أبطال الرواية
المملوك الشارد
أبطال الرواية
المملوك الشارد
المملوك الشارد
المملوك الشارد
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
محمد علي باشا الكبير:
Unknown page
والي مصر.
إبراهيم باشا:
ابن محمد علي وخليفته.
إسماعيل باشا:
ابن محمد علي.
الملك النمر:
ملك شندي في السودان.
الأمير بشير الشهابي:
حاكم لبنان.
أمين بك:
Unknown page
من أمراء المماليك.
غريب:
ابن أمين بك.
الأميران أمين وخليل:
أبناء الأمير بشير.
عبد الله باشا الجزار:
والي عكا.
جميلة:
زوجة أمين بك.
سالم أغا:
Unknown page
من ضباط جيش إبراهيم.
سعيد:
خادم أمين بك.
المملوك الشارد
جبل لبنان
جبل لبنان: سلسلة جبال شامخة، يشرف على البحر الأبيض المتوسط، وتفصله عنه شواطئ سوريا، وهو آهل بالعشائر، تكسوه المزارع والغياض، ويلبسه الثلج عمامة بيضاء على مدار السنة. وقد كانت حكومته إلى منتصف القرن الماضي في قبضة أمراء من عشائر مختلفة، ينتهي نسب أكبر عشيرة منهم إلى لؤي بن كعب من قريش، وهؤلاء هم الأمراء الشهابيون أو بنو شهاب.
وقد حكم الأمراء الشهابيون في لبنان أكثر من سائر العشائر الأخرى، وكان مركز حكومتهم غالبا بلدة دير القمر، وهي واقعة غربي الجبل المذكور، في سفح مشرف على واد خصب، يفصلها عن سفح آخر مقابل له، ويحيط بها كغيرها من قرى لبنان بساتين مغروسة بالكرم والتين والتوت وغيرها.
وفي أواخر القرن الثامن عشر، اتصلت إمارة هذا الجبل بالأمير بشير الشهابي، المعروف بالمالطي والمشهور بعلو الهمة والشجاعة وعظم الهيبة، حتى إن كثيرين كانوا لا يقوون على التأمل في وجهه والوقوف بين يديه أو التكلم في حضرته، دون أن يقع الرعب في قلوبهم، والرعدة في فرائصهم، مع ما عرف به اللبنانيون من قوة البدن ورباطة الجأش.
وكان في السفح المقابل لدير القمر قرية صغيرة، تدعى بيت الدين، فيها معبد لطائفة الدروز، فابتاعها الأمير بشير، وابتنى فيها دورا ومتنزهات له ولأولاده، وأحضر إليها المياه فأصبحت من أبهى المتنزهات منظرا، وأحسنها هواء.
وقد عرف الأمير بشير بتيقظه الدائم وتعهده راحة الرعية. وكانت له فراسة خاصة في معرفة الأشخاص وأطوارهم، فكثيرا ما كان يكتشف الجاني بمجرد النظر إليه، وتأمل حركاته، ويروون عنه في ذلك أحاديث أشبه بالخرافات منها بالحقائق، يتحدث بها العامة والخاصة. وقد كان في جملة مساعيه لحفظ السلام، ومنع التعدي، اختيار رجال اختبر شجاعتهم وحذقهم، وبثهم في تلك الأودية، يتربصون في مخابئها، يراقبون حركات الناس، فإذا خرج أحد في حاجة من قرية إلى أخرى، تراقب عيون أولئك المتربصين حركاته، وربما رافقوه كل طريقه وهو لا يعلم، وفي صباح الغد يأتون إلى الأمير ويخبرونه بما شاهدوه وعلموه، فكان بذلك على بينة من جميع أحوال رعيته، وكان ذا ذاكرة وقادة لا تفوته فائتة، حتى قيل إنه موجود في كل مكان، فساد الأمن على عهده في جبل لبنان حتى إن النساء والأطفال كانوا يخرجون ليلا ونهارا وفي أيديهم المال، يسافرون من بلد إلى آخر، ومن مقاطعة إلى أخرى، لا يخشون حرجا ولا يخافون معتديا.
Unknown page
طارق مفاجئ
وكان بجوار بيت الدين دير منفرد فيه جماعة من الرهبان يقضون جانبا من نهارهم في العبادة، والجانب الآخر في حرث حقول الدير، التي يستغلون منها قمحهم وزيتهم وخمرهم وسائر حاجات طعامهم.
ففي مساء يوم من أيام شهر «ديسمبر» سنة 1812، وقد قضى الرهبان معظم نهارهم في جرف الثلوج المتراكمة على سطوح الدير، دخلوا غرفة من غرفه قد أوقدوا فيها حطبا، وأحاطوا بالنار يستدفئون ويتسامرون، والباب مقفل عليهم، وهم متسربلون بعباءات مشدودة إلى أوساطهم. وكان يعترض حديثهم قصف الرعد، ولمعان البرق وهطول المطر، والجليد المتساقط على جدران الدير ونوافذه، وهزيم الرياح والعواصف التي تكثر في فصل الشتاء.
فقال رئيسهم: «قد سمعت اليوم حديثا أقلقني، فهل طرق آذانكم؟» فقالوا: «وما ذلك الحديث؟»
قال: «بلغني أن اثنين من بني المعلوف، من قرية بسكنتا، تعرضا لبطريرك الكاثوليك، أغناطيوس صروف الدمشقي، بالقرب من قرية زوق مكايل، وقتلاه، وقد علمت أن الأمير بشيرا أسف لذلك، وقد سعى في القصاص من المذنبين.»
فقال أحد الرهبان: «كيف يحدث مثل هذا في إمارة الأمير بشير إلا إذا كان بتواطؤ منه، لا يغرنك ما سمعته عن كدره فإن الشهابيين لا يهمهم قتل كل البطاركة لأنهم ليسوا من دينهم.»
فقاطعه الرئيس بقوله: «أظنك لا تعلم أن الأمير قد اعتنق الديانة المسيحية سرا!»
فقال أحدهم: «أصحيح ما تقول؟ ولماذا هذا التستر إذن؟ أليس الأولى به إعلان تنصره والتصريح به وإلا فهو مخالف لقول الإنجيل؟»
فقال الرئيس: «لا يخفى عليكم أنه يترتب على إعلان تنصره أضرار مادية تضر بمصلحته، فضلا عن كره بني شهاب عامة له؛ لاتصال نسبهم بقبيلة قريش، وكم عزل وولي على عهد أحمد باشا الجزار بسبب ذلك!»
فقال راهب: «كيف يكون مسيحيا ولم نشاهده يزور كنيسة لأداء الفروض النصرانية؟»
Unknown page
فقال الرئيس: «إن الأمير لا يغفل عن أداء واجباته إبان الصلاة المفروضة في ديننا، وقد خصص غرفة خفية من غرف قصره اتخذها كنيسة يصلي فيها سرا، ولا يعرف تلك الغرفة إلا أفراد قليلون؛ فإن بابها مكسو بما يشبه لون الحائط، حتى لا ينتبه الناظر إلى أن في ذلك الحائط بابا.»
فقال راهب قوي الإيمان: «لا يليق بنا أن نرائي في عقيدتنا، وننكر مخلصنا رغبة في مصلحة دنيانا.»
فقاطعه الرئيس قائلا: «اخفض صوتك حتى لا يبلغ قولك مسامع الأمير فنقع في شر أقوالنا.»
فقال الراهب مقهقها: «أين نحن وأين الأمير بشير؟ أليس بيننا وبينه أكثر من ميلين؟»
فقال الرئيس: «لا أعلم مقدار البعد بيننا وبينه، وإنما أعلم أنه رجل قد خصه الله بما لم يخص به أحدا من الناس غيره، وكأني بجميع هذه الجدران عيون وأرصاد تنقل له الأخبار فيعلم ما يجري بأقاصي لبنان وهو جالس في قصره.»
ولم يكد يتم الرئيس كلامه، حتى سمع طارقا يطرق الباب فوقع الرعب في قلبه وقلوب رهبانه، ولم يستطع أحد منهم النهوض لفتح الباب، فأخذوا يهمسون فيما بينهم ليختلقوا عذرا يبرئون به أنفسهم، وفي أثناء ذلك نهض أحدهم وفتح الباب، وإذا هو برجل أسود اللون طويل القامة غريب الزي، إلى جانبه امرأة مبرقعة عليها ثياب سود حالكات، وعلى يدي الأسود طفل، وكلهم ينتفضون من شدة البرد. فسألهما الراهب عن قصدهما. فقال الرجل: «هل هذا المكان دير؟» قال: «نعم.» قال: «هل تقبلوننا عندكم ضيوفا هذه الليلة؟» قال: «نعم.» وأدخلهما الغرفة وأجلسهما على مقعد بالقرب من الرئيس، فتأملهما الرئيس فإذا هما غريبا الشكل والملامح فسكن جأش الرهبان، وظهر لهم من مجمل حالهما أنهما آتيان من مكان بعيد، وقد قاسيا عذابا شديدا من التعب والبرد.
