عرف جوركي في طفولته الفقر والذل، ورأى السفالات تحيط به، واحترف عددا من الحرف الوضيعة، كانت له بعد ذلك ذخيرة لشرح حيوات الناس والتعرف إلى أهوائهم الدنيا وآمالهم العظمى، فقد عمل خادما، ومشردا يلتقط الخرق ويصيد الطيور، ثم رساما معماريا، ثم بائعا للأيقونات المسيحية، ثم خبازا، ثم خفيرا للسكك الحديدية، ثم وقادا للقاطرة، وأخيرا عمل كاتبا عظيما ليس لروسيا وحدها بل للدنيا كلها.
من أين جاءته هذه القدرة على الكتابة؟
إن هذه الاختبارات العديدة التي مرت به علمته، فعرف منها واقع الناس في معايشهم، ولكن من أين جاءت أحلامه؟ وكيف مهر في الكتابة؟ وما الذي بعثه على الدرس وشوق إليه الثقافة؟
كيف يمكن ملتقط الخرق، وبائع التفاح الجوال في الشارع، أن يدرس أفلاطون ويناقش إسبينوزا ويتفهم الأدب الروسي أو الألماني ... ثم يبني من دراساته هذه آماله وأحلامه في تغيير الواقع المؤلم؟
الجواب: أنه وصل إلى ذلك باتصاله بالمنظمات الثورية في روسيا.
فإن الثوريين، الذين شرعوا منذ السنين الأخيرة في القرن التاسع عشر يفكرون في تغيير الحكومة القيصرية إلى جمهورية اشتراكية، كانوا يؤلفون الجمعيات ويؤلفون الكتب، الكتب للتنوير والجمعيات للعمل.
وقرأ جوركي هذه الكتب، وتعب ودرس، وكافح أميته التي نشأ عليها، وهو يحدثنا في المجلد الثالث عن الجامعات التي تعلم فيها والتي خرجته أستاذا عظيما في الأدب، وهو يسمي هذا المجلد «جامعاتي».
ونقرأ هذا المجلد فلا نجد فيه اسما واحدا لإحدى الجامعات، وكيف يمكن بائع التفاح، وملتقط الخرق أن يدخل إحدى الجامعات؟
لا، إنما كانت جامعاته منهج الثورة الذي طالبته ببرنامج بل ببرامج، لقد اتصل بالمنظمات الثورية السرية، وعرف منها ضرورة التغيير، أي: التغيير لوسائل العيش في المجتمع، ونقلها من المبدأ الانفرادي إلى المبدأ الاشتراكي، مع تغيير حكومة القيصر الاتوقراطية إلى حكومة ديموقراطية اشتراكية، هذا هو المنهج.
ولكن هذا المنهج بعث فيه الرغبة بل الشوق إلى الدراسة، فكانت هنا جامعاته في الكتب، فدرس الاقتصاد، والأدب، والعلم، والتاريخ، الدين، والفلسفة.
Unknown page