ـ[تفسير المنار]ـ
المؤلف: محمد رشيد بن علي رضا (المتوفى: ١٣٥٤هـ)
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
سنة النشر: ١٩٩٠ م
عدد الأجزاء: ١٢ جزءا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير، وتم ربطه بنسخة مصورة أخرى (لدار المنار)]
Unknown page
فَاتِحَةُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) سُورَةُ الْكَهْفِ
(الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) سُورَةُ الْبَقَرَةِ
(الم اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ. . . (الْآيَةَ) . سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
1 / 3
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) سُورَةُ هُودٍ
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سُورَةُ يُوسُفَ
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)
1 / 4
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ.) سُورَةُ ص
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) سُورَةُ النِّسَاءِ
(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ
هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) سُورَةُ الزُّمَرِ
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) سُورَةُ الْحَشْرِ
(إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) سُورَةُ الْأَحْزَابِ
1 / 5
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ هُدًى وَنُورًا، لِيُعَلِّمَكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيَكُمْ، وَيُعِدَّكُمْ لِمَا يَعِدُكُمْ بِهِ مِنْ سَعَادَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُنْزِلْهُ قَانُونًا دُنْيَوِيًّا جَافًّا كَقَوَانِينِ الْحُكَّامِ، وَلَا كِتَابًا طِبِّيًّا لِمُدَاوَاةِ الْأَجْسَامِ، وَلَا تَارِيخًا بَشَرِيًّا لِبَيَانِ الْأَحْدَاثِ وَالْوَقَائِعِ، وَلَا سِفْرًا فَنِّيًّا لِوُجُوهِ الْكَسْبِ وَالْمَنَافِعِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُ تَعَالَى بِاسْتِطَاعَتِكُمْ، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وَحْيٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَهَذَا بَعْضٌ مِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ كِتَابَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ تَدَبَّرَهَا سَلَفُكُمُ الصَّالِحُ وَاهْتَدَوْا بِهَا، فَأَنْجَزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا قَبْلَ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (٢٤: ٥٥) وَفِي قَوْلِهِ: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٠: ٤٧)، وَقَوْلِهِ: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (٤: ١٤١)، وَقَوْلِهِ: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٦٣: ٨)، وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣: ١٣٩) .
وَعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْوُعُودَ فِي حَالِ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَأَنْجَزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِمَا قَضَاهُ وَجَعَلَهُ أَثَرًا لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ.
هَدَى اللهُ تَعَالَى بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَرَبَ، وَهَدَى بِدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ أَعْظَمَ شُعُوبِ الْعَجَمِ، فَكَانُوا بِهِ أَئِمَّةَ الْأُمَمِ، فَبِالِاهْتِدَاءِ بِهِ قَهَرُوا أَعْظَمَ دُوَلِ الْأَرْضِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ. دَوْلَةَ الرُّومِ (الرُّومَانِ) وَدَوْلَةَ الْفُرْسِ، فَهَذِهِ مَحَوْهَا مِنْ لَوْحِ الْوُجُودِ بِهَدْمِ سُلْطَانِهَا وَإِسْلَامِ شَعْبِهَا، وَتِلْكَ سَلَبُوهَا مَا كَانَ خَاضِعًا لِسُلْطَانِهَا مِنْ مَمَالِكِ الشَّرْقِ وَشُعُوبِهِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ فَتَحُوا الْكَثِيرَ مِنْ مَمَالِكِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ حَتَّى اسْتَوْلَوْا عَلَى بَعْضِ بِلَادِ أُورُبَّةَ، وَأَلَّفُوا فِيهَا دَوْلَةً عَرَبِيَّةً كَانَتْ زِينَةَ الْأَرْضِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ.
حَارَبُوا شُعُوبًا كَثِيرَةً كَانَتْ أَقْوَى مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقِتَالُ مِنْ عَدَدٍ وَعُدَدٍ، وَسِلَاحٍ وَكُرَاعٍ، وَحُصُونٍ وَقِلَاعٍ، وَقَاتَلُوهَا فِي عُقْرِ دَارِهَا، وَمُسْتَقِرِّ قُوَّتِهَا، وَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ بِلَادِهِمْ، نَاءُونَ عَنْ مَقَرِّ خِلَافَتِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَفْضُلُونَ أَعْدَاءَهُمْ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ صَلَاحُ أَرْوَاحِهِمُ الَّذِي تَبِعَهُ صَلَاحُ أَعْمَالِهِمْ، وَالرَّوْحُ الْبَشَرِيُّ أَعْظَمُ قُوَى هَذِهِ الْأَرْضِ، سَخَّرَ اللهُ تَعَالَى لَهُ سَائِرَ قُوَاهَا وَمَادَّتِهَا كَمَا قَالَ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (٢: ٢٩) (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٥: ١٣) .
1 / 6
كَانَ أَرْقَى حُكَّامِ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ عِلْمًا وَفَنًّا وَأَدَبًا وَسِيَاسَةً يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، وَيَعْبَثُ بِالْمَالِ وَالْعِرْضِ، أَوْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (٢: ٢٠٥) وَكَانَ الْمُسْلِمُ الْعَرَبِيُّ يَتَوَلَّى حُكْمَ بَلَدٍ أَوْ وِلَايَةٍ، وَهُوَ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ بِشَيْءٍ مِنْ فُنُونِ الدَّوْلَةِ، وَلَا مِنْ قَوَانِينِ الْحُكُومَةِ، وَلَمْ يُمَارِسْ أَسَالِيبَ السِّيَاسَةِ وَلَا طُرُقَ الْإِدَارَةِ، وَإِنَّمَا كُلُّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ بَعْضُ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيُصْلِحُ مِنْ تِلْكَ الْوِلَايَةِ فَسَادَهَا، وَيَحْفَظُ أَنْفُسَهَا وَأَمْوَالَهَا وَأَعْرَاضَهَا، وَلَا يَسْتَأْثِرُ بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا، هَذَا وَهُوَ فِي حَالِ حَرْبٍ، وَسِيَاسَةِ فَتْحٍ، مُضْطَرٌّ لِمُرَاعَاةِ تَأْمِينِ الْمُوَاصَلَاتِ مَعَ جُيُوشِ أُمَّتِهِ وَحُكُومَتِهَا،
وَسَدِّ الذَّرَائِعِ لِانْتِقَاضِ أَهْلِهَا. وَإِذَا صَلُحَتِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ أَصْلَحَتْ كُلَّ شَيْءٍ تَأْخُذُ بِهِ، وَتَتَوَلَّى أَمْرَهُ، فَالْإِنْسَانُ سَيِّدُ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَصَلَاحُهَا وَفَسَادُهَا مَنُوطٌ بِصَلَاحِهِ وَفَسَادِهِ، وَلَيْسَتِ الثَّرْوَةُ وَلَا وَسَائِلُهَا مِنْ صِنَاعَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ هِيَ الْمِعْيَارَ لِصَلَاحِ الْبَشَرِ، وَلَا الْمُلْكُ وَوَسَائِلُهُ، مِنَ الْقُوَّةِ وَالسِّيَاسَةِ، فَإِنَّ الْبَشَرَ قَدْ أَوْجَدُوا كُلَّ وَسَائِلِ الْمُلْكِ وَالْحَضَارَةِ مِنْ عُلُومٍ وَفُنُونٍ وَأَعْمَالٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَهِيَ إِذًا نَابِعَةٌ مِنْ مَعِينِ الِاسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِيِّ، تَابِعَةٌ لَهُ دُونَ الْعَكْسِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ فِي الْعَكْسِ كَدَلِيلِهِ فِي الطَّرْدِ، فَإِنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ وَكَثِيرًا مِنَ الشُّعُوبِ الَّتِي وَرِثَتِ الْمُلْكَ وَالْحَضَارَةَ عَنْ سَلَفٍ أَوْجَدَهُمَا مِنَ الْعَدَمِ: مِمَّنْ أَضَاعُوهُمَا بَعْدَ وُجُودِهِمَا بِفَسَادِ أَنْفُسِهِمْ.