فبدأ الرئيس بالكلام قائلا: «حقا إنكما قد شرفتمانا هذه الليلة، وحلت البركة بحلولكما عندنا، فمرحبا بكما، من أين أتيتما؟» فأجابه الرجل متأوها: «قد أتينا أيها الأب المحترم من بلاد بعيدة.» فقال الرئيس: «إذن لا بد أنكما محتاجان إلى طعام.» ثم أمر أحد الرهبان فجاءهما بطعام من اللبن والجبن و«القاورمة» والعسل، وبأرغفة رقاق فأكلا وشربا قليلا من الخمر الجيدة المعتقة التي يعز وجودها في غير الأديرة. وقد أماطت المرأة البرقع، في أثناء الأكل، عن وجه كأنه البدر، ومع ما كان يبدو عليه من دلائل التعب والشقاء والحزن والكآبة، فقد كانت تتجلى فيه ملامح المهابة والجلال، فتعجب الجميع من مرافقة هذا الملاك الأبيض لذلك العبد الأسود.
وأمر الرئيس لهما بكثرة الوقود فجلسا يستدفئان ويستريحان، والرئيس يتأمل هيأتهما وملابسهما وحديثهما، فلاح له أنهما ليسا من لبنان، فبدأ الحديث معهما ثانية قائلا: «اسمحا لي أن أسألكما عن سبب مجيئكما إلى هذه القرية في هذا الليل، وإن كان ذلك غير لائق منا، فقد ظهر لي أنكما من بلاد بعيدة، فهل حضرتما من دمشق؟»
فأجاب الرجل: «لا، ولكننا من إحدى قرى تلك المدينة، وفي صباح الغد إن شاء الله نشرح لكم حقيقة حالنا.»
قال الرئيس: «حسنا، يظهر أنكما في حاجة إلى النوم، وقد أعددنا لكما فراشا.» ثم أمر أحد الرهبان أن يأخذهما إلى غرفة وضع فيها مصباح زيتي، وفرش على أرضها فراشان حقيران لكنهما نظيفان مرتبان - واللبنانيون أهل نظافة وترتيب على اختلاف طبقاتهم، حتى أفقر الفقراء منهم لا تستنكف من مؤاكلته أو مجالسته أو النوم في فراشه إذا نزلت عنده - فغسلا أرجلهما بماء ساخن أحضر لهما، ثم سألهما الرئيس عما إذا كان في نفسيهما حاجة إلى شيء بعد ، فقالا: «لا.»
Unknown page
فغادر الرئيس ومن معه الغرفة وأغلقوا بابها وراءهم، وهم يتساءلون فيما بينهم عن أمر هذا الرجل وهذه المرأة وطفلها، ثم عادوا إلى غرفة التدفئة.
فقال الرئيس: «نحمد الله على نجاتنا من غضب الأمير بشير، فقد كنت خائفا أن يكون الطارق أحد جواسيسه.» فقال راهب: «وما يدريك، لعل هذا الرجل من الجواسيس!» فاعترضه سائر الرهبان معا قائلين: «ذلك لا يمكن أن يكون، ألم تفهم من مجمل حالهما أنهما غريبان، وفي صباح الغد نعلم الحقيقة.» وبعد ساعة أو بعض الساعة، سار كل إلى غرفته للنوم.
سر عميق
وفي الصباح خرج الرهبان مبكرين كعادتهم، لجرف الثلوج التي تراكمت على أبواب الغرف وسطوحها في تلك الليلة. فلما كان الضحى استيقظ الضيوف، وبعد أن تناولوا القهوة والطعام، طلب العبد الأسود الانفراد برئيس الدير فانفردا في غرفة.
فقال العبد: «هل عندكم للسر مكان؟» قال الرئيس: «تكلم ولا تخف فإننا نحن جماعة الأكليروس، قد عهد إلينا بحفظ أسرار الشعوب، وعندنا سر الاعتراف.» فقال العبد: «إني أعلم ذلك، وهذا مما يدعو إلى ثقتنا بك، فاعلم يا سيدي الأب أننا لسنا من دمشق ولا من قراها، وإنما نحن من بلاد مصر وقد جئنا إلى هذه البلاد فرارا من القتل.»
قال الرئيس: «وكيف ذلك؟»
قال العبد: «إن السيدة جميلة التي رأيتها معي، هي زوجة أمير من أمراء المماليك الذين كانوا حكاما لمصر قبل ولاية الوالي الحالي المدعو محمد علي باشا القولي.»
فابتدره الرئيس قائلا: «قد سمعنا أن محمد علي باشا المذكور قد ذبح الأمراء المماليك في السنة الماضية بقلعة القاهرة، بعد أن دعاهم إلى الاحتفال بخروج ابنه طوسون لمقاتلة الوهابيين بجزيرة العرب.»
فقال العبد: «نعم يا سيدي، وكان زوج هذه الأميرة في جملة المدعوين إلى ذلك الاحتفال، وقد ذبح في جملة من ذبح، فإننا لم نسمع أن أحدا منهم استطاع النجاة من تلك المذبحة، ولم يكتف محمد علي باشا بقتل هؤلاء الأمراء بل أباح لرجاله قتل كل من يلاقونه من أتباعهم في كل جهات القطر، فأغارت العساكر المصرية والأرناءوط والمغاربة وغيرهم على دور الأمراء، وأمعنوا فيهم قتلا وفتكا بغير شفقة ولا حساب.
وقد كنت في بيت ذلك الأمير خصيا من خصيان قصره، وكنت أحبه حبا عظيما، وكانت هذه الأميرة حبلى، ولها غلام سنه سبع سنوات اسمه سليم، فطلبت إلي الفرار بها وبابنها من وجه الموت والعار، ولما كنت أعلم أن الإخلاص وصدق الخدمة إنما يظهران في مثل هذه الحال، فقد لبيت طلبها وحملنا ما استطعنا من خفيف الحمل وغالي الثمن، وخرجنا من المدينة في ظلام الليل على ظهور خيل، فلما صرنا إلى خارجها جددنا المسير، مع صعوبة الركوب على تلك السيدة المنكودة الحظ، حتى بعدنا عن المدينة فلجأنا إلى مكان اختبأنا فيه إلى الصباح، ثم تابعنا السير في الصباح التالي. وما زلنا نجد في السير ما استطعنا، حتى دخلنا حدود سوريا، ولا تسل عما قاسته هذه المسكينة من العذاب والمشقة، وما ذرفته من الدموع الغزار.
Unknown page
ونزلنا بلدة غزة في بيت، والناس هناك يسألون عنا، فقلنا إننا من بلاد الترك نفيا للشبهة. وبعد بضعة أشهر آن وقت الولادة، فوضعت السيدة هذا الغلام، فسميناه غريبا لأنه ولد في بلاد غربة!
وبعد أن تمت الولادة، كما ذكرت، أخذنا نفكر في وسيلة ننسى بها تلك المصائب، وفي مكان نعيش به يعزي هذه الحزينة عن فقد زوجها، فعلمنا بالاستقصاء أن جبل لبنان من أفضل ما خلق الله من الأماكن الجيدة الهواء، فتاقت أنفسنا إلى الإقامة فيه، ولا سيما بعد أن سمعنا عن تيقظ أميره وتعهده راحة الرعية وسيادة الأمن بينهم، وقد كنت - فضلا عن ذلك - أرى في سيدتي الأميرة ميلا خاصا إلى السكنى بهذا الجبل لداع لا أعلمه.
خرجنا من غزة، ثم مررنا بيافا فاسترحنا فيها مدة، ثم شددنا الرحال إلى عكا، وهناك أصبنا بمصيبة لا تقل عن المصيبة الأولى هولا.»
فأصاخ الرئيس متلهفا لسماع ما يقوله العبد، وقد تأثر بحديثه تأثرا أجرى عبراته لأنه كان من ذوي الشفقة، والشفقة صفة أكثر ما تكون فيمن يعيشون عيشة الفطرة بعيدين عن المدن.
وأتم العبد كلامه قائلا: «تأمل أيها الأب المحترم حظ هذه المسكينة، إنها - بعد وصولنا إلى عكا ببضعة أسابيع - فقدت ابنها الأكبر بكيفية غريبة.»
قال الرئيس: «وكيف ذلك؟»
فقال العبد: «اتخذنا في عكا مسكنا منفردا في أحد المنازل على شاطئ البحر ترويحا للنفس، وتجنبا لانكشاف أمرنا، فمكثنا في تلك المدينة بضعة أسابيع نسأل عن أسهل السبل المؤدية إلى لبنان، وعن أفضل جهة من جهاته. وكانت سيدتي الأميرة لشدة تعلقها بابنها سليم، شبيه والده، لا ترد طلبه لشيء، واتفق في أحد الأيام أنه رأى غلمان الحي ينزلون إلى البحر بقارب صغير للتنزه، فطلب الذهاب معهم فأبت والدته خوفا عليه من الغرق، فألح عليها فأذنت له على أن أكون أنا برفقته، فجرى بنا القارب في البحر يسيرا، فسر سليم بذلك كثيرا، ثم عدنا إلى البر سالمين. وقد لاحظت في أثناء جري القارب أن عيني الغلام، لم تفارقا النوتي لحظة، بل كان يراقب حركاته وسكناته وكيفية استخدام المجاذيف، وكأنه أحب مهنة الملاحة.
