[3] وأيضا فإنه إذا كان البصر ليس يدرك المعاني اللطيفة إلا بالتفقد والتأمل، وليس تظهر المعاني اللطيفة للبصر في حال الملاحظة، فإن البصر إذا أدرك مبصرا من المبصرات وأدرك صورته، ولم يكن في ذلك المبصر شيء من المعاني اللطيفة، ولم يدرك البصر في صورته شيئا من المعاني اللطيفة، فإنه ليس يتحقق الحاس مع ذلك أن ليس في ذلك المبصر معان لطيفة، إذ كانت المعاني اللطيفة ليس تظهر بنفس الملاحظة وليس تظهر إلا بالتأمل. فإذا أدرك البصر مبصرا من المبصرات، ولم يكن في ذلك المبصر شيء من المعاني اللطيفة، فهو يدرك صورته الحقيقية، ولكن ليس يتحقق أن تلك هي صورته الحقيقية. ولس يتحقق أن تلك هي صورته الحقيقية لا بعد أن يتفقد كل جزء من أجزاء ذلك المبصر ويتحقق أنه ليس فيها شيء من المعاني اللطيفة. ومن بعد تفقد جميع أجزائه يتحقق أن الذي أدركه هو صورته الحقيقية.
[4] فعلى تصاريف الأحوال ليس يتحقق البصر صورة المبصر إلا بتفقد جميع أجزاء المبصر وتأمل جميع المعاني التي يصح أن تظهر من المبصر. وإذا كان ذلك كذلك فحقائق صور المبصرات التي يدركها البصر ليس تدرك إلا بالتأمل.
[5] وإذ قد تبين ذلك فإنا نقول إن إدراك البصر للمبصرات يكون على وجهين ، إدراكا بالبديهة وإدراكا بالتأمل. وذلك أن البصر إذا لحظ المبصر فإنه يدرك منه المعاني الظاهرة التي فيه في حال ملاحظته. ثم ربما تأمله من بعد ذلك وربما لم يتأمله. فإن تأمله واستقرأ جميع أجزائه تحقق صورته. وإن لم يتأمله ويتفقد جميع أجزائه فقد أدرك منه صورة غير محققة إما هي صورته الحقيقية، وليس يتحقق أنها صورته الحقيقية، وإما هي غير صورته الحقيقية. وكثيرا ما يدرك البصر المبصر وينصرف عنه من غير تأمل. فإذا أدرك البصر المبصر ولم يتأمله فإنه يدرك منه صورة غير محققة، وهو يدركها بالبديهة. وإذا أدرك البصر المبصر وتأمله فهو يدرك منه صورة محققة ويكون إدراكها بالتأمل. وإذا كان ذلك كذلك فإدراك البصر للمبصرات يكون على وجهين، إدراك بالبديهة وإدراك بالتأمل. والإدراك بالبديهة هو إدراك غير محقق والإدراك بالتأمل هو الذي به تحقق صور المبصرات.
Page 319