صَلُحَتْ أَنْفُسُ الْعَرَبِ بِالْقُرْآنِ إِذْ كَانُوا يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ فِي صَلَوَاتِهِمُ الْمَفْرُوضَةِ، وَفِي تَهَجُّدِهِمْ وَسَائِرِ أَوْقَاتِهِمْ فَرَفَعَ أَنْفُسَهُمْ وَطَهَّرَهَا مِنْ خُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الْمُذِلَّةِ لِلنُّفُوسِ الْمُسْتَعْبِدَةِ لَهَا، وَهَذَّبَ أَخْلَاقَهَا وَأَعْلَى هِمَمِهَا، وَأَرْشَدَهَا إِلَى تَسْخِيرِ هَذَا الْكَوْنِ الْأَرْضِيِّ كُلِّهِ لَهَا، فَطَلَبَتْ ذَلِكَ فَأَرْشَدَهَا طَلَبُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِسُنُّتِهِ تَعَالَى فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، فَهَدَاهَا ذَلِكَ إِلَى الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، فَأَحْيَتْ مَوَاتَهَا، وَأَبْدَعَتْ فِيهَا مَا لَمْ يَسْبِقْهَا إِلَيْهِ غَيْرُهَا، حَتَّى قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ تَطَوُّرِ الْأُمَمِ مِنْ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ: " إِنَّ مَلَكَةَ الْفُنُونِ لَا تَسْتَحْكِمُ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ: جِيلِ التَّقْلِيدِ، وَجِيلِ الْخَضْرَمَةِ، وَجِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَشَذَّ الْعَرَبُ وَحْدَهُمْ فَاسْتَحْكَمَتْ فِيهِمْ مَلَكَةُ الْفُنُونِ فِي جِيلٍ وَاحِدٍ ".
قَدْ شَاهَدْنَا وَلَا نَزَالُ نُشَاهِدُ فِي بِلَادِنَا أَنَّ طَلَبَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ مَعَ إِهْمَالِ التَّرْبِيَةِ الْمُصْلِحَةِ لِلنَّفْسِ لَمْ تَحُلْ دُونَ اسْتِعْبَادِ الْأَجَانِبِ لَنَا، كَمَا جَرَى فِي دَوْلَتَيِ الْأَسِتَانَةِ وَالْقَاهِرَةِ وَغَيْرِهِمَا. تَرَى الرَّجُلَ الْمُتَعَلِّمَ الْمُتَفَنِّنَ يَتَوَلَّى وِلَايَةً أَوْ وِزَارَةً فَيَكُونُ أَوَّلَ هَمِّهِ مِنْهَا تَأْسِيسُ ثَرْوَةٍ وَاسِعَةٍ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَالزِّينَةِ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ كُلُّ طَبَقَةٍ مِنْ رِجَالِ الدَّوْلَةِ، يَسْتَنْزِفُونَ ثَرْوَةَ الْأُمَّةِ بِالرُّشَى وَالْحِيَلِ وَأَكْلِ السُّحْتِ، وَيَكُونُ كُلُّ مَا فَضَلَ عَنْ شَهَوَاتِهِمْ بَلْ جُلُّ مَا يُنْفِقُونَهُ عَلَيْهَا نَصِيبَ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ الْمَنَارِ وَالتَّفْسِيرِ فَلَا نُطِيلُ فِيهَا هُنَا. وَإِنَّمَا طَرَقْنَا هَذَا الْبَابَ لِنُذَكِّرَكُمْ
1 / 7
أَيُّهَا الْقَارِئُونَ لِهَذِهِ
الْفَاتِحَةِ بِوُجُوبِ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَبِأَنَّ فِقْهَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْسِيرِهِ لِمَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ مَلَكَةِ لُغَتِهِ وَذَوْقِ أَسَالِيبِهَا وَرَوْحِ بَلَاغَتِهَا، وَمِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَسِيرَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَهَدْيِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ فِقْهِهِ بِنَفْسِهِ.
إِنَّمَا يَفْهَمُ الْقُرْآنَ وَيَتَفَقَّهُ فِيهِ مَنْ كَانَ نُصْبَ عَيْنِهِ وَوِجْهَةَ قَلْبِهِ فِي تِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ مَوْضُوعِ تَنْزِيلِهِ، وَفَائِدَةِ تَرْتِيلِهِ، وَحِكْمَةِ تَدَبُّرِهِ، مِنْ عَلَمٍ وَنُورٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةٍ، وَمَوْعِظَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَخُشُوعٍ وَخَشْيَةٍ، وَسُنَنٍ فِي الْعَالَمِ مُطَّرِدَةٍ. فَتِلْكَ غَايَةُ إِنْذَارِهِ وَتَبْشِيرِهِ، وَيَلْزَمُهَا عَقْلًا وَفِطْرَةً تَقْوَى اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) .
كَانَ مِنْ سُوءِ حَظِّ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا كُتِبَ فِي التَّفْسِيرِ يَشْغَلُ قَارِئَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ، وَالْهِدَايَةِ السَّامِيَةِ، فَمِنْهَا مَا يَشْغَلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ بِمَبَاحِثِ الْإِعْرَابِ وَقَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَنُكَتِ الْمَعَانِي وَمُصْطَلَحَاتِ الْبَيَانِ، وَمِنْهَا مَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ بِجَدَلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَتَخْرِيجَاتِ الْأُصُولِيِّينَ، وَاسْتِنْبَاطَاتِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، وَتَأْوِيلَاتِ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَتَعَصُّبِ الْفِرَقِ وَالْمَذَاهِبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا يَلْفِتُهُ عَنْهُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ، وَمَا مُزِجَتْ بِهِ مِنْ خُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَقَدْ زَادَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ صَارِفًا آخَرَ عَنِ الْقُرْآنِ هُوَ مَا يُورِدُهُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ الْحَادِثَةِ فِي الْمِلَّةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِهِ، كَالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْيُونَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَقَلَّدَهُ بَعْضُ الْمُعَاصِرِينَ بِإِيرَادِ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ هَذَا الْعَصْرِ وَفُنُونِهِ الْكَثِيرَةِ الْوَاسِعَةِ، فَهُوَ يَذْكُرُ فِيمَا يُسَمِّيهِ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فُصُولًا طَوِيلَةً بِمُنَاسَبَةِ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ عُلُومِ الْفَلَكِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، تَصُدُّ قَارِئَهَا عَمَّا أَنْزَلَ اللهُ لِأَجْلِهِ الْقُرْآنَ:
نَعَمْ إِنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ مِنْ وَسَائِلِ فَهْمِ الْقُرْآنِ، فُنُونُ الْعَرَبِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَاصْطِلَاحَاتُ الْأُصُولِ وَقَوَاعِدُهُ الْخَاصَّةُ بِالْقُرْآنِ ضَرُورِيَّةٌ أَيْضًا، كَقَوَاعِدِ النَّحْوِ وَالْمَعَانِي، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْكَوْنِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ - كُلُّ ذَلِكَ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ فِي التَّفْسِيرِ فَمِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ أَيْضًا لِأَنَّ مَا صَحَّ مِنَ الْمَرْفُوعِ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَيَلِيهِ مَا صَحَّ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ أَوْ عَمَلِ عَصْرِهِمْ، وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا
وَذَاكَ قَلِيلٌ.
وَأَكْثَرُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَدْ سَرَى إِلَى الرُّوَاةِ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ وَالْفُرْسِ وَمُسْلِمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَجُلُّ ذَلِكَ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُتُبِهِمْ وَمُعْجِزَاتِهِمْ، وَفِي تَارِيخِ غَيْرِهِمْ كَأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَمَدِينَةِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، وَسِحْرِ بَابِلَ وَعُوجِ ابْنِ عُنُقَ، وَفِي أُمُورِ الْغَيْبِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَقِيَامَتِهَا وَمَا يَكُونُ فِيهَا وَبَعْدَهَا، وَجُلُّ ذَلِكَ خُرَافَاتٌ وَمُفْتَرَيَاتٌ صَدَّقَهُمْ فِيهَا الرُّوَاةُ حَتَّى بَعْضُ الصَّحَابَةِ ﵃، وَلِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ
1 / 8
أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَّفْسِيرُ، وَالْمَلَاحِمُ، وَالْمَغَازِي، وَكَانَ الْوَاجِبَ جَمْعُ الرِّوَايَاتِ الْمُفِيدَةِ فِي كُتُبٍ مُسْتَقِلَّةٍ، كَبَعْضِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَبَيَانِ قِيمَةِ أَسَانِيدِهَا، ثُمَّ يُذْكَرُ فِي التَّفْسِيرِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا بِدُونِ سَنَدٍ، كَمَا يُذْكَرُ الْحَدِيثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، لَكِنْ يُعْزَى إِلَى مُخْرِجِهِ كَمَا نَفْعَلُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: " وَالِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ، وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمَنْقُولُ إِمَّا عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْقِسْمُ - الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صَحِيحِهِ مِنْ ضَعِيفِهِ - عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَاسْمِهِ، وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَفِي قَدْرِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَخَشَبِهَا، وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخِضْرُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقَةُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قُبِلَ، وَمَا لَا - بِأَنْ نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهَبٍ - وُقِفَ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى، وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مَنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّحَابِيِّ بِمَا يَقُولُهُ كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ "
" وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ. وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ ".
ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا مَثَارُ الْخَطَأِ.
(إِحْدَاهُمَا) حَمْلُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانٍ اعْتَقَدُوهَا لِتَأْيِيدِهَا بِهِ - أَقُولُ: كَجَمِيعِ مُقَلِّدَةِ الْفِرَقِ وَالْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهَا، فَإِنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ أُصُولًا وَالْقُرْآنَ فَرْعًا لَهَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَهَذَا شَرُّ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ فِي الْحَدِيثِ.
(ثَانِيَتُهُمَا) التَّفْسِيرُ بِمُجَرَّدِ دَلَالَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ اللهُ ﷿، وَالْمُنْزَلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ - وَفَصْلُ ذَلِكَ بِمَا يُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْمُحَقِّقَ جَزَمَ بِالْوَقْفِ عَنْ تَصْدِيقِ جَمِيعِ مَا عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ رُوَاةِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ مَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِهِ. وَصَرَّحَ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِرِوَايَاتِ
1 / 9
كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، مَعَ أَنَّ قُدَمَاءَ رِجَالِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اغْتَرُّوا بِهِمَا وَعَدَلُوهُمَا. فَكَيْفَ لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا تَبَيَّنَ لَنَا مِنْ كَذِبِ كَعْبٍ وَوَهْبٍ وَعَزْوِهِمَا إِلَى التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ مَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهُ وَلَا حَوَّمَتْ حَوْلَهُ؟ ! - وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - يَعْنِي بِخِلَافِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الرِّوَايَةِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا الْوَقْفُ فِيمَا يُنْقَلُ نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، لَا نُصَدِّقُهُمْ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِمَّا حَرَّفُوا فِيهَا، وَلَا نُكَذِّبُهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِمَّا حَفِظُوا مِنْهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) .
وَأَنْتَ تَرَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ ﵃ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ النَّفْسَ إِلَيْهِ أَسْكُنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ سَمَاعِهِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَقْوَى مِنَ احْتِمَالِ سَمَاعِهِ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقِلَّةِ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ عَنْهُمْ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَ مَنْ أَطْلَقَ الْحُكْمَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ الصَّحَابِيُّ الثِّقَةُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِالِاسْتِدْلَالِ
بَلْ بِالنَّقْلِ لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَوَوْا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ الَّذِي رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنْ كُنَّا لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ " وَمِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ﵁ وَمِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ رَوَى عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالنَّقْلِ عَنِ الْمَعْصُومِ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَمْثَالِهِ لَا يُقْبَلُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَرْفُوعُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الْإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الَّتِي يُصَرِّحُ بِهَا كَثِيرًا.
هَذَا وَإِنَّ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ لَا يَنْقُضُ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي تِلْكَ الثَّلَاثَةِ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ أَلْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا يَعْنِي أَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ لَهُ سَنَدٌ مُتَّصِلٌ، وَمَا صَحَّ سَنَدُهُ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَقِلُّ فِيهِ الْمَرْفُوعُ الَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ.
وَغَرَضُنَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَكْثَرَ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَوْ كَثِيرِهِ حِجَابٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَشَاغِلٌ لِتَالِيهِ عَنْ مَقَاصِدِهِ الْعَالِيَةِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ، الْمُنَوَّرَةِ لِلْعُقُولِ، فَالْمُفَضِّلُونَ لِلتَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ لَهُمْ شَاغِلٌ عَنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ، الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا سَنَدًا وَلَا مَوْضُوعًا، كَمَا أَنَّ الْمُفَضِّلِينَ لِسَائِرِ التَّفَاسِيرِ لَهُمْ صَوَارِفُ أُخْرَى عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَكَانَتِ الْحَاجَةُ شَدِيدَةً إِلَى تَفْسِيرٍ تَتَوَجَّهُ الْعِنَايَةُ الْأُولَى فِيهِ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الْمُنَزَّلَةِ فِي وَصْفِهِ، وَمَا أَنْزَلَ لِأَجْلِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَهُوَ مَا تَرَى تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْمُقْتَبَسَةِ مِنْ دُرُوسِ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ عَبْدِهِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَحْسَنَ جَزَاءَهُ - ثُمَّ الْعِنَايَةِ إِلَى مُقْتَضَى حَالِ هَذَا
1 / 10
الْعَصْرِ فِي سُهُولَةِ التَّعْبِيرِ، وَمُرَاعَاةِ أَفْهَامِ صُنُوفِ الْقَارِئِينَ، وَكَشْفِ شُبَهَاتِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفَلْسَفَةِ وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَرَاهُ قَرِيبًا - هُوَ مَا يَسَّرَهُ اللهُ بِفَضْلِهِ لِهَذَا الْعَاجِزِ، وَهَاكَ مُوجَزًا مِنْ نَبَأِ تَيْسِيرِهِ لَهُ.
كُنْتُ مِنْ قَبْلِ اشْتِغَالِي بِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسَ الشَّامِ مُشْتَغِلًا بِالْعِبَادَةِ مَيَّالًا إِلَى التَّصَوُّفِ، وَكُنْتُ أَنْوِي بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الِاتِّعَاظَ بِمَوَاعِظِهِ لِأَجْلِ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمَّا رَأَيْتُ نَفْسِي أَهْلًا لِنَفْعِ النَّاسِ بِمَا حَصَّلْتُ مِنَ الْعِلْمِ - عَلَى قِلَّتِهِ - صِرْتُ أَجْلِسُ إِلَى الْعَوَامِّ فِي بَلَدِنَا أَعِظُهُمْ بِالْقُرْآنِ مُغَلِّبًا التَّرْهِيبَ عَلَى التَّرْغِيبِ، وَالْخَوْفَ عَلَى الرَّجَاءِ، وَالْإِنْذَارَ عَلَى التَّبْشِيرِ، وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا.
فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْحَالِ الْغَالِبَةِ عَلَيَّ ظَفِرَتْ يَدِي بِنُسَخٍ مِنْ جَرِيدَةِ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " فِي أَوْرَاقِ وَالِدِي، فَلَمَّا قَرَأْتُ مَقَالَاتِهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِعَادَةِ مَجْدِ الْإِسْلَامِ وَسُلْطَانِهِ وَعِزَّتِهِ، وَاسْتِرْدَادِ مَا ذَهَبَ مِنْ مَمَالِكِهِ، وَتَحْرِيرِ مَا اسْتَعْبَدَ الْأَجَانِبُ مِنْ شُعُوبِهِ - أَثَّرَتْ فِي قَلْبِي تَأْثِيرًا دَخَلْتُ بِهِ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ مِنْ حَيَاتِي، وَأُعْجِبْتُ جِدَّ الْإِعْجَابِ بِمَنْهَجِ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ فِي الِاسْتِشْهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَضَايَاهَا بِآيَاتٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ تَفْسِيرُهَا مِمَّا لَمْ يُحَوِّمْ حَوْلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ أَسَالِيبِهِمْ فِي الْكِتَابَةِ، وَمَدَارِكِهِمْ فِي الْفَهْمِ. وَأَهُمُّ مَا انْفَرَدَ بِهِ مَنْهَجُ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
(أَحَدُهَا) بَيَانُ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَأَسْبَابِ تَرَقِّي الْأُمَمِ وَتَدَلِّيهَا، وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا.
(ثَانِيهَا) بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ سِيَادَةٍ وَسُلْطَانٍ، وَجَمْعٍ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ دِينٌ رُوحَانِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ، وَمَدَنِيٌّ عَسْكَرِيٌّ، وَأَنَّ الْقُوَّةَ الْحَرْبِيَّةَ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ، وَالْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ، وَعِزَّةِ الْمِلَّةِ، لَا لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بِالْقُوَّةِ.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ جِنْسِيَّةٌ إِلَّا دِينَهُمْ، فَهُمْ إِخْوَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ نَسَبٌ وَلَا لُغَةٌ وَلَا حُكُومَةٌ.
