ بعض من رُوي عنه هذا رُوي عنه تفسير المقام في الآية بأنّه الحجُّ كلُّه، أو المشاعر.
وجاء عن ابن عباس ﵄ ما يبيِّن عدم الخلاف (^١)، وأنّ من قال: "الحجّ كلُّه" أو "المشاعر" إنّما أراد أنّ الآية كما تنصُّ على شَرْعِ الصلاة إلى هذا الحجر الذي قام عليه إبراهيم لعبادة ربّه ﷿ ــ كما يأتي ــ، فهي تدلُّ على شرع العبادة في كل موضعٍ قام فيه إبراهيم للعبادة، على ما بيَّنه الشرع، وذلك هو الحجّ والمشاعر، ولهذا جاء عنهم في تفسير كلمة ﴿مُصَلًّى﴾ قولان (^٢):
الأوّل: قِبْلَة؛ يُصلّون خلفه، أو يُصلّون عنده.
الثاني: مَدْعىً.
فالأوّل بالنسبة إلى الحجر.
والثاني ــ كما أفاده ابن جرير ــ (^٣) بالنسبة إلى المشاعر؛ لأنّ الدعاء
_________
(^١) فقد روى الطبرى في "تفسيره" (٢/ ٥٢٥، ٥٢٦) عنه عدة روايات.
(^٢) انظر "تفسير الطبري" (٢/ ٥٢٩).
(^٣) "تفسيره" (٢/ ٥٣٠).
16 / 448
مشروعٌ عندها كلّها، بل يجمع العبادات المختلفة المشروعة فيها؛ إذ المطلوب بتلك العبادات هو ما يُطلَب بالدعاء من رضوان الله ومغفرته، وخير الدنيا والآخرة، فالدُّعاء عبادةٌ، والعبادة دعاءٌ.
فأمّا ما ذُكِرَ في المعارضة عن (^١) بعض المفسرين؛ فأوّلهم ــ فيما أعلم ــ الزّمخشري، وتبعه بعض من بعده.
والزَّمخشري ــ على حسن معرفته بالعربية ــ قليل الحظِّ من السنّة، ورأى أنّه لا يكون الحجر مصلّى على الحقيقة إلاّ إذا كانت الصلاة عليه، وذلك غير مشروع ولا ممكن؛ لأنّه يصغر عن ذلك.
ولو وُفِّقَ الزمخشري للصواب لجعل هذا قرينةً على أنّ المراد بكلمة ﴿مُصَلًّى﴾ قِبلة، كما قاله السلف، أي: يُصلَّى إليه؛ كما بيّنه النبي ﷺ، وعمل به أصحابه فمن بعدهم.
ومن العلاقات المعتبرة في المجاز: المُجاورة، وهي ثابتةٌ هنا؛ فإنّ الصلاة إذا وقعت إلى الحجر فهي بجواره.
ووجهٌ آخر: وهو أن تكون كلمة ﴿مُصَلًّى﴾ اسمَ مفعول، والأصل: "مصلّى إليه"، حُذِفَ حرف الجرّ، فاتصل الضمير واستتر، كما يقوله ابن جنّي في "مُزَمَّل" من قول امرئ القيس (^٢):
كأنّ أبانًا في عَرانينِ وَبْلِه ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزمَّل
_________
(^١) ط: "من". والمثبت من المخطوطة.
(^٢) في المعلقة. انظر "ديوانه" (ص ٢٥). ط. دار المعارف.
16 / 449
أنّ الأصل "مُزَمَّل به" فحذفَ حرف الجرّ، فاتصل الضميرُ واستتر (^١).
والنُّكتة على الوجهين هي ــ والله أعلم ــ: التنبيهُ على أنّ المزيّة للحجر لقيام إبراهيم عليه للعبادة، والمشروعُ لهذه الأمّة التأسّي به.
والقيام على الحجر لمثل عبادة إبراهيم لا يمكن إلاّ نادرًا، فعُوّض عنه بما يمكن دائمًا، وهو القيام للصلاة، وهو يصغر عن الصلاة عليه، ودفنُه ــ ليتسع مع بعض ما حوله للصلاة ــ يؤدي إلى اندثاره.
ولماذا التكلُّف؟ وإنّما المقصود: أن يكون للقيام في الصلاة تعلُّقٌ به، فشُرِعَت الصلاة إليه.
وعبارة الزمخشري (^٢): "مقام إبراهيم: الحَجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحَجر حين وضع عليه قدميه".