فلما وصلنا إلى الشاطئ، وجدنا السيدة الوالدة في انتظارنا فقبلت الغلام ثم عدنا إلى البيت، ولكن لسوء الحظ كان ذلك النوتي يرسو بقاربه بالقرب من منزلنا، فيشده مساء إلى صخر هناك، ويذهب إلى بيته، فإذا عرض له راكب، يأتي إلى القارب فيحله ويذهب به معه، ومتى انتهى من النزهة يعود فيشده في مكانه. مضت على ذلك بضعة أيام، ثم خرج الغلام ليلعب خارج البيت كما جرت عادته بذلك، وكنا نحن في البيت ندبر بعض المهام لغريب فانشغلنا ساعتين، ثم انتبهت والدته بغتة ونادت: «أين سليم؟» فقلت لها: «قد تركته يلعب أمام البيت.» ثم خرجنا نفتش عنه، فلم نقف له على أثر فصاحت: «ويلاه قد فقد الولد!» فأخذت أناديه وأستطلع أمره وقد ذهب كل جهدي عبثا، ثم نظرت إلى البحر فلم أر القارب، وقد كان منذ أيام لا ينفك مشدودا إلى الشاطئ، فقلت في نفسي: «أظنه ركب القارب يجرب نفسه في مهنة الملاحة، فقذفته الأمواج إلى حيث لا نعلم.»
أما الأميرة الوالدة، فقد أخذت تصيح وتندب حظها وولدها وتقطع شعرها، حتى أغمي عليها، وصرت في حيرة، فأخذت في تسكين روعها. ثم قمت أفتش عن الغلام في جوار المنزل، وبعثت مناديا ينشده في الأسواق، فلم أقف له على خبر. وبعد التفتيش عنه أربعة أيام يئسنا من العثور عليه، فكرهنا البقاء في تلك المدينة. والمصيبة الكبرى، أننا لم نكن نستطيع الظهور أمام الحكومة لنطلب إليها التفتيش عن الغلام بوسائلها الدقيقة؛ خوفا من أن ينكشف أمرنا، ويعود ذلك وبالا علينا.
غادرنا عكا ونحن في حالة يرثى لها من الحزن والكدر، وهذه المسكينة لا تنفك عن البكاء ليلا ونهارا، حتى أسقمت ولدها الآخر من إرضاعه ألبان الهموم والأحزان ...» قال ذلك، وتساقطت العبرات من عينيه فبكى معه الرئيس. ثم قال العبد: «لا أطيل عليك أيها الأب المحترم، ثم وصلنا صيداء، وهناك علمنا أن هذه الجهة من أفضل جهات لبنان فأخذنا نسير فيها من قرية إلى أخرى، وقد صممنا على الإقامة في مكان منفرد، فهدانا بعض العارفين إلى هذا الدير، فسرنا صباح أمس على أمل الوصول إليكم عند الظهيرة، ورافقنا رجل من إحدى القرى معظم الطريق، وكنا كلما سألناه عن المكان المقصود يقول: «ها قد وصلنا فإنه لا يبعد منا أكثر من مرمى حجر، أو طول رسن بغل، أو مقدار شرب غليون» أو غير ذلك، حتى أنهكنا التعب، وتبللت ثيابنا من الأمطار، وقاسينا من البرد أشد العناء ولم نستطع الركوب لوعورة الطريق، فغربت الشمس ونحن في مكان قيل لنا إنه قرية بيت الدين مسكن أمير هذه البلاد.
Unknown page
فلما وصلنا إلى هناك أشار الرجل إلى مكان هذا الدير، وقال: «اعذراني إذ لا يمكنني الوصول معكما إلى هناك»، وودعنا ورجع، كل ذلك والبرد شديد والثلوج متراكمة، وقد لامنا كثيرون على قدومنا إلى هذه الأماكن في فصل الشتاء، ولكن المقدر المحتوم لا سبيل إلى التخلص منه.
بعد أن فارقنا ذلك الرجل، لقينا رجل متسربل بعباءة سوداء، يظهر عليه أنه ليس من عامة الناس، فسألنا بكل لطف عن وجهة مسيرنا، فأجبناه بأن علينا نذرا للدير الفلاني، وقد أتينا الآن لوفائه، فقال: «أتريدان أن أرافقكما إلى ذلك الدير لأني أراكما غريبي الديار؟» قلنا: «ولكم الفضل.» فلما وصلنا إلى باب الدير وقف بنا الرجل هنيهة، ثم قال: «هذا هو المكان فاقرعوا الباب يفتح لكم»، ثم ودعنا وسار فشكرنا فضله، وقرعنا باب الدير ففتح لنا ودخلنا على ما رأيتمونا.»
وبدا القلق على الرئيس، فقد يكون ذلك الرفيق جاسوسا من جواسيس الأمير بشير سمع شيئا مما قالوه، ولكن تأثره من قصة سعيد شغله عن التفكير في غيرها.
والتفت الرئيس إلى سعيد قائلا: «طب نفسا يا ولدي وقر عينا، قد حفظت كل مقالك وسيظل في صدري سرا مصونا، ونطلب إلى الله سبحانه وتعالى أن يعزي هذه المسكينة ويهبها الصبر الجميل على أحزانها، فإذا شئتما الإقامة عندنا فأهلا بكما فإنكما ستحلان على الرحب والسعة، وإلا فإني مستعد لقضاء كل ما تحتاجان إليه، ولا فرق عندي بين أن تكونا مسيحيين أو غير مسيحيين فإننا جميعا نعبد الإله الواحد القهار، وفضلا عن ذلك فإن الديانة الإسلامية هي ديانة مولانا السلطان صاحب البلاد.»
الأمير بشير
بعد أن أتم سعيد حديثه سأله الرئيس عن جميلة، فقال له: «إنها ذهبت بعد الطعام إلى غرفتها، ولا تزال هناك، والباب مغلق عليها.» فقال لسعيد: «هلم بنا لنعزيها.» فسارا حتى بلغا الغرفة، فسمعا صوت ندب وبكاء، فوقفا خارج الباب صامتين، وإذا هي تقول: «يا للمصيبة أين أنا الآن؟ وأين زوجي وحبيبي؟ وأين حشمه وخدمه؟ وأين أنت يا ولدي سليم؟ أواه أصرت طعاما للأسماك وتركت والدتك المسكينة تتقلب على جمر الغضا؟ أما كان الأولى بي أن أموت فداء لك ولأبيك وأستريح من شقاء هذا العالم؟! أما من وسيلة يا إلهي للنجاة من هذه المصائب؟ ترى هل أطلع الأمير على حقيقة أمري؟ أخشى أنه إذا علم به يزيد غضبه علي وينتقم مني، أو لعله يشفق على ضعفي ويقبل توبتي!»
ثم أخذت تخاطب نفسها قائلة: «مالك يا مسكينة ولهذا الكلام! ألقي حملك على هذا العبد الأمين، واتكلي على الله وهو يقودك إلى ما فيه خيرك.»
طرق سعيد الباب طرقا خفيفا لئلا يزعجها فسكتت، فقال سعيد: «لا تخافي يا سيدتي، فأنا عبدك سعيد.» ثم فتح الباب ودخل فرآها في حالة يرثى لها، وقد بللت ثيابها بالدموع، وحلت شعرها ومزقت ثوبها، وخنقتها العبرات حتى كاد يغشى عليها، فتقدم إليها وأخذ بيدها وأجلسها، ثم استأذن للرئيس في الدخول فأذنت فدخل، وقد تعجب من فرط جمالها، وزاد ذلك حزنه عليها، حتى لم يعد يمكنه حبس دموعه، لكنه تجلد وتقدم قائلا: «اصبري يا سيدتي ويا ابنتي فإن الأحزان تجلب الأسقام، فاتكلي على الله تعالى، وأشفقي على نفسك، وعلى هذا الطفل فإنه تعزية كبيرة لك. وفوضي الأمر لله، فهذا سعيد خادمك الأمين، قد أطلعني على حقيقة حالك، وعاهدته على أن يكون ذلك سرا بيني وبينه. واعلمي يا ابنتي أني مشارك لكما في جميع أحزانكما وسأبذل جهدي في تعزيتك ومرضاتك، فاتخذيني لك أبا أو صديقا تلقين عليه أحمالك.» وما زال الرئيس يحدثها بمثل ذلك حتى سكن روعها ومسحت دموعها. أما هو فكان في أثناء ذلك يتأمل جمالها، وما يغشاه من الأحزان، وما يتجلى في وجهها من الهيبة والكمال، فقد كانت قمحية اللون، مستديرة الوجه، سوداء العينين، واسعتهما قليلا مع حدة وذبول، رشيقة الحركة مع تعقل ووقار.