تِلْكَ الْمَقَالَاتُ الَّتِي حَبَّبَتْ إِلَيَّ حَكِيمَيِ الشَّرْقِ، وَمُجَدِّدَيِ الْإِسْلَامِ وَمُصْلِحَيِ الْعَصْرِ: السَّيِّدَ جَمَالَ الدِّينِ الْحُسَيْنِيَّ الْأَفْغَانِيَّ وَالشَّيْخَ مُحَمَّدَ عَبْدَهُ الْمِصْرِيَّ، وَهُمَا اللَّذَانِ أَنْشَآ جَرِيدَةَ " الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى " فِي بَارِيسَ سَنَةَ ١٣٠١ هـ عَقِبَ احْتِلَالِ الْإِنْكِلِيزِ لِمِصْرَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ١٢٩٩ هـ وَكَانَ الْكَاتِبُ لِتِلْكَ الْمَقَالَاتِ الْعَالِيَةِ فِيهَا هُوَ الثَّانِي، وَلَكِنْ بِإِرْشَادِ الْأَوَّلِ وَإِدَارَتِهِ وَسِيَاسَتِهِ، وَهُوَ أُسْتَاذُهُ فِي هَذَا الْمَنْهَجِ وَمُرَبِّيهِ عَلَيْهِ.
تَوَجَّهَتْ نَفْسِي بِتَأْثِيرِ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " إِلَى الْهِجْرَةِ إِلَى السَّيِّدِ جَمَالٍ وَالتَّلَقِّي عَنْهُ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْآسِتَانَةَ فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِتَرْجَمَتِي وَرَغْبَتِي فِي صُحْبَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَصُدُّنِي عَنْهَا إِلَّا إِقَامَتُهُ فِي
1 / 11
الْآسِتَانَةِ لِاعْتِقَادِي أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ طُولَ الْمُقَامِ فِيهَا، وَعَلَّلْتُ ذَلِكَ بِقَوْلِي " لِأَنَّ بِلَادَ الشَّرْقِ أَمْسَتْ كَالْمَرِيضِ الْأَحْمَقِ يَأْبَى الدَّوَاءَ وَيَعَافُهُ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ ".
وَبَعْدَ أَنْ تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِيهَا تَعَلَّقَ أَمَلِي بِالِاتِّصَالِ بِخَلِيفَتِهِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ عَبْدِهِ، لِلْوُقُوفِ عَلَى اخْتِبَارِهِ وَآرَائِهِ فِي الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ، وَمَا زِلْتُ أَتَرَبَّصُ الْفُرَصَ
لِذَلِكَ حَتَّى سَنَحَتْ لِي فِي رَجَبٍ سَنَةَ ١٣١٥ هـ وَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ إِتْمَامِ تَحْصِيلِي لِلْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسَ وَأَخْذِ شَهَادَةِ الْعَالَمِيَّةِ أَوِ التَّدْرِيسِ مِنْ شُيُوخِي فِيهَا، فَهَاجَرْتُ إِلَى مِصْرَ، وَأَنْشَأْتُ الْمَنَارَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ.
اتَّصَلْتُ بِالشَّيْخِ فِي الضَّحْوَةِ الصُّغْرَى لِلْيَوْمِ الَّذِي وَصَلْتُ فِي لَيْلِهِ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَكَانَ اتِّصَالِي بِهِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ كَاتِّصَالِ اللَّازِمِ الْبَيِّنِ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ بِمَلْزُومِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ اقْتِرَاحٍ لِي عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرًا لِلْقُرْآنِ يَنْفُخُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ الَّتِي وَجَدْنَا رُوحَهَا وَنُورَهَا فِي مَقَالَاتِ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ كَامِلٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَهُ تَفَاسِيرُ كَثِيرَةٌ أُتْقِنُ بَعْضَهَا مَا لَمْ يُتْقِنْهَا بَعْضٌ. وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ شَدِيدَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَلَعَلَّ الْعُمْرَ لَا يَتَّسِعُ لِتَفْسِيرٍ كَامِلٍ. فَاقْتَرَحْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ دَرْسًا فِي التَّفْسِيرِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ١٣١٥ هـ ثُمَّ كَرَّرْتُ عَلَيْهِ الِاقْتِرَاحَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ يَعْتَذِرُ بِمَا أَذْكُرُ أَهَمَّهُ هُنَا.
زُرْتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ١٣ رَمَضَانَ فَقَرَأَ لِي عِبَارَةً مِنْ كِتَابٍ فَرَنْسِيٍّ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَطَفِقَ يَرُدُّ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجَ يَأْخُذُونَ مَطَاعِنَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ سُوءِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ جَهْلِهِمْ هُمْ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَظِيفٌ وَالْإِسْلَامَ نَظِيفٌ، وَإِنَّمَا لَوَّثَهُ الْمُسْلِمُونَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِسَفْسَافِ الْأُمُورِ. وَطَفِقَ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وَمَاذَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ لَوِ اهْتَدَوْا بِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الطَّاعِنَ ادَّعَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُعَلِّمْهُمْ نَبِيُّهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ إِلَّا أَنَّهُ حَاكِمٌ قَاهِرٌ وَسُلْطَانٌ عَظِيمٌ، قَدْ أَوْجَبَ الْفَتْحَ عَلَى أَتْبَاعِهِ لِأَجْلِ قَهْرِ الْأُمَمِ لَا لِأَجْلِ تَرْبِيَتِهَا. وَقَالَ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَسْمِيَةِ النَّصَارَى خَالِقَهُمْ بِالْأَبِ الدَّالِّ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالْعَطْفِ؟ ثُمَّ طَفِقَ الْأُسْتَاذٌ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِالْكَلَامِ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ وَمَا فِيهِ مِنْ مَعَانِي التَّرْبِيَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنَى الْأَبِ، وَكَوْنِ طَلَبِهِ لِلْوَلَدِ بِمُقْتَضَى شَهْوَتِهِ لَا مَحَبَّتِهِ لَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِ الْوَالِدِ الَّتِي يُنَزَّهُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الِاتِّصَافِ بِهَا، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَهَاهُنَا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا أَذْكُرُ مُلَخَّصَهُ كَمَا كَتَبْتُهُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَهُوَ: (قُلْتُ): لَوْ كَتَبْتَ تَفْسِيرًا عَلَى هَذَا النَّحْوِ تَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى حَاجَةِ الْعَصْرِ، وَتَتْرُكُ
كُلَّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَتُبَيِّنُ مَا أَهْمَلُوهُ. . .
قَالَ: " إِنَّ الْكُتُبَ لَا تُفِيدُ الْقُلُوبَ الْعُمْيَ. فَإِنَّ دُكَّانَ السَّيِّدِ عُمَرَ الْخَشَّابِ مَمْلُوءَةٌ بِالْكُتُبِ مِنْ
1 / 12
جَمِيعِ الْعُلُومِ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا مِنْهَا، لَا تُفِيدُ الْكُتُبُ إِلَّا إِذَا صَادَفَتْ قُلُوبًا مُتَيَقِّظَةً عَالِمَةً بِوَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا تَسْعَى فِي نَشْرِهَا. إِذَا وَصَلَ لِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كِتَابٌ فِيهِ غَيْرُ مَا يَعْلَمُونَ لَا يَعْقِلُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَإِذَا عَقَلُوا مِنْهُ شَيْئًا يَرُدُّونَهُ وَلَا يَقْبَلُونَهُ، وَإِذَا قَبِلُوهُ حَرَّفُوهُ إِلَى مَا يُوَافِقُ عِلْمَهُمْ وَمَشْرَبَهُمْ، كَمَا جَرُّوا عَلَيْهِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي نُرِيدُ بَيَانَ مَعْنَاهَا الصَّحِيحِ وَمَا تُفِيدُهُ ".
