قرأت عن اكتساح للبلدة من جانب أسراب رهيبة من الحمام المهاجر الذي دمر كل المحاصيل في أحد الأعوام في أواخر القرن التاسع عشر، وعن شتاء عصيب في أربعينيات القرن الثامن عشر استمر لفترة طويلة جدا وصاحبه برد مهلك حتى إن المستوطنين الأوائل كانوا يعيشون على كرنب البقر الذي كان يقتلع من الأرض. (لم أكن أعرف شيئا عن كرنب البقر هذا - هل كان مجرد كرنب عادي تعلف به الحيوانات أم نباتا بريا وأكثر خشونة مثل كرنب الظربان؟ وكيف كان يمكن أن يقتلع في مثل هذا الطقس والأرض تشبه الصخر؟ هناك دوما ألغاز.)
وقرأت عن رجل يدعى بارنز مات جوعا ليدع عائلته تحصل على نصيبه من الطعام حتى يبقوا على قيد الحياة.
وبعد ذلك ببضعة أعوام كتبت امرأة شابة لأحد أصدقائها في تورونتو عن أن ثمة محصولا هائلا من التوت يفوق قدرة أي شخص على قطفه من أجل تناوله أو تجفيفه، وأنها بينما كانت تقطف بعضا منه، إذا بها أمام دب كان قريبا منها لدرجة أنها استطاعت أن ترى قطرات عصير التوت تلمع على شعيراته. قالت إنها لم تخف، وإنها كانت ستسير عبر الأحراش لإرسال هذا الخطاب بالبريد، سواء كانت هناك دببة أم لا.
طلبت الاطلاع على السجلات التاريخية للكنائس، ظنا مني أنه قد يكون ثمة شيء عن الكنائس اللوثرية أو الكنائس الكاثوليكية الألمانية من شأنه أن يساعدني. من الصعب إبداء مثل هذه الطلبات في مكتبات المراجع؛ إذ غالبا ما ستسأل عما ترغب في معرفته تحديدا، ولم تريد معرفته؟ بل في بعض الأحيان يكون حتى من الضروري أن تدون السبب كتابة. إذا كنت بصدد بحث، أو دراسة، فبالطبع سيكون لديك سبب وجيه، ولكن ماذا لو كان «مجرد اهتمام بالموضوع» من جانبك لا أكثر؟ ربما يكون أفضل شيء أن تقول إنك تتحرى تاريخ عائلتك. فأمناء المكتبات معتادون على قيام الأشخاص بهذا - لا سيما من بلغوا المشيب - ويعتقد عموما أنها طريقة معقولة لقضاء الوقت. أما عبارة «مجرد اهتمام بالموضوع»، فتبدو ذات وقع تبريري، إن لم يكن مراوغا، وتعرضك لخطر النظر إليك باعتبارك متسكعا تتسكع بلا هدف بين جنبات المكتبة، شخصا عاطلا بلا عمل وبلا اتجاه محدد في الحياة، «وليس لديك ما هو أفضل من ذلك لتفعله». فكرت أن أكتب على استمارتي: «بحث من أجل ورقة بحثية عن بقاء الركام الترابي للقبور في أونتاريو القديمة». ولكن لم تواتني الشجاعة لذلك؛ فقد خطر لي أنهم قد يطلبون مني إثبات ذلك.
وبالفعل حددت موقع كنيسة رأيت أنها قد تكون مرتبطة بجبانتنا، باعتبار أنها كانت تقع على بعد قريتين غربا وقرية واحدة شمالا. كانت تسمى كنيسة سانت بيتر الإنجيلية اللوثرية، لو كانت لا تزال موجودة. •••
وأنت في بلدة سوليفان تتذكر كيف كانت تبدو الحقول الزراعية في كل مكان قبل دخول الماكينات الزراعية الحديثة؛ فقد كانت هذه الحقول تحتفظ بالحجم الذي يمكن حرثه بالمحراث الذي تقوده الخيول، والمحصدة الحازمة، وجزازة العشب. لا تزال الأسوجة ذات القضبان موجودة - رغم وجود سور حجري في بعض الأماكن - وبطول هذه الحدود تنمو أشجار الزعرور البري، وكرز الطيور، والقضبان الذهبية، والياسمين البري.
إن مثل هذه الحقول لا تتغير لعدم وجود أي ربح أو منفعة تجنى من التوسع فيها؛ فالمحاصيل التي يمكن زراعتها فيها لا تستحق التعب؛ فهناك ركامان جليديان كبيران وعران ينحدران عبر الجزء الجنوبي من البلدة - وهنا تتحول الشرائط الأرجوانية على الخريطة إلى ثعابين منتفخة وكأن كل واحد منها قد ابتلع ضفدعا - تتوسطهما قناة تصريف مستنقعية. وتتميز الأرض جهة الشمال بأنها طينية. ومن المرجح أن المحاصيل التي تزرع هنا لم تكن أبدا ذات جودة عالية، على الرغم من أن الناس كانوا أكثر إذعانا للعمل في أرض غير مربحة، وأكثر امتنانا لأي شيء يستطيعون نيله، مما هم عليه الآن. وحين تستغل مثل هذه الأراضي على أي نحو الآن، تستغل كمرعى. أما الأجزاء الدغلية - الأحراش - فهي بصدد عودة قوية لسابق عهدها؛ ففي ريف كهذا لم يعد الاتجاه السائد نحو ترويض الطبيعة وزيادة السكان، وإنما العكس. لن تستعيد الأحراش السيطرة على نحو تام مرة أخرى مطلقا، ولكنها بصدد طفرة جيدة؛ فقد استعادت الغزلان والذئاب، التي كانت قد اختفت تماما في وقت من الأوقات، بعضا من مناطق سيطرتها. وربما سيكون ثمة دببة قريبا تستمتع مرة أخرى بولائم التوت الأسود وتوت السلمون وسوف توجد في البساتين البرية. وربما توجد هنا بالفعل.
ومع زوال فكرة الزراعة فيها، تقفز أعمال ومشروعات أخرى غير متوقعة لتحل محلها. ومن الصعب أن تعتقد أنها ستدوم؛ فتجد لافتة متقشرة مكتوبا عليها «معرض البطاقات الرياضية»، وأخرى مكتوبا عليها «بيوت للكلاب ببابين للبيع». مكان يمكن فيه إعادة تقشيش الكراسي. «ساحة فاخرة للإطارات». معروضات من التحف وعلاجات التجميل. بيض بني، شراب قيقب، دروس في عزف مزمار القربة ، تسريحات شعر للجنسين.
وصلنا إلى كنيسة سانت بيتر اللوثرية في صباح يوم أحد مع تعالي دقات الجرس إيذانا ببدء مراسم الصلاة بينما الأيدي التي تعلو برج الكنيسة تشير إلى الحادية عشرة. (وقد علمنا فيما بعد أن تلك الأيدي لا تشير إلى الوقت؛ إذ تشير دائما إلى الحادية عشرة. موعد انعقاد الصلاة.)
كانت تلك الكنيسة كبيرة وأنيقة ومبنية من قوالب الحجر الجيري، وتعلو برجها قمة عالية ويوجد رواق زجاجي حديث لصد الرياح والجليد. وملحقة بها أيضا سقيفة طويلة للسيارات من الحجر والخشب، تذكرك بتلك الأيام حين كان الناس يذهبون إلى الكنيسة مستقلين العربات ذات الأحصنة ومركبات الجليد. كما كان يوجد بيت حجري جميل، هو بيت القسيسة، محاط بالأزهار الصيفية.
Unknown page