ثم استأنف الحديث قائلا: «ها أنا ذا قد علمت حقيقة الحال، وليس من الرهبان أحد هنا؛ لأنهم خرجوا جميعا للعمل في الحقول، وهم لا يعلمون شيئا من قصتنا، فماذا أقول لو سئلت عن سبب مجيئكما؟» فقال سعيد: «قل إنهما جاءا من صيدا لوفاء نذر عليهما.»
وفي أثناء ذلك سمعوا صوت نداء في الدار، فخرج الرئيس وإذا بأحد رجال الأمير بشير، قد جاء يدعو رئيس الدير لمواجهة الأمير في قصره ببيت الدين، فوقع الرعب في قلب الرئيس، ولكنه تجلد لعلمه ببراءته، فلبس جبته وقلنسوته وسار حتى بلغ القصر (السراي)، فلما أدخل قاعة المجلس، وقعت المهابة في قلبه لأنها على كثرة من فيها من الناس لا يسمع فيها صوت، بل جميعهم جلوس كأن على رءوسهم الطير. وقد كانت تلك عادة الأمير في مجلسه، فلم يكن أحد يستطيع أن يتفوه أمامه بكلمة من تلقاء نفسه لعظم هيبته. أما الرئيس فكان أجرأ من غيره، والظاهر أن الأمير بعد اعتناقه الديانة المسيحية بالغ في الإكرام لجماعة الأكليروس.
Unknown page
وكان الأمير جالسا على مقعد في صدر القاعة مسندا يده إلى وسادة فوقها «طبنجة» محشوة بالرصاص لا تفارق مجلسه، وليس على ذلك المقعد غيره لأنه لم يكن يأذن لأحد أن يجلس بجانبه. وكان عليه قباء بسيط، شبيه بالقفطان، من صنع دمشق، فوقه منطقة من الصوف من صنع كشمير، وقد تقلد في منطقته الدواة والخنجر المرصعين بالجواهر، وفوق القفطان جبة من الفرو الثمين، وعلى رأسه إذ ذاك العمامة الكبيرة. أما الطربوش فلم يلبسه إلا في آخر أيام حكمه، إذ أصبح الطربوش من ذلك الحين شعار الدولة العثمانية يلبسه كل من يتولى أعمالها. وكان الأمير ربعة في الرجال واسع الصدر عريض الكتفين، أما هيئته فكانت أقرب إلى هيئة الأسود منها إلى الآدميين؛ لأنه كان عريض الجبهة عاليها غليظ الشفتين، له حاجبان يتدلى الشعر منهما على عينين براقتين كأنهما تتقدان نارا، وبينهما أنف كبير به انحناء قليل، تحته شارب طويل، وله لحية مجعدة مسترسلة على صدره، وقد وخط الشيب شعره قليلا.
وكانت أرض القاعة مفروشة بالطنافس والسجاد الثمين، فدخل الرئيس بعد أن نزع حذاءه خارج الباب حسب العادة، فرأى الأمير جالسا وبين يديه أرباب مجلسه فحياه قائلا: «عم صباحا يا سيدي الأمير.» فرد التحية وأذن له في الجلوس، ثم أمر له بالقهوة والغليون. أما الرئيس فلم يسره هذا الإكرام لقلقه من هذه الدعوة على أثر تخوفه أمس. ثم نظر الأمير إلى الرئيس بتينك العينين الحادتين وبما فيهما من ملامح الشجاعة والذكاء، مبتسما تبسما يزيده هيبة ووقارا، وقال بصوته الجهوري: يا أبانا، إن غرباء نزلوا عليك أمس، فمن هم؟
فقال الرئيس: «إنهم يا سعادة الأمير قادمون من صيدا لوفاء نذر للدير.»
فقال الأمير: «إخالك جاهلا الحقيقة أو متجاهلا ... أتقصد أن تغش الأمير بشيرا؟»
فنهض الرئيس على قدميه، قائلا: «العفو يا سعادة الأمير، فإن سعادتك تعلم أننا عبيد مطيعون مخلصون، ولم يسبق لنا شيء مثل هذا، وليس هؤلاء أول من جاء لمثل ذلك، فإن هذا الدير مشهور بالكرامة، وتأتيه النذور من سائر أنحاء العالم.»
فأقعده الأمير، وسأله: «من أي طائفة هم؟» فقال الرئيس: «لا بأس يا سيدي، مهما كانت طائفتهم، فإن الدير يقبل النذور من جميع الطوائف والملل بدون استثناء.»
فضحك الأمير، وقال: «جئني بهم.» فقال: «سمعا وطاعة.» وخرج وهو في حيرة خوفا على جميلة من غضب الأمير، فلما وصل إلى الدير وجد جميلة وسعيدا قد عيل صبرهما من الانتظار فأخبرهما بما كان وشجعهما، وقال لجميلة: «انهضي يا ابنتي والبسي أحسن ما عندك، وهلمي مع سعيد وأنا أسير بكما إليه، لعل لكما في ذلك خيرا.» فقالت جميلة: «وماذا نفعل بغريب؟» قال الرئيس: «نتركه هنا ونوصي به أحد الرهبان.» فقالت: «لا لا، لا أفارقه قبل أن تفارق روحي جسدي فإنه وحيدي، ومنتهى أملي، وكفاني من فقد!» فقال الرئيس: «إذن، نأخذه معنا.»
فلبست جميلة ثوبا ليس فيه مطرزات ولكنه بسيط نظيف، ومشطت شعرها وضفرته وأرخته على ظهرها، ولبست البرقع على رأسها، وكانت قد استراحت من تعب الطريق فأشرق وجهها، وارتد لونه الوردي على ما به من الكمال والوقار.
سراي بيت الدين
سار الجميع حتى بلغوا «السراي» فدخلوا من باب السور إلى صحن «السراي» الخارجي، فإذا هو أشبه بميدان متسع محاط بالأشجار، في صدره باب الصحن الداخلي يوصل إليه ببضع درجات، ترى فوق عتبته بيتين من الشعر تأريخا لبناء تلك «السراي». فدخلوا من ذلك الباب، والحراس وقوف هناك، يتأملون تلك السيدة وذلك العبد، ويتساءلون عن أمرهما، ثم وصلوا الصحن الداخلي فإذا هو مرصوف بالرخام، في وسطه بركة رخامية، وحوله غرف بعضها يؤدي إلى مماش تشرف على ما وراء بيت الدين من البساتين والأودية والجبال، وفي صدر ذلك الصحن قاعة الأمير، ويصعد إليها بعدة درجات، وإلى كل من جانبيه حارس منتصب ببندقيته، يمنع الدخول بغير استئذان.
Unknown page
فلما وصل الرئيس عرفه الحراس فلم يمنعوه من الدخول، فدخل هو أولا وأخبر الأمير بشيرا بمجيء السيدة والعبد، ثم طلب إليه إن شاء أن يصرف من في مجلسه قبل أن تدخل عليه تلك المرأة، لئلا تستحي، فصرف الجميع. ودخلت جميلة فرأت الأمير جالسا على مقعده، وقد أشعل غليونه، وهو على ما ذكرنا من الهيبة والوقار، وعلى محياه هيئة الأسود، فلما وقع نظرها عليه اضطرب قلبها، وارتعدت فرائصها، فهون عليها ودعاها إلى صدر القاعة، ورحب بها تخفيفا لرعبها.
ثم استأذن سعيد، فأذن له ودخل عليه، وجلس متأدبا قرب الباب.
فنظر الأمير إلى تلك الحورية وعلى يدها ذلك الطفل، وتأمل ذلك العبد الطويل رفيقها فاستغرب أمرهما، فقال لسعيد: «ماذا تكون أنت من هذه المرأة؟» فوقف سعيد احتراما، وقال: «عبدك يا سيدي خادم لحضرتها.» فعظمت المرأة في عيني الأمير، والتفت إليها قائلا: «أين زوجك يا سيدة؟» فأطرقت جميلة برأسها إلى الأرض، ولم تستطع جوابا إذ خنقتها العبرات، وأخذت تتساقط على خديها كاللؤلؤ المنثور، فأثر ذلك في قلب الأمير بشير تأثيرا عظيما، وأدرك الجواب. فسأل سعيدا قائلا: «من أين أتيتم؟» فقال سعيد: «أتينا من مدينة صيدا لنفي بنذر علينا لهذا الدير.»
فقال الأمير: «من أوصلكم إلى باب الدير مساء أمس؟»
فقال: «أوصلنا رجل لا نعرفه إذ لم نر وجهه، ويظهر لي أنه ليس من العامة.»
فقال الأمير: «هل تعرفونه إذا رأيتموه ثانية؟»
فقال سعيد: «نعم يا سيدي.»
فتبسم الأمير، فأدرك سعيد أن ذلك الرجل إنما هو الأمير بشير نفسه، وقد خرج متنكرا يطوف في القرية سهرا على حالة الأمن في البلاد، على أنه قلما كان يتيسر له التنقل والتجول منفردا، لكثرة ما كان له من الأعداء المترصدين في كل مكان.
ثم استأنف الأمير الحديث، فقال: «تقولان إنكما من مدينة صيدا، ويظهر من حديثكما أنكما من بلاد مصر.» فأجاب سعيد: «إن سيدي المرحوم سكن مع أسرته بلاد مصر مدة من الزمن، فاكتسبنا اللهجة المصرية في حديثنا.»