" إِنَّ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤَثِّرُ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْمُتَكَلِّمِ وَحَرَكَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ وَلَهْجَتَهُ فِي الْكَلَامِ - كُلُّ ذَلِكَ يُسَاعِدُ عَلَى فَهْمِ مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَيْضًا يُمَكِّنُ السَّامِعَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الْمُتَكَلِّمَ عَمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ فَإِذَا كَانَ مَكْتُوبًا فَمَنْ يَسْأَلُ؟ إِنَّ السَّامِعَ يَفْهَمُ ٨٠ فِي الْمِائَةِ مِنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْقَارِئَ لِكَلَامِهِ يَفْهَمُ مِنْهُ ٢٠ فِي الْمِائَةِ عَلَى مَا أَرَادَ الْكَاتِبُ. وَمَعَ ذَلِكَ كُنْتُ أَقْرَأُ التَّفْسِيرَ، وَكَانَ يَحْضُرُهُ بَعْضُ طَلَبَةِ الْأَزْهَرِ وَبَعْضُ طَلَبَةِ الْمَدَارِسِ الْأَمِيرِيَّةِ، وَكُنْتُ أَذْكُرُ كَثِيرًا مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا حَالَةُ الْعَصْرِ فَمَا اهْتَمَّ لَهَا أَحَدٌ - فِيمَا أَعْلَمُ - مَعَ أَنَّهَا كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُكْتَبَ، وَمَا عَلَّمْتُ أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا خَلَا تِلْمِيذَيْنِ قِبْطِيَّيْنِ مِنْ مَدْرَسَةِ الْحُقُوقِ، وَكَانَا يُرَاجِعَانِي فِي بَعْضِ مَا يَكْتُبَانِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا ".
" قَرَأْتُ تَفْسِيرَ سُورَةِ الْعَصْرِ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَكُلُّ دَرْسٍ لَا يَقِلُّ عَنْ سَاعَتَيْنِ أَوْ سَاعَةٍ وَنِصْفٍ. بَيَّنْتُ فِيهَا وَجْهَ كَوْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرٍ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى، وَمَا الْمُرَادُ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، مِمَّا لَوْ جُمِعَ لَكَانَ رِسَالَةً حَسَنَةً فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ. وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا كَتَبَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدَ الْعَزِيزِ ".
(قُلْتُ): إِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَنَبِّهِينَ لِحَالَةِ الْعَصْرِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْبِلَادِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا نَبَّهَهُمْ إِلَّا " الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى " وَأَنَا لَمْ أَنْتَبِهِ التَّنَبُّهَ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ إِلَّا بِهَا.
(قَالَ): " إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُوجَدُ فِيهِمْ خَاصِّيَّةٌ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ بِأَيِّ مَوْضُوعٍ أَمَامَ أَيِّ إِنْسَانٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ يُدْرِكُ الْكَلَامَ وَيَقْبَلُهُ أَمْ لَا، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ كَانَتْ مَوْجُودَةً
عِنْدَ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ يُلْقِي الْحِكْمَةَ لِمُرِيدِهَا وَغَيْرِ مُرِيدِهَا، وَأَنَا كُنْتُ أَحْسُدُهُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّنِي تُؤَثِّرُ فِيَّ حَالَةُ الْمَجَالِسِ وَالْوَقْتِ، فَلَا تَتَوَجَّهُ نَفْسِي لِلْكَلَامِ إِلَّا إِذَا رَأَيْتُ لَهُ مَحَلًّا. وَهَكَذَا الْكِتَابَةُ، فَإِنَّنِي رُبَّمَا أَتَصَوَّرُ أَنْ أَكْتُبَ بِمَوْضُوعٍ وَعِنْدَمَا أُوَجِّهُ قُوَايَ لِجَمْعِ مَا يَحْسُنُ كِتَابَتُهُ تَتَوَارَدُ عَلَى فِكْرِي مَعَانٍ كَثِيرَةٌ، وَوُجُوهٌ لِلْكَلَامِ جَمَّةٌ، ثُمَّ يَأْتِينِي خَاطِرٌ لِمَنْ أُلْقِي هَذَا الْكَلَامَ، وَمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ؟ فَأَتَوَقَّفُ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَأَرَى تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَدِ امْتَصَّ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى تَلَاشَتْ وَلَا أَكْتُبُ شَيْئًا ".
"
1 / 13
إِنَّ حَالَةَ الْمُخَاطَبِ تُؤَثِّرُ بِي جِدًّا، وَلِذَلِكَ لَا أَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ عَنْ حَالَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَمَا أَجْتَمِعُ بِهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ أَفْكَارَهُمْ مُنْصَرِفَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مَعَ سَعَةِ وَقْتِهِمْ. وَعِنْدَ قِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ عَلَى حَسَبِ حَالَةِ الْحَاضِرِينَ، لِأَنَّنِي لَا أُطَالِعُ عِنْدَمَا أَقْرَأُ لَكِنِّي رُبَّمَا أَتَصَفَّحُ كِتَابَ تَفْسِيرٍ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَجْهٌ غَرِيبٌ فِي الْإِعْرَابِ أَوْ كَلِمَةٌ غَرِيبَةٌ فِي اللُّغَةِ. فَإِذَا حَضَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْبُلَدَاءِ الْخَامِلِي الْفِكْرِ أَحُلُّ لَهُمُ الْمَعْنَى بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِمَا أَقُولُ وَيُلْقِي لَهُ بَالًا، يُفْتَحُ عَلَيَّ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ ".
(قُلْتُ): إِنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو مِمَّنْ يَقْدِرُ كَلَامَ الْإِصْلَاحِ قَدْرَهُ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ، وَسَيَزِيدُ عَدَدُهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَالْكِتَابَةُ تَكُونُ مُرْشِدًا لَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ. وَإِنَّ الْكَلَامَ الْحَقَّ وَإِنْ قَلَّ الْآخِذُ بِهِ وَالْعَارِفُ بِشَأْنِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يُحْفَظَ وَيَنْمُوَ بِمُصَادَفَةِ الْمَبَاءَةِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى نَامُوسِ (أَيْ سُنَّةِ) الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، كَمَا حَفِظْتُ " الْعُرْوَةَ الْوُثْقَى " فَإِنَّ أَوْرَاقَهَا الْأَصْلِيَّةَ الضَّعِيفَةَ قَدْ بَلِيَتْ لَكِنْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَالَاتِ الْبَدِيعَةِ الْمِثَالِ وَالْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ، قَدْ حُفِظَتْ فِي الطُّرُوسِ وَالنُّفُوسِ إِلَخْ.
وَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقْنَعْتُهُ بِقِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ فِي الْأَزْهَرِ فَاقْتَنَعَ وَبَدَأَ بِالدَّرْسِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ أَيْ فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ١٣١٧ هـ وَانْتَهَى مِنْهُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ١٣٢٣ هـ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) مِنَ الْآيَةِ ١٢٦ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَقَرَأَ زُهَاءَ خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ فِي سِتِّ سِنِينَ، إِذْ تُوُفِّيَ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَثَابَهُ.
كَانَتْ طَرِيقَتُهُ فِي قِرَاءَةِ الدَّرْسِ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِمَّا ارْتَآهُ فِي كِتَابَةِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ
أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهِ فِيمَا أَغْفَلَهُ أَوْ قَصَّرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَيَخْتَصِرُ فِيمَا بَرَزُوا فِيهِ مِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ وَالْإِعْرَابِ وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ، وَفِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِهَا الْآيَاتُ، وَيَتَوَكَّأُ فِي ذَلِكَ عَلَى عِبَارَةِ " تَفْسِيرِ الْجَلَّالِينَ " الَّذِي هُوَ أَوْجَزُ التَّفَاسِيرِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عِبَارَتَهُ فَيُقِرُّهَا أَوْ يَنْتَقِدُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ مُنْتَقَدًا، ثُمَّ يَتَكَلَّمُ فِي الْآيَةِ أَوِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِمَّا فِيهِ هِدَايَةٌ وَعِبْرَةٌ.