ويُبطِل هذا القولَ ــ مع ما تقدّم ــ أنّ المذكور في الآية مقامٌ واحدٌ لا مقامان، وأنّ وضع الرِّجْل على الحجر بدون قيام حقيقيٍّ لا يكفي لأن يُطلَق عليه كلمة "مقام" على الحقيقة، وأنّ الذي كان من إبراهيم على الحجر فسُمّي لأجله "مقام إبراهيم" قيامٌ حقيقي، لا وضعُ رِجْلٍ فقط، وأنّ الموضع الذي قام فيه على الحَجَر ليس هو موضعه الآن، وأنّ المقام كان أولًا بلصق الكعبة، وكان الحكم معه، ثم حُوِّل إلى موضعه الآن، فتحوَّل الحكم معه.
وسيأتي إثبات هذا كلّه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.
* * * *
_________
(^١) انظر "الخصائص" (٣/ ٢٢١، ١/ ١٩٣). وفيه: "مزمَّل فيه".
(^٢) في "الكشاف" (١/ ٩٣) ط. دار المعرفة.
16 / 450
الفصل الثاني
لماذا سُمّي "الحَجر" مقامَ إبراهيم؟
أعلى ما جاء في هذا: ما أخرجه البخاري (^١) وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ﵄ في خبر مجيء إبراهيم بإسماعيل ﵉ وأمّه إلى مكة، وما جرى بعد ذلك، وفيه في ذكر بناء البيت: "حتّى إذا ارتفع البناءُ جاء بهذا الحَجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يَبني".
وفي روايةٍ أُخرى (^٢): "حتّى إذا ارتفع وضَعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على المقام".
وعند ابن جريرٍ (^٣) بسند صحيح يُلاقي سندَ البخاري الثاني: "فلمّا ارتفع البناء وضعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة قام على حَجرٍ، فهو المقام".
وفي "فتح الباري" (^٤): أنّ الفاكهيّ أخرج نحو هذه القصّة من حديث عثمان، وفيه: "فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه، ويرفعه له إسماعيل، فلمّا بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه ــ يعني الحَجر الأسود ــ موضعه، وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت ... ثم قام إبراهيم على المقام، فقال: يا أيها الناس! أجيبوا ربّكم".
_________
(^١) رقم (٣٣٦٤).
(^٢) عند البخاري (٣٣٦٥). وقد سقطت هذه الفقرة من النسخة المطبوعة مع "الفتح" الطبعة السلفية الأولى.
(^٣) في "تفسيره" (٢/ ٥٦٠) و"تاريخه" (١/ ٢٥٩، ٢٦٠).
(^٤) (٦/ ٤٠٦).
16 / 451
قال في "الفتح" (^١): "روى الفاكهيُّ بإسنادٍ صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس ﵄ قال: "قام إبراهيم على الحَجَر، فقال: يا أيها النّاس! أجيبوا ربّكم".
وفي أوّل الخبر عند البخاري (^٢) عن كثير بن كثير قال: "إنّي وعثمان بن أبي سليمان جلوسٌ مع سعيد بن جبير، فقال: ما هكذا حدّثني ابن عباس، ولكنّه قال".
وفي "فتح الباري" (ج ٦ ص ٢٨٣) (^٣) بيانُ ما نفاه سعيد بن جبير، ذكر ذلك عن رواية الفاكهيّ والأزرقيّ وغيرهما. وفيه: أنّهم سألوا سعيد بن جبير عن أشياء، قال: "قال رجلٌ: أحقٌّ ما سمعنا في المقام ــ مقام إبراهيم ــ أنّ إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته أن لا ينزل بمكّة حتّى يرجع، فقرَّبتْ إليه امرأةُ إسماعيل المقام، فوضع رجله عليه حتّى لا ينزل؟ فقال سعيد بن جبير: ليس هكذا ... ".
والخبرُ ــ وفيه قريبٌ من هذا ــ عند الأزرقيّ (ج ٢ ص ٢٤) (^٤) وفي آخره: "فلمّا ارتفع البُنيان وشقَّ على الشيخ تناولُهُ؛ قرّب له إسماعيل هذا الحَجَر، فكان يقوم عليه ويبني، ويُحوِّلُهُ في نواحي البيت حتّى انتهى إلى وجه البيت. يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم ﵇، وقيامه عليه".
_________
(^١) (٦/ ٤٠٦).
(^٢) رقم (٣٣٦٣).
(^٣) (٦/ ٤٠٠) ط. السلفية.