فقال الأمير: «هل أنتما عازمان على العودة إلى بلادكم قريبا؟»
Unknown page
فقال سعيد: «هذه مسألة فيها نظر؛ لأني أرى سيدتي تكره الإقامة في بلد فقدت فيه رفيق حياتها وليس لها فيه مصلحة، ولم نفقد سيدنا فقط بل فقدنا معه كل متاعنا وأصبحنا كما ترانا، وربما فضلنا الإقامة تحت رعاية سعادة الأمير بقية حياتنا.» قال ذلك ولم يستطع أن يمنع نفسه من البكاء، وكذلك جميلة والرئيس. أما الأمير فكان ثابت الجنان قوي الجأش على عادته فلم يظهر عليه شيء من ذلك، وإنما شعر شعورا غير اعتيادي عند تأمله تلك السيدة، فقال: «اعلمي يا سيدة أني أقبلكما في بلادي بكل ترحاب، بل أدعوك أن تقيمي عندي في داري كأعز من فيها لتعيشي مع حرمي.» فأشارت جميلة بملامح وجهها أنها تقبل الدعوة بالامتنان والشكر، ثم استوت واقفة على قدميها أمام الأمير كأنها من حور الجنان، والدموع ملء عينيها، وخاطبته بكل رزانة ووقار قائلة: «إننا نشكر الحي الأزلي الذي هدانا لهذا السبيل، وقادنا إلى أعتابك أيها الأمير، فقد جبرت قلوبنا، وخففت مصابنا فوجبت علينا طاعتك، والانقياد إلى أمرك.»
فأشار الأمير إلى أحد الخدم أن يذهب بالسيدة إلى دار الحريم، وأوصى بما يلزم لإكرامها، فحمل سعيد ولدها غريبا، وخرجت من القاعة، ثم ودعت الرئيس، وقالت له: «لن أنسى يا سيدي الأب فضلك علينا، فعسى أن يمكننا الله من مكافأتك، وأسألك أن تذكرنا وأن تزورنا من وقت لآخر.» فأجابها الرئيس بمثل قولها، وانصرف.
دار الحريم
وبعد انصراف جميلة والرئيس، عاد سعيد إلى الأمير وقبل يديه، وأثنى على معروفه، وانتظر أمره، فسأله عما يعرف فقال إنه يعرف التركية كلاما وكتابة ويحسن العربية. فأمر بأن يكون من خدمه الخاصين به، فشكر فضله وخرج.
أما جميلة فخرجت من القاعة إلى الصحن الداخلي، فرأت بجانب القاعة بابا كبيرا مرصعا بالفسيفساء الجميلة، يؤدي إلى دار صغيرة، ودهليز، حتى ينتهي إلى غرف الحريم، فأوصلها الرجل إلى أول غرفة، وسلمها إلى الخصيان، فساروا بها إلى قاعة الاستقبال المفروشة بالسجاد الثمين والمحلاة جدرانها بنقوش بديعة. وذهب أحد الخصيان لإخبار زوجة الأمير بذلك، فجاءت ومعها بعض أهل «السراي» من السيدات لاستقبالها والترحيب بها، فلما تأملتها تساقطت العبرات على خديها رغم إرادتها. ثم أخذت غريبا وجعلت تتأمله وتقبله لأنه كان بارع الجمال، ثم تناولته منها نساء «السراي» جميعهن وجعلن يقبلنه ويدعون له بطول العمر، ويذكرون اسم الله وقاية له من العين.
استأنست جميلة بهؤلاء النسوة، لكنها لم تضحك لأن قلبها لم يكن يفرح لشيء، بعد أن فقدت زوجها وولدها، وقاست ما قاسته من المشقة والعذاب. ولم تكن تتعزى عن مصابها بشيء، برغم ما لاقته من الترحاب وحسن المعاملة من امرأة الأمير ومن في بيته من النساء.
وفي مساء ذلك اليوم، جاء الأمير إلى دار الحريم فسأل زوجته عن جميلة فقالت إنها آنست منها امرأة فاضلة كاملة ليس فيها عيب. فأخبرها عن كيفية توصله إليها، إلى أن قال: «ومما حملني على إكرام هذه السيدة، فضلا عن انكسار قلبها، وما هي عليه من الكمال، أني رأيت فيها مشابهة تامة لك في الشكل والملامح والخلق، فسبحان الخلاق! ولذلك عندما شاهدتها استأنست بها وعاملتها معاملة القريب، ووجدت في نفسي ميلا لها ولإكرامها.» فقالت زوجته: «لقد قلت الصواب يا مولاي؛ لأنها حقيقة تشابه صديقة لي من بنات أسرتنا عرفتها منذ الصغر، رحمها الله، ولذلك عندما رأيت جميلة اليوم قبلتها، واستأنست بها ولم أستطع حبس دموعي عند مشاهدتها لتذكري تلك الابنة المسكينة، التي ذهبت ضحية تعصب والدها.»
ثم دعا الأمير جميلة، فهمت بتقبيل يده، فأمسك بها قائلا: «انظري أيتها السيدة، لقد قدر الله لك أن تصلي إلينا، وقد كان ذلك من بواعث سرورنا، ولا سيما أن الست (يعني زوجته) قد أحبتك واستأنست بك، فلك من الآن كل ما تطلبينه، واعلمي أني على استعداد لأن أقدم لك كل ما تحتاجين إليه عن رضا ورغبة مني؛ إذ يبدو لي أنك من قوم كرام. ولا حاجة بي إلى معرفة نسبك؛ لأني فهمت أنك لا تريدين التصريح به عندما كلمتك في صباح هذا اليوم، وإنما أسألك أن تقترحي علي كل ما تريدينه.»
وكان وجه جميلة أثناء ذلك يتقلب بين الاصفرار والاحمرار، ثم خنقتها العبرات وتنهدت تنهدا خفيفا، فلما أتم الأمير كلامه قالت له، وهي مطرقة إلى الأرض: «ليس لي عندك اقتراح ولا وصية إلا رعاية ولدي غريب، فإنه عزائي الوحيد في هذا العالم.»
فقال لها الأمير: «طيبي نفسا وقري عينا، فإني سأعامله معاملة ولدي.» ثم استأنفت الحديث قائلة: «وأتوسل إلى سيدي إذا شاء كرمه أن يسمح لي من حين إلى آخر بمشاهدة ذلك العبد الأمين، بل الصديق الوفي سعيد، فإنه كان سببا في حفظ حياتي، وقاسى من أجلي مشقات عظيمة.» فأجابها إلى ذلك، على أن يجيء إليها مرة في كل أسبوع، فأثنت على عطفه وأكبت على يده لتقبلها فمنعها.
Unknown page
مكثت جميلة في بيت الأمير بشير كواحدة من أهله مكرمة معززة، وكان سعيد يتردد عليها من وقت إلى آخر، وهي تستأنس به وتحادثه بما بينهما من الأمور التي لم يطلع عليها إلا رئيس الدير. وظل سعيد يغتنم كل فرصة لزيارتها ومواساتها، وظلت تشكره لأنه كان السبب في وصولها إلى هذه الحالة.
أما غريب فظل ينمو ويشب بسرعة، عقلا وجسدا، حتى بلغ الثامنة من العمر، فكان الناظر إليه يظنه ابن خمس عشرة سنة، وكان هو يظن نفسه ابن الأمير بشير لأن أمه كتمت عنه كل ما يتعلق بوالده. وقد أسند الأمير تعليم غريب وتثقيفه لنديمه المعلم بطرس كرامة من أهالي حمص، وكان ذا معرفة باللغة والشعر، وكان يعلم الأمير «أمين» ابن الأمير بشير أيضا. فرأى المعلم بطرس في غريب ذكاء حادا وقريحة وقادة فأحبه وزاد رغبة في تعليمه. والحقيقة أن هذا الغلام كان لفرط ذكائه ولطف خلقه لا يراه أحد إلا ويتعلق بمحبته، فإنه كان طويل القامة على صغر سنه، حاد العينين واسعهما عريض الجبهة، رشيق الحركة، ساكن الجأش برغم صغر سنه، حاد الذهن، سريع الانتباه.
ولا حاجة بنا إلى ذكر مقدار فرح والدته به، غير أنها لم تكن تظهر له استحسانا، بل كانت تظهر له أنها تنتظر منه أكثر من ذلك.
أما الأمير بشير فكان يحب غريبا محبة شديدة ويعامله معاملة أولاده، ومع أن منصبه كان يقضي عليه بالتغيب عن بيت الدين كثيرا، فإنه كان كلما عاد من سفر سأل عن غريب وعن راحته وتلقاه، فيقبله.