وَكُنْتُ أَكْتُبُ فِي أَثْنَاءِ إِلْقَاءِ الدَّرْسِ مُذَكِّرَاتٍ أُودِعُهَا مَا أَرَاهُ أَهَمَّ مَا قَالَهُ، وَأَحْفَظُ مَا أَكْتُبُ لِأَجْلِ أَنْ أُبَيِّضَهُ، وَأَمُدَّهُ بِكُلِّ مَا أَتَذَكَّرُهُ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ، وَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ أَقْتَرِحَ عَلَى بَعْضِ الرَّاغِبِينَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مِنْ قُرَّاءِ الْمَنَارِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمِنَ الْحَرِيصِينَ عَلَى حِفْظِهِ مِنَ الْإِخْوَانِ بِمِصْرَ أَنْ أَنْشُرَهُ فِي الْمَنَارِ. فَشَرَعْتُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ١٣١٨ هـ وَذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ، وَكُنْتُ أَوَّلًا أُطْلِعُ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ عَلَى مَا أُعِدَّهُ لِلطَّبْعِ كُلَّمَا تَيَسَّرَ
1 / 14
ذَلِكَ بَعْدَ جَمْعِ حُرُوفِهِ فِي الْمَطْبَعَةِ وَقَبْلَ طَبْعِهِ. فَكَانَ رُبَّمَا يُنَقِّحُ فِيهِ بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ حَذْفِ كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّهُ انْتَقَدَ شَيْئًا مِمَّا لَمْ يَرَهُ قَبْلَ الطَّبْعِ، بَلْ كَانَ رَاضِيًا بِالْمَكْتُوبِ بَلْ مُعْجَبًا بِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ نَقْلًا عَنْهُ وَمَعْزُوًّا إِلَيْهِ، بَلْ كَانَ تَفْسِيرًا لِلْكَاتِبِ مِنْ إِنْشَائِهِ، اقْتَبَسَ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الدُّرُوسِ الْعَالِيَةِ جُلَّ مَا اسْتَفَادَهُ مِنْهَا، لِذَلِكَ كُنْتُ أَعْزُو إِلَيْهِ الْقَوْلَ الْمَنْقُولَ عَنْهُ إِذَا جَاءَ بَعْدَ كَلَامٍ لِي فِي بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِذَا انْتَهَى النَّقْلُ وَشَرَعْتُ بِكَلَامِ لِي بَعْدَهُ قُلْتُ فِي بَدْئِهِ (أَقُولُ) وَلَمْ يَكُنْ هَذَا التَّمْيِيزُ مُلْتَزَمًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَلْ يَكْثُرُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَا لَا عَزْوَ فِيهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَا فَهِمْتُهُ مِنْهُ وَمِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْأُخْرَى أَوْ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ عَلَى أَنَّنِي عَبَّرْتُ عَنْهُ بِأَمَالٍ مُقْتَبَسَةٍ.
وَلَمَّا كَانَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - يَقْرَأُ كُلَّ مَا أَكْتُبُهُ، إِمَّا قَبْلَ طَبْعِهِ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَإِمَّا بَعْدَهُ وَهُوَ الْأَقَلُّ، لَمْ أَكُنْ أَرَى حَرَجًا فِيمَا أَعْزُوهُ إِلَيْهِ مِمَّا فَهِمْتُهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَتَبْتُهُ عَنْهُ فِي مُذَكِّرَاتِ الدَّرْسِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ إِيَّاهُ يُؤَكِّدُ صِحَّةَ الْفَهْمِ وَصِدْقَ الْعَزْوِ. وَبَعْدَ أَنْ تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى صِرْتُ أَرَى مِنَ الْأَمَانَةِ أَلَّا أَعْزُوَ إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَتَبْتُهُ عَنْهُ أَوْ حَفِظْتُهُ حِفْظًا، وَصِرْتُ أُكْثِرُ أَنْ أَقُولَ: قَالَ مَا مَعْنَاهُ، أَوْ مَا مِثَالُهُ، أَوْ مَا مُلَخَّصُهُ، مَثَلًا، عَلَى أَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ حَيَّا وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ لَأَقَرَّهُ كُلَّهُ.
وَقَدْ بَدَأْتُ فِي حَيَاتِهِ بِتَجْرِيدِ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ الْمَنَارِ وَطَبْعِهِ عَلَى حِدَّتِهِ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ طَبْعِ نِصْفِهِ، فَهُوَ قَدْ قَرَأَ مَا طُبِعَ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ. وَقَدِ اشْتَدَّ شُعُورِي بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ عَلَيَّ وَحْدِي تَبِعَةَ تَأْلِيفِ تَفْسِيرٍ مُسْتَقِلٍّ وَتَبِعَةَ إِيدَاعِهِ مَا تَلَقَّيْتُهُ عَنْ هَذَا الْعَالِمِ الْكَبِيرِ الْمُشْرِقِ الْبَصِيرَةِ، وَذِي النَّصِيبِ الْوَافِرِ مِنْ إِرْثِ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ ﵇ الَّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) . وَتَبِعَةُ الْأَمَانَةِ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى أَثْقَلُ مِنْ تَبِعَةِ تَحَرِّي الْفَهْمِ الصَّحِيحِ وَأَدَائِهِ بِبَيَانٍ فَصِيحٍ.
وَسَبَبُ الْبَدْءِ بِطَبْعِ الْجُزْءِ الثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ مُخْتَصَرًا وَغَيْرَ مُلْتَزَمٍ فِيهِ مَا الْتَزَمْتُهُ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَفْسِيرِ جَمِيعِ عِبَارَاتِ الْآيَاتِ وَذِكْرِ نُصُوصِهَا مَمْزُوجَةً فِيهِ. وَلِذَلِكَ اقْتَرَحْتُ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَنْ يُعِيدَ النَّظَرَ فِيهِ وَيَزِيدَ فِيهِ مَا يَسْنَحُ لَهُ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ إِيضَاحٍ، وَلَاسِيَّمَا إِيضَاحُ مَا انتقدَ عَلَيْهِ إِجْمَالَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَتَأْوِيلِ قِصَّةِ آدَمَ. فَقَرَأَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْهُ بَعْدَ نَسْخِهِ لَهُ، وَزَادَ فِيهِ مَا يَرَاهُ الْقَارِئُ مَعْزُوًّا إِلَى خَطِّهِ وَمُمَيَّزًا بِوَضْعِهِ بَيْنَ عَلَامَتَيْنِ بِهَذَا الشَّكْلِ () وَزِدْتُ أَنَا فِي جَمِيعِ الْجُزْءِ زِيَادَاتٍ غَيْرَ قَلِيلَةٍ صَارَ بِهَا مُوَافِقًا لِسَائِرِ الْأَجْزَاءِ فِي أُسْلُوبِهِ وَكُنْتُ أُمَيِّزُ زِيَادَتِيَ الْأَخِيرَةَ عَنْ أَقْوَالِيَ الَّتِي أَسْنَدْتُهَا إِلَى نَفْسِي أَوَّلًا فِي حَالِ حَيَاةِ الْأُسْتَاذِ بِقَوْلِي: وَأَزِيدُ الْآنَ، أَوْ وَأَقُولُ الْآنَ، ثُمَّ تَرَكْتُ ذَلِكَ وَاكْتَفَيْتُ بِكَلِمَةِ (أَقُولُ) .
1 / 15
هَذَا وَإِنَّنِي لَمَّا اسْتَقْلَلْتُ بِالْعَمَلِ بَعْدَ وَفَاتِهِ خَالَفْتُ مَنْهَجَهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - بِالتَّوَسُّعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، سَوَاءٌ كَانَ تَفْسِيرًا لَهَا أَوْ فِي حُكْمِهَا، وَفِي تَحْقِيقِ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ أَوِ الْجُمَلِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَفِي الْإِكْثَارِ مِنْ شَوَاهِدِ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَفِي بَعْضِ الِاسْتِطْرَادَاتِ لِتَحْقِيقِ مَسَائِلَ تَشْتَدُّ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَحْقِيقِهَا، بِمَا يُثَبِّتُهُمْ بِهِدَايَةِ دِينِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، أَوْ يُقَوِّي حُجَّتَهُمْ عَلَى خُصُومِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُبْتَدِعَةِ، أَوْ يَحِلُّ بَعْضَ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي أَعْيَا حَلُّهَا بِمَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ وَتَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَأَسْتَحْسَنُ لِلْقَارِئِ أَنْ يَقْرَأَ الْفُصُولَ الِاسْتِطْرَادِيَّةَ الطَّوِيلَةَ وَحْدَهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي يَقْرَأُ فِيهِ التَّفْسِيرَ لِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي النُّهُوضِ بِإِصْلَاحِ أُمَّتِهِ وَتَجْدِيدِ شَبَابِ مِلَّتِهِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْهُ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَخُصَّنِي وَالْأُسْتَاذَ بِدَعَوَاتِهِ الصَّالِحَةِ.
مُحَمَّدٌ رَشِيدٌ رِضًا
1 / 16
مُقَدِّمَةُ التَّفْسِيرِ
(الْمُقْتَبَسَةُ مِنْ دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِالْمَعْنَى، مَعَ الْبَسْطِ وَالْإِيضَاحِ)
التَّكَلُّمُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لَيْسَ بِالْأَمْرِ السَّهْلِ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ وَأَهَمِّهَا، وَمَا كُلُّ صَعْبٍ يُتْرَكُ. وَلِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ طَلَبِهِ. وَوُجُوهُ الصُّعُوبَةِ كَثِيرَةٌ.
أَهَمُّهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ سَمَاوِيٌّ تَنَزَّلَ مِنْ حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا يَكْتَنِهُ كُنْهَهَا عَلَى قَلْبِ أَكْمَلِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَارِفَ عَالِيَةٍ، وَمَطَالِبَ سَامِيَّةٍ، لَا يُشْرِفُ عَلَيْهَا إِلَّا أَصْحَابُ النُّفُوسِ الزَّاكِيَةِ، وَالْعُقُولِ الصَّافِيَةِ، وَإِنَّ الطَّالِبَ لَهُ يَجِدُ أَمَامَهُ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ الْفَائِضَيْنِ مِنْ حَضْرَةِ الْكَمَالِ مَا يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ، وَيَكَادُ يَحُولُ دُونَ مَطْلُوبِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى خَفَّفَ عَلَيْنَا الْأَمْرَ بِأَنْ أَمَرَنَا بِالْفَهْمِ وَالتَّعَقُّلِ لِكَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ نُورًا وَهُدًى، مُبَيِّنًا لِلنَّاسِ شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانُوا يَفْهَمُونَهُ.
وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي نَطْلُبُهُ هُوَ فَهْمُ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ يُرْشِدُ النَّاسَ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَحَيَاتِهِمُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْلَى مِنْهُ، وَمَا وَرَاءَ هَذَا مِنَ الْمَبَاحِثِ تَابِعٌ لَهُ وَأَدَاةٌ أَوْ وَسِيلَةٌ لِتَحْصِيلِهِ.
التَّفْسِيرُ لَهُ وُجُوهٌ شَتَّى:
(أَحَدُهَا): النَّظَرُ فِي أَسَالِيبِ الْكِتَابِ وَمَعَانِيهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ لِيُعْرَفَ بِهِ عُلُوُّ الْكَلَامِ وَامْتِيَازُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَوْلِ، سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ أَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ
الْأُخْرَى وَنَحَا نَحْوَهُ آخَرُونَ.
(ثَانِيهَا): الْإِعْرَابُ: وَقَدِ اعْتَنَى بِهَذَا أَقْوَامٌ تَوَسَّعُوا فِي بَيَانِ وُجُوهِهِ وَمَا تَحْتَمِلُهُ الْأَلْفَاظُ مِنْهَا.
(ثَالِثُهَا): تَتَبُّعُ الْقَصَصِ، وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ أَقْوَامٌ زَادُوا فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مَا شَاءُوا مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ أَخَذُوا جَمِيعَ مَا سَمِعُوهُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ غَثٍّ وَسَمِينٍ، وَلَا تَنْقِيحٍ لِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَلَا يُطَابِقُ الْعَقْلَ.
1 / 17
(رَابِعُهَا): غَرِيبُ الْقُرْآنِ.
(خَامِسُهَا): الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَالِاسْتِنْبَاطُ مِنْهَا. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ وَفَسَّرُوهَا وَحْدَهَا. وَمِنْ أَشْهَرِهِمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَكُلُّ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْفِقْهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، يُعْنَوْنَ بِتَفْسِيرِ آيَاتِ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَكْثَرَ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِسَائِرِ الْآيَاتِ.
(سَادِسُهَا): الْكَلَامُ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَمُقَارَعَةِ الزَّائِغِينَ، وَمُحَاجَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ. وَلِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ الْعِنَايَةُ الْكُبْرَى بِهَذَا النَّوْعِ.
(سَابِعُهَا): الْمَوَاعِظُ وَالرَّقَائِقُ، وَقَدْ مَزَجَهَا الَّذِينَ وَلِعُوا بِهَا بِحِكَايَاتِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْعُبَّادِ، وَخَرَجُوا بِبَعْضِ ذَلِكَ عَنْ حُدُودِ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ الَّتِي وَضَعَهَا الْقُرْآنُ.
(ثَامِنُهَا): مَا يُسَمُّونَهُ بِالْإِشَارَةِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ كَلَامُ الْبَاطِنِيَّةِ بِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الَّذِي يَنْسُبُونَهُ لِلشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ. وَإِنَّمَا هُوَ لِلْقَاشَانِيِّ الْبَاطِنِيِّ الشَّهِيرِ، وَفِيهِ مِنَ النَّزَعَاتِ مَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ دِينُ اللهِ وَكِتَابُهُ الْعَزِيزُ.
وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الْإِكْثَارَ فِي مَقْصِدٍ خَاصٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ يَخْرُجُ بِالْكَثِيرِينَ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، وَيَذْهَبُ بِهِمْ فِي مَذَاهِبَ تُنْسِيهِمْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ؛ لِهَذَا كَانَ الَّذِي نُعْنَى بِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ هُوَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ
، أَيْ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ، وَهِدَايَةٌ مِنَ اللهِ لِلْعَالِمِينَ، جَامِعَةٌ بَيْنَ بَيَانِ مَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَا يَكُونُونَ بِهِ سُعَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ وَيَتْبَعُهُ بِلَا رَيْبٍ: بَيَانُ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَعْنَى وَتَحْقِيقُ الْإِعْرَابِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ أَيْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي عَدُّوهَا مُشْكِلَةً، وَرُبَّمَا نُشِيرُ أَحْيَانًا إِلَى الْإِعْرَابِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِعِبَارَاتِ النَّحْوِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، كَمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَوْ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، حَتَّى لَا تَكُونَ الِاصْطِلَاحَاتُ شَاغِلًا لِلْقَارِئِ عَنِ الْمَعَانِي، صَارِفَةً لَهُ عَنِ الْعِبْرَةِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ: لَا حَاجَةَ إِلَى التَّفْسِيرِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ السَّابِقِينَ نَظَرُوا فِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتَنْبَطُوا الْأَحْكَامَ مِنْهُمَا، فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَنْظُرَ فِي كُتُبِهِمْ وَنَسْتَغْنِيَ بِهِمْ - هَكَذَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الزَّعْمُ لَكَانَ طَلَبُ التَّفْسِيرِ عَبَثًا، يَضِيعُ بِهِ الْوَقْتُ سُدًى وَهُوَ - عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْفِقْهِ - مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى آخَرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَخْطُرُ هَذَا عَلَى بَالِ مُسْلِمٍ؟
الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي جَرَى الِاصْطِلَاحُ عَلَى تَسْمِيَتِهَا فِقْهًا هِيَ أَقَلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ التَّهْذِيبِ وَدَعْوَةِ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهَا وَرَفْعُهَا مِنْ حَضِيضِ الْجَهَالَةِ إِلَى أَوْجِ الْمَعْرِفَةِ،
1 / 18
وَإِرْشَادُهَا إِلَى طَرِيقَةِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا هُوَ أَجْدَرُ بِالدُّخُولِ فِي الْفِقْهِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْإِرْشَادُ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ - كَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ - حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْ عِلْمِ التَّهْذِيبِ، وَلَكِنَّ سُلْطَانَ الْقُرْآنِ
عَلَى نُفُوسِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهُ وَتَأْثِيرَهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ لَا يُسَاهِمُهُ فِيهِ كَلَامٌ، كَمَا أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ حِكَمِهِ وَمَعَارِفِهِ لَمْ يُكْشَفْ عَنْهَا اللِّثَامُ. وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا عَالِمٌ وَلَا إِمَامٌ. ثُمَّ إِنَّ أَئِمَّةَ الدِّينِ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ سَيَبْقَى حُجَّةً عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ: " وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ " وَلَا يُعْقَلُ إِلَّا بِفَهْمِهِ، وَالْإِصَابَةِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَحِكَمِهِ.
خَاطَبَ اللهُ بِالْقُرْآنِ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَلَمْ يُوَجِّهِ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي أَشْخَاصِهِمْ، بَلْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِهِدَايَتِهِ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فَهَلْ يُعْقَلُ أَنَّهُ يَرْضَى مِنَّا بِأَنْ لَا نَفْهَمَ قَوْلَهُ هَذَا وَنَكْتَفِيَ بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِ نَاظِرٍ نَظَرَ فِيهِ، لَمْ يَأْتِنَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا؟ ! كَلَّا إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَفْهَمَ آيَاتِ الْكِتَابِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَالَمٍ وَجَاهِلٍ.
