ونزلنا بلدة غزة في بيت، والناس هناك يسألون عنا، فقلنا إننا من بلاد الترك نفيا للشبهة. وبعد بضعة أشهر آن وقت الولادة، فوضعت السيدة هذا الغلام، فسميناه غريبا لأنه ولد في بلاد غربة!
وبعد أن تمت الولادة، كما ذكرت، أخذنا نفكر في وسيلة ننسى بها تلك المصائب، وفي مكان نعيش به يعزي هذه الحزينة عن فقد زوجها، فعلمنا بالاستقصاء أن جبل لبنان من أفضل ما خلق الله من الأماكن الجيدة الهواء، فتاقت أنفسنا إلى الإقامة فيه، ولا سيما بعد أن سمعنا عن تيقظ أميره وتعهده راحة الرعية وسيادة الأمن بينهم، وقد كنت - فضلا عن ذلك - أرى في سيدتي الأميرة ميلا خاصا إلى السكنى بهذا الجبل لداع لا أعلمه.
خرجنا من غزة، ثم مررنا بيافا فاسترحنا فيها مدة، ثم شددنا الرحال إلى عكا، وهناك أصبنا بمصيبة لا تقل عن المصيبة الأولى هولا.»
فأصاخ الرئيس متلهفا لسماع ما يقوله العبد، وقد تأثر بحديثه تأثرا أجرى عبراته لأنه كان من ذوي الشفقة، والشفقة صفة أكثر ما تكون فيمن يعيشون عيشة الفطرة بعيدين عن المدن.
وأتم العبد كلامه قائلا: «تأمل أيها الأب المحترم حظ هذه المسكينة، إنها - بعد وصولنا إلى عكا ببضعة أسابيع - فقدت ابنها الأكبر بكيفية غريبة.»
قال الرئيس: «وكيف ذلك؟»
فقال العبد: «اتخذنا في عكا مسكنا منفردا في أحد المنازل على شاطئ البحر ترويحا للنفس، وتجنبا لانكشاف أمرنا، فمكثنا في تلك المدينة بضعة أسابيع نسأل عن أسهل السبل المؤدية إلى لبنان، وعن أفضل جهة من جهاته. وكانت سيدتي الأميرة لشدة تعلقها بابنها سليم، شبيه والده، لا ترد طلبه لشيء، واتفق في أحد الأيام أنه رأى غلمان الحي ينزلون إلى البحر بقارب صغير للتنزه، فطلب الذهاب معهم فأبت والدته خوفا عليه من الغرق، فألح عليها فأذنت له على أن أكون أنا برفقته، فجرى بنا القارب في البحر يسيرا، فسر سليم بذلك كثيرا، ثم عدنا إلى البر سالمين. وقد لاحظت في أثناء جري القارب أن عيني الغلام، لم تفارقا النوتي لحظة، بل كان يراقب حركاته وسكناته وكيفية استخدام المجاذيف، وكأنه أحب مهنة الملاحة.
فلما وصلنا إلى الشاطئ، وجدنا السيدة الوالدة في انتظارنا فقبلت الغلام ثم عدنا إلى البيت، ولكن لسوء الحظ كان ذلك النوتي يرسو بقاربه بالقرب من منزلنا، فيشده مساء إلى صخر هناك، ويذهب إلى بيته، فإذا عرض له راكب، يأتي إلى القارب فيحله ويذهب به معه، ومتى انتهى من النزهة يعود فيشده في مكانه. مضت على ذلك بضعة أيام، ثم خرج الغلام ليلعب خارج البيت كما جرت عادته بذلك، وكنا نحن في البيت ندبر بعض المهام لغريب فانشغلنا ساعتين، ثم انتبهت والدته بغتة ونادت: «أين سليم؟» فقلت لها: «قد تركته يلعب أمام البيت.» ثم خرجنا نفتش عنه، فلم نقف له على أثر فصاحت: «ويلاه قد فقد الولد!» فأخذت أناديه وأستطلع أمره وقد ذهب كل جهدي عبثا، ثم نظرت إلى البحر فلم أر القارب، وقد كان منذ أيام لا ينفك مشدودا إلى الشاطئ، فقلت في نفسي: «أظنه ركب القارب يجرب نفسه في مهنة الملاحة، فقذفته الأمواج إلى حيث لا نعلم.»
أما الأميرة الوالدة، فقد أخذت تصيح وتندب حظها وولدها وتقطع شعرها، حتى أغمي عليها، وصرت في حيرة، فأخذت في تسكين روعها. ثم قمت أفتش عن الغلام في جوار المنزل، وبعثت مناديا ينشده في الأسواق، فلم أقف له على خبر. وبعد التفتيش عنه أربعة أيام يئسنا من العثور عليه، فكرهنا البقاء في تلك المدينة. والمصيبة الكبرى، أننا لم نكن نستطيع الظهور أمام الحكومة لنطلب إليها التفتيش عن الغلام بوسائلها الدقيقة؛ خوفا من أن ينكشف أمرنا، ويعود ذلك وبالا علينا.
غادرنا عكا ونحن في حالة يرثى لها من الحزن والكدر، وهذه المسكينة لا تنفك عن البكاء ليلا ونهارا، حتى أسقمت ولدها الآخر من إرضاعه ألبان الهموم والأحزان ...» قال ذلك، وتساقطت العبرات من عينيه فبكى معه الرئيس. ثم قال العبد: «لا أطيل عليك أيها الأب المحترم، ثم وصلنا صيداء، وهناك علمنا أن هذه الجهة من أفضل جهات لبنان فأخذنا نسير فيها من قرية إلى أخرى، وقد صممنا على الإقامة في مكان منفرد، فهدانا بعض العارفين إلى هذا الدير، فسرنا صباح أمس على أمل الوصول إليكم عند الظهيرة، ورافقنا رجل من إحدى القرى معظم الطريق، وكنا كلما سألناه عن المكان المقصود يقول: «ها قد وصلنا فإنه لا يبعد منا أكثر من مرمى حجر، أو طول رسن بغل، أو مقدار شرب غليون» أو غير ذلك، حتى أنهكنا التعب، وتبللت ثيابنا من الأمطار، وقاسينا من البرد أشد العناء ولم نستطع الركوب لوعورة الطريق، فغربت الشمس ونحن في مكان قيل لنا إنه قرية بيت الدين مسكن أمير هذه البلاد.
Unknown page