وكان غريب يحب الأمير محبة عظيمة ممزوجة بالاحترام. أما سعيد فكان معجبا بالأمير بشير لأنه لم يشاهد في حياته رجلا مثله، ومع أنه اختلط مدة طويلة بالمماليك والأرناءوط والمغاربة والإنكشارية فإنه لم ير قط مثل هيبة هذا الرجل. وكان إذا خاطبه في أمر، اعتبر نفسه يخاطب رجلا أعلى رتبة من البشر، فلا يستطيع التكلم إلا مطرقا، ولا سيما إذا دخل عليه في مجلسه ورأى المجلس على كثرة من فيه من الأمراء والمشايخ قد استولى السكوت عليه، لا يسمع فيه إلا صوته الجهوري آمرا أو ناهيا.
فراق مر
ولما عزم الأمير بشير على السفر إلى مصر سنة 1821 بسبب تهديد والي البلاد إياه بالقتل، كان في بلدة خارج بيت الدين، فدعا ولديه خليلا وأمينا ليرافقاه. وكان أمين شديد التعلق بغريب رفيقه في التعليم، فطلب إلى المعلم بطرس أن يستعطف الأمير لعله يأذن لغريب في مرافقته إلى مصر. وكان الأمير ممن يصغون إلى كلام رجال العلم، هذا إلى أنه كان يحب المعلم بطرس بوجه خاص ويثق به لأنه نديمه، فقبل الأمير تحقيق تلك الرغبة. كل ذلك وجميلة لا تعلم بشيء، فلما بلغها ورود الأمر بسفر غريب وقع الرعب في قلبها؛ لأنها تمقت الأرض التي فقدت فيها زوجها، وخرجت منها خروج اللصوص، فدعت سعيدا إليها وحدثته على انفراد قائلة: «انظر يا سعيد، إن الأمير قد بعث إلى حبيبي غريب أن يرافقه إلى مصر، وأنت تعلم مدى تعلقي به، وكيف هجرت الدنيا من أجله، ولا يخفى عليك أنه صغير السن إذ لم يتجاوز العاشرة من العمر، وهو ذاهب إلى بلاد قتل فيها أبوه، ويقيم فيها قاتله، وسيمر بأرض فقد فيها أخوه (قالت ذلك وتنهدت) فلا أدري ماذا أعمل.»
فأجابها سعيد قائلا: «لا بد لك يا سيدتي من الصبر، فإن غريبا مسافر مع عصبة قوية من الرجال لا خوف عليهم. وأما قولك إنه ذاهب إلى حيث قتل أبوه، فهو لا يعلم بذلك، ولا يعرفه أحد بهذه الصفة في الدنيا كلها إلا رئيس ذلك الدير، وإلى ذلك، فإن بقاءه هنا أكثر خطرا عليه؛ لأن الأمير سائر إلى مصر لاضطراب الأحوال هنا.»
فقالت جميلة بلهفة: «ما هذا الاضطراب؟ أخبرني بأمره!»
فقال سعيد: «لا تخافي يا سيدتي، فإنها خلافات سياسية لا تمس الأشخاص.»
Unknown page
فقالت جميلة: «ألا تريد أن تخبرني بحقيقة هذه الخلافات، وما هي؟»
قال سعيد: «بلى، لا يخفى على سيدتي أن إمارة سيدي الأمير بشير في لبنان، تحت ولاية عبد الله باشا والي عكا المولى من قبل الدول العلية، وقد اتحد الاثنان في السراء والضراء، وفي هذه الأثناء غضبت الدولة على عبد الله باشا المذكور؛ لما تقدم ضده من الشكاوى، فأمرته أن يسلم زمام الأحكام فعصى، فأمرت درويش باشا أحد وزرائها في دمشق أن يخرج الحكومة من يده قهرا، فابتدأ بسيدي الأمير بشير فأخرج إمارة لبنان من يده إلى أمير يقال له الأمير عباس، فذهب سيدي إلى عكا لإخبار عبد الله باشا بالأمر، فبعث درويش باشا جندا يقطع عليه الطريق، فعزم على المسير إلى مصر ليطلب وساطة محمد علي باشا عزيز مصر لالتماس عفو الباب العالي عن عبد الله باشا.»
فنهضت جميلة مرتعدة قائلة: «ويلاه يا سعيد! كيف نبقى نحن هنا والبلاد في قبضة أعدائنا، وليس من يحمي ذمارنا؟ يا للفضيحة!»
فطمأنها سعيد قائلا: «وقانا الله من الفضيحة يا مولاتي، إننا لا نزال بحمى الأمير في أمن من طوارق الزمان، فإن العرين لا تقربه الثعالب ولو غاب الأسد عنه، ومع ذلك فإن حرم الأمير لا يزلن هنا، وهو أحرص على عرضه منه على حياته، وقد علمت أن الأمير عباسا قد عاهد سيدي سرا أن يحمي ذماره في بيت الدين فغيابه كحضوره.
ولا تظني أن هذه الحال تدوم، فقد علمت أن إمارة لبنان خرجت من يد الأمير منذ تولاها إلى الآن عدة مرات، ثم عادت إليه والناس مجمعون على أنه ما من أحد يليق بها إلا هو، فقد خرجت من يده على عهد أحمد باشا الجزار الذي كان يبيع إمارة لبنان بيعا، فيسلم زمامها إلى من يدفع الرشوة الكبرى، حتى إنه أخرج الأمير بشيرا منفيا غير مرة، وحاربه مرارا، ومع كل ذلك لم تثبت إمارة لبنان إلا له. وأنت يا سيدتي تعلمين أهليته ومحبة الرعية له، فعلى كل حال لا خوف علينا بإذن الله، والذي نجانا من مصر قادر على أن يحفظ حياتنا هنا، وإذا كانت ذنوبنا كثيرة فأظنها قد غفرت بما حل بنا من النكبات.»
فقالت جميلة: «هل أنت واثق من ذلك يا سعيد؟» قال: «نعم، وعلى كل حال أرى أن سفر سيدي غريب أفضل من بقائه هنا، وفوق ذلك ليس لنا حيلة فيما حدث إذ لا يمكننا مراجعة الأمير فيما طلب، وأنت يا سيدتي تعلمين كرهه للمراجعة فيما يقوله - ولو كان خطأ - على أننا نعلم يقينا أنه يحب سيدي غريبا كأحد أولاده، وفي اعتقادي أنه إذا قاسى مشاق الغربة في صغره يشب محنكا عالما بأحوال الدنيا. ويا حبذا لو أستطيع مرافقته منعا لبلبالك، غير أن دون ذلك عدة موانع، منها أنني أخشى انكشاف أمري هناك، ولا آمن أن أتركك وحدك؛ إذ ربما تحتاجين إلى خدمتي خدمة لا يستطيع غيري أن يقوم بها، أما غريب فقد سار بمعية أسد الغاب وبطل هذا العصر، فلا خوف عليه.»
فتنهدت جميلة، وقالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون، فليس لنا إلا الاتكال على الله والتمسك بالصبر الجميل.» وبينما هما في ذلك، إذ دخل غريب ووجهه يطفح سرورا، وتقدم إلى والدته وقبل يدها جريا على عادته، ثم قال لها: «إن أبي (يقصد الأمير بشيرا) قد بعث إلي أن أسير إليه مع أخي أمين، ومن هناك نسير جميعا إلى مصر، فهيا بنا نذهب!» فقبلته وقالت: «أنا لست ذاهبة معكم يا ولداه، وإنما أنتظركم هنا.» فاغرورقت عيناه بالدموع وسكت هنيهة، ثم قال: «فليذهب سعيد!» فقال سعيد: «حبذا يا سيدي لو أستطيع الذهاب ، ولكنني باق هنا مع سيدتي ننتظر رجوعكم فعسى أن يحلو لكم السفر؛ لأن بلاد مصر بهيجة، ولا سيما في فصل الشتاء.»
ثم أقبلت عليه والدته تقبله وتودعه قائلة: «سر يا ولدي في رعاية المولى وحراسته، وأستحلفك بمحبة الأم، ألا تنسى والدتك في سفرك!» فبكى الغلام، وقال: «كيف أنساك يا أماه وقد ربيتني في حجرك أعواما؟» فقالت: «أحب منك أن تكتب إلي كلما سنحت لك الفرصة، وتخبرني عما تشاهده في سفرك تعزية لقلبي عن بعدك.»
وبينما هم في ذلك، إذ قرع الباب ودخل الخادم يطلب الأمير غريبا ليسير في ركب الأمير بشير، فنهضت والدته وقبلته فقبل يدها وودعها، وسار مع الرسول ومعهم أولاد الأمير الآخرون، وأعين جميلة وسعيد ترافقهم حتى تواروا.
غريب في مصر
Unknown page
وكانت هذه أول مرة خرج فيها غريب من بيت الدين، فحول نظره إلى ربا لبنان وهو على جواد مطهم، لا يمنعه صغر سنه من الظهور بمظهر كبار الفرسان. وقد جعل على رأسه كوفية من الحرير فوقها العقال البدوي، وارتدى قفطانا من الحرير فوقه الجمدان المزرر بأزرار القصب. وكان على حداثة سنه يحسن ركوب الخيل شأن أولاد أمراء لبنان، فإنهم يشبون على ظهور الخيل، ولا سيما بيت الأمير بشير، فقد كان يضرب المثل بإصطبله. وكان الركب يلتفتون إلى غريب بوجه خاص ويلاطفونه، مراعاة لصغر سنه وجماله ودعته، فإذا وصلوا إلى مكان أو قرية، يقول السياس بعضهم لبعض: «هل نخبر الأمير الصغير بهذا الأمر وذاك المنظر؟» وكان يقابل ذلك منهم بالبشاشة واللطف والثناء.
