Maqālāt mawqiʿ al-Durar al-Saniyya
مقالات موقع الدرر السنية
Genres
إن كنت تظن أن (سيادة الأمة) كائن حي يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويجلس على العرش، ويفرض نفسه بنفسه. فما عليك إلا أن تتصل هذه الليلة بسيادة الأمة، وتطلب منها أن تحجز مقعدا على أقرب رحلة، فتأتي إلينا، أو تذهب إلى أي بلد يوجد فيه حكم فردي متغلب. وبمجرد وصولها إلى هناك، تتغافل عين الرقيب، فتتسلل في ظلمة الليل، وتتربع في المادة الأولى من الدستور. وفي الصباح ينتهي الاستبداد، وتنكشف الغمة، وتنعم الأمة في ظل حكم ديمقراطي رشيد!
هل هذا منطق مقبول؟
أصل الإشكال هنا أن الكاتب عاجز عن التمييز بين (السيادة العليا)، وبين من ينفذ مستلزمات ومقتضيات هذه السيادة ويطبق القوانين الناشئة عنها. هو يظن أن السيادة الشرعية العليا هي لذاك ينفذ القوانين ويطبقها، ويتصور أن من يطبق الشريعة وينفذها في الواقع، لا بد أن يكون هو صاحب السيادة التشريعية!
هو يقول: الشريعة لن تحكم بنفسها، ولا بد لها من عمل بشري يجسدها على الأرض. فإذا لم ترضوا بأن تكون الأمة هي التي تختار مرجعية الشريعة، فليس أمامكم إلا أن تقولوا: إن فردا أو جماعة يملكون ذلك الحق. فأنتم تهربون من سيادة الأمة، إلى سيادة الفرد المتغلب. أنتم توهمون الناس أنكم تدعون لسيادة الشريعة، بينما الواقع أنكم تنادون بسيادة الفرد. أنتم ترفضون أن يصوت الشعب على اختيار حكم الشريعة، ثم تقبلون إسناد حق الاختيار للحاكم المتغلب، فتجعلون حق الحكم بالشريعة ونبذها منوطا به.
هكذا تم تصوير المسألة ... وربما جاء الآن دوري لأمارس تلك العملية الثقيلة على العقلاء، عملية شرح البدهيات العقلية والمسلمات الشرعية:
معنى سيادة الشريعة:
حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". أو يقول "إنما الطاعة في المعروف". و"على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية. فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة".
حين يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فهو يؤسس لمبدأ سيادة الشريعة. لأنه في كلامه هذا لا يقرر حكما فرديا والتزاما شخصيا وحسب، بل قد أسس -أيضا- لمعنى سيادة الشريعة سيادة قانونية. فحين يأتي التشريع المناقض صراحة لدين الله، فلا سمع ولا طاعة. سواء جاء هذا التشريع عبر فرد متغلب، أو عبر تصويت عام، أو بواسطة برلمان منتخب. فكل هؤلاء مخلوقون، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فليس لأحد أن يلتزم التشريع المناقض صراحة للدين إلا مع الإكراه.
ولا يجوز للقاضي أن يحكم بهذا التشريع، أو يعاقب من خالفه.
وإن حكم به القاضي، فليس لصاحب السلطة التنفيذية إنفاذ هذا الحكم.
فإن فعلوا ذلك: فلن نقول أنهم آثمون شرعا فقط. بل نقول -أيضا-: أنهم مستحقون للعقوبة الدنيوية. فلو ذهبت تلك الحكومة ومجلسها التشريعي، فمن حق المتضرر مقاضاة القاضي الذي حكم عليه بما يخالف الشرع، ومقاضاة من أنفذ الحكم مع معرفته بمناقضته للشرع. ولا يعفي هؤلاء من المسؤولية استنادهم لقرار مجلس تشريعي ناشيء عن (سيادة الأمة). لأن تشريعات الإسلام وتكاليفه لا تبطلها مجالس ولا أصوات. لكن حسب نظرية (سيادة الأمة)، فإنه لا مسؤولية على من أنفذ حكما مخالفا للشرع، فأراق دما أو استباح مالا أو عرضا. لأن هذا لم يزد على امتثال ما يجب عليه (شرعا!).
حسنا ... لقائل أن يقول: هل يمكن أن تنجح دولة بهذا الطريقة؟ يقرر المجلس التشريعي، فيرفض القضاة تنفيذ قراره. ويحكم القاضي، فترفض السلطة تنفيذ حكمه؟
Page 87