يَكْفِي الْعَامِّيَّ مِنْ فَهْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) إِلَخْ: مَا يُعْطِيهِ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَنَّ الَّذِينَ جُمِعَتْ أَوْصَافُهُمْ فِي الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ لَهُمُ الْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَيَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَوْصَافِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْخُشُوعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ وَمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى مَا فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُ، دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَصِدْقِ الْوَعْدِ، وَالْعِفَّةِ عَنْ إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ، وَأَنَّ مَنْ فَارَقَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ إِلَى أَضْدَادِهَا فَهُوَ الْمُتَعَدِّي حُدُودَ اللهِ، الْمُتَعَرِّضُ لِغَضَبِهِ، وَفَهْمُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِمَّا يَسْهُلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ أَيِّ طَبَقَةٍ كَانَ، وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ لُغَةٍ كَانَ. وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا يَجْذِبُ نَفْسَهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَيَصْرِفُهَا عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ لِهِدَايَتِنَا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنَّا كُلَّ
أَنْوَاعِ الضَّعْفِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. وَهُنَاكَ مَرْتَبَةٌ تَعْلُو عَلَى هَذِهِ وَهِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
لِلتَّفْسِيرِ مَرَاتِبُ أَدْنَاهَا: أَنْ يُبَيِّنَ بِالْإِجْمَالِ مَا يُشْرِبُ الْقَلْبَ عَظَمَةَ اللهِ وَتَنْزِيهَهُ، وَيَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ الشَّرِّ وَيَجْذِبُهَا إِلَى الْخَيْرِ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤: ١٧) .
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ:
(أَحَدُهَا): فَهْمُ حَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي أُودِعَهَا الْقُرْآنُ بِحَيْثُ يُحَقِّقُ الْمُفَسِّرُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مُكْتَفٍ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفَهْمِ فُلَانٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ لِمَعَانٍ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، مِنْ ذَلِكَ لَفْظُ " التَّأْوِيلِ " اشْتُهِرَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهٍ
1 / 19
مَخْصُوصٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعَانٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فَمَا هَذَا التَّأْوِيلُ؟ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ أَنْ يَتَتَبَّعَ الِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ؛ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ. فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْمُفَسِّرُونَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى. فَعَلَى الْمُدَقِّقِ
أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ بِحَسْبِ الْمَعَانِي الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْهَمَ اللَّفْظَ مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسَهُ بِأَنْ يَجْمَعَ مَا تَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَلَفْظِ " الْهِدَايَةِ " - سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي الْفَاتِحَةِ - وَغَيْرِهِ، وَيُحَقِّقُ كَيْفَ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُ مَعَ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَعْرِفُ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ مِنْ بَيْنِ مَعَانِيهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ أَفْضَلَ قَرِينَةٍ تَقُومُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ مُوَافَقَتُهُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْقَوْلِ، وَاتِّفَاقُهُ مَعَ جُمْلَةِ الْمَعْنَى، وَائْتِلَافُهُ مَعَ الْقَصْدِ الَّذِي جَاءَ لَهُ الْكِتَابُ بِجُمْلَتِهِ.
(ثَانِيهَا): الْأَسَالِيبُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهَا مَا يَفْهَمُ بِهِ هَذِهِ الْأَسَالِيبَ الرَّفِيعَةَ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمُمَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمُزَاوَلَتِهِ، مَعَ التَّفَطُّنِ لِنُكَتِهِ وَمَحَاسِنِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِالْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. نَعَمْ إِنَّنَا لَا نَتَسَامَى إِلَى فَهْمِ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَلَكِنْ يُمْكِنُنَا فَهْمُ مَا نَهْتَدِي بِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَعِلْمِ الْأَسَالِيبِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْفُنُونِ وَفَهْمِ مَسَائِلِهَا وَحِفْظِ أَحْكَامِهَا لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.
تَرَوْنَ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُسَدَّدِينَ فِي النُّطْقِ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يُوَافِقُ الْقَوَاعِدَ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، أَتَحْسَبُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَبِيعِيًّا لَهُمْ؟ كَلَّا، وَإِنَّمَا هِيَ مَلَكَةٌ مُكْتَسَبَةٌ بِالسَّمَاعِ وَالْمُحَاكَاةِ، وَلِذَلِكَ صَارَ أَبْنَاءُ الْعَرَبِ أَشَدَّ عُجْمَةً مِنَ الْعَجَمِ عِنْدَمَا اخْتَلَطُوا بِهِمْ. وَلَوْ كَانَ طَبِيعِيًّا ذَاتِيًّا لَهُمْ لَمَا فَقَدُوهُ فِي مُدَّةِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ بَعْدِ الْهِجْرَةِ.
(ثَالِثُهَا): عِلْمُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذَا الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ
آخِرَ الْكُتُبِ، وَبَيَّنَ فِيهِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي غَيْرِهِ. بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَطَبَائِعِهِمْ وَالسُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْبَشَرِ، قَصَّ عَلَيْنَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَنِ الْأُمَمِ وَسِيَرِهَا الْمُوَافَقَةِ لِسُنَّتِهِ فِيهَا. فَلَا بُدَّ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي أَطْوَارِهِمْ وَأَدْوَارِهِمْ، وَمَنَاشِئِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ
1 / 20
وَضَعْفٍ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ، وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَمِنَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَيُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى فُنُونٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهَمِّهَا التَّارِيخُ بِأَنْوَاعِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَنَا لَا أَعْقِلُ كَيْفَ يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (٢: ٢١٣) الْآيَةَ - وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَحْوَالَ الْبَشَرِ، وَكَيْفَ اتَّحَدُوا، وَكَيْفَ تَفَرَّقُوا؟ وَمَا مَعْنَى تِلْكَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ وَهَلْ كَانَتْ نَافِعَةً أَمْ ضَارَّةً؟ وَمَاذَا كَانَ مِنْ آثَارِ بَعْثِهِ النَّبِيِّينَ فِيهِمْ.
أَجْمَلَ الْقُرْآنُ الْكَلَامَ عَنِ الْأُمَمِ، وَعَنِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعَنْ آيَاتِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفَسِ، وَهُوَ إِجْمَالٌ صَادِرٌ عَمَّنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَمَرَنَا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِنَفْهَمَ إِجْمَالَهُ بِالتَّفْصِيلِ الَّذِي يَزِيدُنَا ارْتِقَاءً وَكَمَالًا، وَلَوِ اكْتَفَيْنَا مِنْ عِلْمِ الْكَوْنِ بِنَظْرَةٍ فِي ظَاهِرِهِ، لَكُنَّا كَمَنْ يَعْتَبِرُ الْكِتَابَ بِلَوْنِ جِلْدِهِ لَا بِمَا حَوَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ.
(رَابِعُهَا): الْعِلْمُ بِوَجْهِ هِدَايَةِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ بِالْقُرْآنِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ
الْقَائِمِ بِهَذَا الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ أَنْ يَعْلَمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُنَادِي بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَانُوا فِي شَقَاءٍ وَضَلَالٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بُعِثَ بِهِ لِهِدَايَتِهِمْ وَإِسْعَادِهِمْ. وَكَيْفَ يَفْهَمُ الْمُفَسِّرُ مَا قَبَّحَتْهُ الْآيَاتُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِأَحْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ؟ هَلْ يَكْتَفِي مِنْ عُلَمَاءِ الْقُرْآنِ دُعَاةِ الدِّينِ وَالْمُنَاضِلِينَ عَنْهُ بِالتَّقْلِيدِ بِأَنْ يَقُولُوا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِمْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ دَحَضَ أَبَاطِيلَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ؟ كَلَّا.
وَأَقُولُ الْآنَ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ " وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ حَالَ النَّاسِ قَبْلَهُ يَجْهَلُ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ وَعِنَايَةَ اللهِ بِجَعْلِهِ مُغَيِّرًا لِأَحْوَالِ الْبَشَرِ وَمُخْرِجًا لَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَنْ جَهِلَ هَذَا يَظُنُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَمْرٌ عَادِيٌّ. كَمَا تَرَى بَعْضَ الَّذِينَ يَتَرَبَّوْنَ فِي النَّظَافَةِ وَالنَّعِيمِ يَعُدُّونَ التَّشْدِيدَ فِي الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ وَالسِّوَاكِ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ، وَلَوِ اخْتَبَرُوا غَيْرَهُمْ مِنْ طَبَقَاتِ النَّاسِ لَعَرَفُوا الْحِكْمَةَ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ وَتَأْثِيرَ تِلْكَ الْآدَابِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟
(خَامِسُهَا): الْعِلْمُ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الشُّئُونِ دُنْيَوِيِّهَا وَأُخْرَوِيِّهَا.
1 / 21