أكبر ظني أن ابن النفيس قام بمشاهدته بالفحص عن قلوب الحيونات من خراف إلى بقر إلى إبل؛ إذ لم يكن ليستطيع أن يشرح جسم إنسان.
وليست مشاهدة ابن النفيس «مصادفة»؛ إذ هي تحتاج إلى تنقيب وفحص، ولذلك فإن قيمتها كبيرة جدا، وهناك مصادفات أدت إلى كشوف علمية، مثل معرفة القدماء لمادة الأمونيا (النوشادر) من معابد آمون في مصر، ومثل بعض الكشوف الكيماوية التي عرفت عن طريق البحث عن حجر الفلاسفة، وإحالة المعادن الخسيسة إلى معادن كريمة في الأندلس على أيدي العرب، والعبرة في العلم بمنهج البحث، وليس بالمصادفة.
ويعزى تأخر العلم عند العرب إلى عقبات نشأت في الحضارة الإسلامية، وعاقت التجربة العلمية، من ذلك مثلا تحريم الرسم وتحريم التشريح للجسم البشري، فإن الطب لا يمكنه أن يكون علما بغير الرسم والتشريح.
وقد حرم الخلفاء التشريح حتى إن أحد الأطباء في بغداد روى عن نفسه أنه تأهل لحرفة الطب بأن شرح جسم قرد، وقال في ذلك: إنه أقرب الأجسام إلى جسم الإنسان، وأنه ما دام الخليفة يحرم تشريح الجسم البشري فإن ما يستطيعه من الفهم لتركيب الأعضاء لن يكون إلا بتشريح جسم القرد، ولكن تحريم الرسم أدى إلى عرقلة العلوم جميعها ...
وتحريم الرسم كان في الأصل مقصورا على رسم البشر، ولكن الرسم باعتباره فنا ، كل لا يتجزأ، فإذا حرمنا رسم البشر حرمنا أيضا رسم أعضاء الجسم للحيونات أو النبات، ومن هنا العرقلة للعلم، ومن هنا الأسف العظيم على أن أمثال ابن النفيس لم يجدوا ما يعنيهم من الوسط الثقافي العربي، على أن ينشطوا أو يتمهروا ويعرفوا.
ثم كان الغزالي وأمثال الغزالي، فقد كتب هذا الرجل يحرم على المسلمين دراسة الجغرافيا، لا لأنها كاذبة، ولكن لأنها تنهض على العقل والمنطق، ومن هنا وصف ابن رشد الغزالي بكلمتي: «الجاهل الشرير».
ولكن الغزالي انتصر على ابن رشد، بل أكاد أقول: إنه لا يزال منتصرا في بيئات عربية كثيرة، وهنا الخطر.
إن بقاء العرب مرهون بالعقل والمنطق، وليس بعيدا أن ينقرضوا كما انقرض الديناصور إذا رفضوا العقل والمنطق والتزموا العقائد، أي: إذا اتبعوا الغزالي وأنكروا ابن رشد. (إن كتاب ألف ليلة وليلة يذكرنا في إحدى قصصه أن بعض المتعصبين كانوا يطوفون حول بغداد ويبحثون عن الكتب لإحراقها، وسؤالي هو: هل كان هؤلاء من أتباع الغزالى؟) •••
أعظم ما أخر العلم عند العرب هو الرق؛ ذلك أننا لا نشتغل بالعلم للمعرفة فقط، وإنما نحن نحاول أن نخترع أو نكتشف كي نصل إلى طريقة للإنتاج، في الزراعة، والصناعة، نقتصد بها في النفقات، ولكن ما دام عندنا عمال أرقاء يعملون بلا أجر فإننا لا نحتاج إلى الاقتصاد؛ ولذلك لا نخترع ولا نكتشف، وهذا الرق هو الذي وقف بالحضارة الإغريقية، ثم الحضارتين الرومانية والعربية. وجمدها جميعا.
والقرون الوسطى هي قرون التجميد في الحضارة، ومرجع هذا التجميد أو معظمه هو الرق الزراعي، أي ما يسميه الأوروبيون «سيرف». وبعث النهضة في أوروبا كان بإلغاء الرق الزراعي، حين أصبح العامل مأجورا يكلف عمله مقدارا من المال، فكان اختراع الآلة للاستغناء عنه.
Unknown page