وما زال الركب سائرين إلى المساء فباتوا في إحدى القرى، ثم نهضوا في الصباح التالي، وما زالوا بين حل وترحال حتى التقوا بالأمير بشير، فسلموا عليه وقبلوا يديه، وسار الركبان معا، وجدا السير نحو مصر، وكان عددهم ينيف على مائة فارس، ومعهم الخدم والحشم، والناس يتقاطرون من القرى والبلاد، يقفون على جانبي الطريق لمشاهدة الأمير بشير الذي طالما سمعوا عنه.
أما الأمير ومن معه، فظلوا في طريقهم حتى أتوا إلى الشاطئ فنزلوا بعدتهم وخيلهم في زوارق ، سارت بهم إلى العزبة بقرب دمياط، فبعث كاشف دمياط يسأل الأمير عن سبب مجيئه، فأجابه أنه جاء يتشرف برحاب العزيز. فبعث إليه الكاشف أن يبيت الليلة في العزبة، وفي الغد يدخل ثغر دمياط، فنزل الأمير بحاشيته وأولاده في تلك القرية، وبعث إليهم الكاشف بما يحتاجون إليه من الزاد والعلف فأعدت لهم الأطعمة. وبعد تناول الغداء والقيلولة خرجوا إلى الحقول والمزارع، يسرحون الطرف في أرض مصر وحقولها.
أما غريب فأقام في الخيمة، وقد أعد ورقا وحبرا فجلس يكتب كتابا إلى والدته، لأن خيالها لم يبرح في ذلك السفر ذاكرته، مع ما اعترضه في طريقه من لبنان إلى مصر من المناظر العديدة المختلفة، فأخذ القلم والورق وقص لها ما شاهده في سفره من أوله إلى آخره، يتخلل ذلك عواطف الشوق والحنو.
ولما أتم الكتاب خرج من الخيمة، فلم ير أحدا غير الخدم والسياس، وقد سرحوا الخيل للمرعى في تلك المزارع فتأمل ما حوله من الأرض، فإذا هي مستوية السطح تربتها مائلة إلى السواد لا شيء فيها من المرتفعات أو الجبال، فتذكر ربا لبنان وأوديته وينابيعه، فانتقلت به مخيلته إلى سراي بيت الدين، وما تشرف عليه من الجبال والأودية والغابات والبساتين، ثم ذكر والدته وما أوصته به فخفق قلبه شوقا، واشتد به ذلك حتى غلب عليه البكاء. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فجعل ينظر إليها من وراء الأفق، ويعجب بما لبسته من الحلل القرمزية والذهبية والفضية مما يأخذ بالعقول، غير أن ذلك لم يكن ليشغله عن تذكر والدته والحالة التي شاهدها عليها أثناء اللقاء الأخير، فقد كانت تلك الحال تزيد من إثارة عواطفه وتجعله يندم على مجيئه، ويتمنى لو كان طائرا ليعود إلى بيت الدين ليشاهدها ويقبل يدها.
وبينما هو في تلك الهواجس، إذ عاد الأمير وأولاده وهم يتحدثون بما شاهدوه من خصب تلك الأرض وطيب زرعها، فلما وصل الأمير إلى فسطاطه رأى غريبا فقال له: «أين كنت يا ولدي؟ ولم لم تذهب معنا؟» فاعتذر بأنه كان يكتب كتابا إلى والدته، ثم دفع إليه بالكتاب، وقال له: «أسألك يا سيدي أن تبعث به إلى والدتي!» فوعده بذلك، وبعد قليل حضر العشاء فتناولوه، وذهب كل منهم إلى فراشه عاجلا طلبا للراحة بعد الذي قاسوه من وعثاء السفر. •••
وفي الصباح استقبلهم الكاشف مرحبا، وكان قد بعث إلى الإسكندرية يخبر محمد علي باشا بذلك، فأجابه أن يسير الأمير إلى القاهرة مكرما، وكتب إلى نائبه هناك أن يستقبل الأمير ومن معه، ويقدم لهم الإكرام والمبرة، ويقول له إن العزيز يهنئك بالسلامة، وإنه لم يدخل أحد أعز منك إلى مصر. فركب الأمير وبطانته، حتى إذا ما وصلوا بولاق ميناء القاهرة، وجدوا في استقبال الأمير حنا البحري الحمصي فرحب به، وأخبره أن العزيز في الإسكندرية، وسيحضر قريبا. ثم سار به وبأولاده إلى جزيرة الروضة المقابلة لمصر القديمة، وأنزله في قصر الخازندار.
أما غريب فإنه لما وصل إلى القاهرة أعجبه كبرها وكثرة الناس بها؛ لأنها أول مدينة رآها بهذا الاتساع، فأخذ يسأل من حوله عن كل جديد شاهده، وكانوا يصفون له ذلك وصفا دقيقا. فلما ساروا إلى جزيرة الروضة دهش غريب لأمر تلك الجزيرة القائمة في وسط النيل المبارك الغدوات، وما زالوا سائرين حتى نزلوا القصر على الرحب والسعة فوجدوا فيه كل ما يحتاجون إليه، وقد أعد الخدم سائر الحاجيات. وفي تلك الليلة كتب غريب إلى والدته بما حدث له بعد الكتاب الأول.
مصر القاهرة
وفي الصباح التالي، ذهب الأمير لمقابلة إبراهيم باشا في قصره بضواحي القاهرة، ورافقه ابناه. أما غريب فأوصى به الأمير أحد رجال القصر المدعو أحمد، وكان فيما مضى من جنود محمد علي ثم تولى خدمة ذلك القصر، وكان يخرج بغريب للنزهة أثناء غياب الأمير بشير، فسر غريب بذلك؛ لأنه لصغر سنه لم تكن تلذ له المقابلات الرسمية.
Unknown page
خرج أحمد بغريب وببعض حاشيته من رجال الأمير، ودار بهم حول الجزيرة فمروا بالمقياس فشرح لهم كيفية قياس النيل به. ثم ركبوا زورقا عبروا به النيل إلى بر القاهرة، فأعجب غريبا عظم ذلك النهر. وكان على صغر سنه مدركا فطنا محبا لمعرفة حقائق الأشياء، فكان ينظر وهو في الزورق إلى كل من ضفتي النيل متأملا ما هناك من مزارع الحبوب وغياض النخيل، حتى وصلوا إلى بر القاهرة، فنزلوا عند مصر القديمة، فجعل غريب يتأمل مبانيها ويسأل عن كل شيء فيها.
وكان أحمد ينظر إلى ذلك الغلام ونباهته وذكائه ولطفه نظرة الإعجاب، فمروا في أسواق مصر القديمة الضيقة، والناس يشيرون إلى ذلك الغلام الغريب الزي، بما عليه من الملابس اللبنانية التي لم يكونوا تعودوا مشاهدتها، ولا سيما ذلك الجمدان المقصب، وكميه المرسلين من كتفيه، فاستوقف غريبا بناء كبير يظهر أنه قديم العهد في جدرانه تهدم، وهو أشبه بالحصون منه بالبيوت، فسأل الغلام عنه، فقال له أحمد: «إن هذا البناء دير يقال له دير النصارى، فيه كثير من المعابد النصرانية والأديرة.» فداروا حوله من الخارج ومروا ببابه فإذا هو صغير يتوصل إليه بانحدار، ثم وصلوا إلى جداره الجنوبي وبه برجان هائلان قد غشيهما الخراب بينهما أثر عتبة علوية لباب كبير، فقال: «يا عم، إن الأديرة في بلادنا بخلاف ما هي هنا، فإني لم أشاهد مطلقا بناء بهذه الضخامة، ولم أر في الأديرة مثل هذه الأبراج.» فقال أحمد: «صدقت يا سيدي، ولا في سائر الأديرة مثل هذه الأبراج ولا شيء من ذلك، وهذا البناء لم يكن ديرا وإنما هو في الأصل حصن قديم، يقال إن الفرس حين تسلطوا على مصر قبل الميلاد بقرون شادوه ودعوه باسم عاصمة بلادهم إذ ذاك، فعرف بحصن بابل، وفيه تحصن المصريون عندما جاءهم المسلمون فاتحين، تحت قيادة عمرو بن العاص، ثم سكنه الأقباط وغلب عليه اسم الدير.» فأراد غريب الدخول لمشاهدة ما حواه ذلك البناء فطاوله أحمد، كأنه يريد أن يريه شيئا أعظم فسار الجميع حتى مروا بقناطر السباع، فشرح له حديثها إلى أن قال: «إن الملك الظاهر بيبرس أحد سلاطين المماليك بناها لتوصيل الماء من النيل إلى قلعة القاهرة، التي تراها بسفح هذا الجبل.» وكان يظهر من معاملة أحمد أنه يحب الاختصار في الحديث، والعجلة بالمسير نحو القاهرة.