(^٤) (٢/ ٣٢) ط. رشدي ملحس.
16 / 452
وقصّة مجيء إبراهيم ولقائه امرأة إسماعيل قد ذكرها ابن عباس (^١)، وليس فيها ما يُحكى من وضع رجله على الحَجر.
وكان مجيئه ذلك قبل بناء البيت.
فهبْ أنّه ثبت وضعُه رجلَه على الحَجر وهو على دابّته، فليس هذا بقيام على الحَجر، ولا هو في عبادة، فلا يناسب مزيّةً للحَجَر، وإنّما القيام الحقيقيّ على الحَجر الذي يُناسب مزيّةً له: هو ما وقع بعد ذلك من قيامه عليه لبناء الكعبة، ثمّ للأذان بالحجّ.
فهذا هو الثابت في وجه تسمية الحَجَر "مقامَ إبراهيم".
* * * *
_________
(^١) أخرجها البخاري (٣٣٦٤) عنه.
16 / 453
الفصل الثالث
أين وضع إبراهيم المقامَ أخيرًا؟
تقدّم في الفصل السّابق من حديث عثمان ﵁: "فجعله لاصقًا بالبيت".
ومن حديث ابن عبّاس: "فكان يقوم عليه ويبني، ويُحوِّلُهُ في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت".
وقد ظهر أنّ منشأ مزيّته وحصول الآية فيه ــ وهي أثرُ قدمَيْ إبراهيم ــ هو قيامه عليه لبناء البيت.
فالظاهر أن يكون إبراهيم أبقاه إلى جانب البيت في ذلك الموضع الظاهر ــ وهو عن يَمْنة الباب ــ لتُشاهَد الآية، ويُعرَف تعلُّقه بالبيت.
وجاء عن بعض الصحابة ــ وهو نوفل بن معاوية الدّيليّ ﵁ أنّه رآه في عهد عبد المطلب ملصقًا بالبيت (^١). وسنده ضعيف.
ويأتي بيان أنّ ذلك في الموضع المسامت له الآن.
وإقرار النبي ﷺ له هناك، يصلي هو وأصحابه خلفه بدون بيان أنّ له موضعًا آخر: يدلُّ على أنّ ذلك هو موضعه الأصليّ.
ولم أجد ما يخالف هذا من السنّة والآثار الثابتة عن الصحابة، ولا ما هو صريحٌ في خلافه من أقوال التابعين.
إلاّ أنّ المحبّ الطبري قال في "القِرى" (ص ٣٠٩): قال مالك في
_________
(^١) أخرجه الفاكهي (١/ ٤٤٢) والأزرقي (٢/ ٣٠).
16 / 454
"المدونة": كان المقام في عهد إبراهيم ﵇ في مكانه اليوم، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السّيل، فكان ذلك في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر ﵁، فلمّا ولي عمر ﵁ ردّه بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قِيسَ بها، حتّى أخَّروه، وعمر هو الذي نصب معالم الحرم بعد أن بحث عن ذلك".
هذا آخر كلامه في "المدونة" فيما نقله صاحب "التهذيب مختصر المدونة". ولم أجد أصل ذلك الكلام في مظنّته من "المدونة" المطبوعة.
ثم قال المحبُّ: "وقال الفقيه سَنَد بن عنان المالكي في كتابه المترجم بـ "الطّراز" ــ وهو شرحٌ لـ "المدونة" ــ: وروى أشهب عن مالك قال: سمعتُ من يقول من أهل العلم: إنّ إبراهيم ﵇ أقام هذا المقام، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ وأبي بكر ﵁ وقبل ذلك، وإنّما أُلصِقَ إليه لمكان السيل؛ مخافة أن يذهب به، فلمّا ولي عمر ﵁ أخرج خيوطًا كانت في خزانة الكعبة، وقد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت في الجاهلية، إذ قدّموه مخافة السيل، فقاسه عمر، وأخّره إلى موضعه اليوم، قال مالك: والذي حمل عمر ... ".
إنّ بين سند بن عنان وبين أشهب نحو ثلاث مائة سنة. فإن صحَّ عن مالك فهذا الذي أخبره بالحكاية لم يذكر مستنده، ولا أحسبه استند إلَّا إلى حكاية مجملة وقعت له عن تحويل عمر ﵁ للمقام، وما جرى بعد ذلك، فقال ما قال.
وسيأتي ــ إن شاء الله ــ تحقيق تلك القضية بما يتّضح به أن ليس فيها دلالةٌ على ما ذكر.
16 / 455