وكان غريب مشغولا عن ملاحظة ذلك بمشاهدة ما حوله من الحقول الخصبة، ثم صعد إلى إحدى الآكام الخربة هناك، فأشرف على قسم عظيم من القاهرة على يمينه جبل المقطم، وعند سفحه قلعة القاهرة. وساروا حتى دخلوا المدينة ومروا بأسواقها وكان غريب يعجب لكثرة الازدحام فيها، لكن أهلها كانوا أكثر تعجبا منه لامتيازه عنهم باللباس والهيئة، وبمن معه من اللبنانيين.
وكانت القاهرة في ذلك العهد ضيقة الطرق، ليس فيها شيء من الشوارع الحديثة المتسعة، أو المبنية على النمط الجديد، ولم يكن فيها شيء من الأشجار التي تحف بشوارعها الحديثة الآن، فإن جهات الإسماعيلية والفجالة وشبرا والتوفيقية، وسائر هذه الضواحي كانت كلها حدائق وبساتين وآكام ومستنقعات، قلما شوهدت فيها المساكن والبيوت.
وقد كان من أكثر الشوارع ازدحاما حينذاك وأطولها الشارع الممتد طولا من باب الحسينية، إلى باب سعادة، يدخل فيه شارع الحسينية والنحاسين والغورية وما وراء ذلك من الصليبة. والشارع الممتد على موازاة ذاك، أوله عند باب الشعرية، وآخره عند باب السيدة زينب، ويدخل فيه باب الشعرية والشعراوي وما بين السورين، وشارع منصور باشا ودرب الجماميز ... إلخ، هذان هما أطول شوارع القاهرة وأكثرها عمرانا، وما بينهما وما جاورهما من الجهات، كالحمزاوي وبركة الفيل ... إلخ.
الدوسة
وما زال الاثنان ومن معهما سائرين، حتى وصلوا إلى بركة الأزبكية فإذا هي حديقة شائقة تحيط بها ترعة محفوفة بالأشجار، فمروا على جسر إلى داخل الحديقة فرأوا الناس يتراكضون إليها مزدحمين، فالتفت أحمد إلى غريب قائلا: «انظر، ها نحن الآن في ما يدعونه بركة الأزبكية، وقد اتفق وصولنا مع وقت احتفال يقال له «الدوسة» فلنغتنم الفرصة لمشاهدتها، ولكن يجب قبل كل شيء أن تحافظ على ما معك من الأشياء الثمينة خوفا من «النشالين» الذين يسرقون أمتعة الناس من جيوبهم وأيديهم، ولا يشعر أحد بهم، والأحسن أن توصي أتباعك بذلك.» فاستخف غريب بهذا التحذير، ولكنه قبل النصيحة بالشكر.
ثم قال أحمد: «انظر يا سيدي إلى هذا الشيخ ذي العمامة، الراكب على هذا الجواد الأصيل الذي تراه يخطو خطا العروس!» فأجاب غريب: «من يكون هذا؟» قال أحمد: «هذا يقال له شيخ السعدية، وعما قليل تراه يمر بجواده فوق ظهور الناس.» ثم أوقفه على مرتفع ليتمكن من المشاهدة. وبعد برهة رأى غريب الرجال ينامون منبطحين على وجوههم، متلاصقين بحيث لا يكون بين الواحد والآخر خلاء، فتألف بذلك جسر من الرجال، ثم جاء ذلك الشيخ وأمامه رجلان ممسكان بلجام الفرس يقودانه نحو ذلك الجسر، فأحجم الفرس أولا ثم تقدم ماشيا على ظهور الناس، والقائدان أمامه ممسكان بلجامه، فأخذ يخطو على مهل، وكلما خطا على رجل نهض ذلك الرجل وراءه تبركا به، فدهش غريب لهذا المنظر، وقلبه يختلج خوفا على أولئك الرجال من الأذى، ولكنه زاد دهشة عندما علم أن أحدا منهم لم يصب بسوء.
وكانت الشمس قد صارت في الهاجرة، فقال أحمد: «قد حان وقت الظهر يا سيدي، ونحن على بعد فرسخ من القصر، ومرادنا مشاهدة ما بقي من المدينة، فهل تقبلون دعوتي لتتناولوا طعام الغداء عندي في منزلي، وهو قريب من هنا، وبذلك نستطيع إتمام جولتنا اليوم، ونعود في المساء إلى القصر؟»
فأجاب غريب الدعوة، وسار الجميع حتى أتوا شارعا وصلوا منه إلى حارة قيل لهم إنها حارة قيسون، فاتجهوا إلى باب كبير عنده بواب بعمامة بيضاء فناداه أحمد، فلما حضر همس في أذنه أن يخبر من في البيت من النساء أن رجالا غرباء سيدخلون البيت فليخلوا لهم السبيل، ثم دخل أحمد وغريب ورجاله فوصلوا إلى صحن مكشوف في صدره باب صغير، يؤدي إلى دار تتصل بغرفة الاستقبال (المندرة) فدخلوها، وجلسوا على المتكئات فقدمت لهم القهوة، ثم تناولوا الطعام جلوسا على بساط حول مائدة عليها أنواع الأطعمة، وفيها الملوخياء والأرز واللحوم المطهية، ثم قدمت لهم القهوة ثانية.
Unknown page
ثم عرض أحمد على الأمير غريب أن يتوسد للقيلولة، فقبل فقاده إلى دور علوي ودخل به إلى غرفة مشرفة على بيت آخر مقابل لذلك البيت، فنزع غريب بعض ثيابه وتوسد.
نساء المماليك
ولم يكد غريب يضطجع حتى سمع لغطا يتخلله صوت امرأة تنوح وتندب فأصاخ بسمعه، فإذا ذلك اللغط في البيت المقابل، وأطل من النافذة فرأى في ذلك البيت امرأة كالبدر جمالا، تستجير من رجل رث الثياب، يضربها كأن له سلطانا أن يفعل ذلك، فتحركت في قلب غريب عواطف الشهامة والمروءة فأمر بعض من معه من اللبنانيين أن ينزلوا لإنقاذ هذه المرأة من يد ذلك الرجل، فنزلوا أسرع من لمح البصر بعد أن سألوا أحمد عن الطريق، فأخذهم إلى باب البيت بعد أن أوصاهم أن لا يخبروا أحدا بذلك، وعاد إلى غرفة غريب فإذا هو مطل من النافذة ينظر إلى ذلك الرجل، وقد كان يتميز غيظا حتى إنه هم أن يلقي بنفسه من تلك النافذة لنصرة تلك المرأة.
فلما دخل أحمد انتبه غريب، فالتفت إليه قائلا: «من هذا الوحش الذي يضرب هذه المسكينة؟» قال له: «إن لهؤلاء يا سيدي قصة سأتلوها عليك الآن.» ثم سمعا صوت رجال غرباء في تلك الدار، وقد دخلوا فضربوا الرجل وخلصوا المرأة وجاءوا بها إلى بيت الحريم، كل ذلك والرجل ينادي بأعلى صوته، قائلا: «أنى لكم أن تأخذوا امرأتي مني؟ أليست ملكي ولي أن أتصرف معها كيف أشاء؟» فتعجب غريب من هذا القول، والتفت إلى أحمد قائلا: «أصحيح أنها امرأته؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «يظهر أنهما مختلفا التفكير والذوق.» قال: «نعم، وسبب ذلك أنه حكم هذا القطر منذ بضعة قرون جماعة من الشراكسة وغيرهم، يقال لهم «المماليك» كانوا في أول الأمر خدما في دور الخلفاء العباسيين وغيرهم، يرسلون إليهم من ولاتهم في تركستان، في جملة هدايا أخرى بدلا من الجزية، فلما اعتنقوا الديانة الإسلامية وتعلموا وتثقفوا، أحبهم الخلفاء وعهدوا إليهم بإدارة عدد من مصالح الدولة، فقلدوا بعضهم الولاية، وبعضهم الخراج، وبعضهم إمارة السر إلى آخره. وما زالت أنفسهم تتوق إلى السلطة وحب السيادة، حتى تحقق لهم ذلك في أواخر الدولة العثمانية فصاروا أمراء أشبه بمديرين، ولكنهم أرادوا الاستبداد فسعت الحكومة العثمانية في إبادتهم فلم تنجح، حتى كانت أيام محمد علي باشا عزيز مصر الحالي ، فعمد منذ نحو اثنتي عشرة سنة إلى مكيدة ذبحهم بها عن آخرهم في القلعة، التي شاهدتها عن بعد في هذا الصباح، ثم أمر بمصادرة كل ما يملكونه من المال والمتاع، وأذن لرجاله من الجند وغيرهم في التزوج بنسائهم فأصبح هؤلاء النساء في حال الموت أهون عليهن منها؛ لأنهن بعد أن كن في عز وجاه أصبحن إماء لرجال لم يكن يقبلنهم عبيدا لهن. وهذه المرأة كانت من نساء أمير من هؤلاء الأمراء، فكان نصيبها التزوج بهذا الرجل، وهو من عساكر العزيز، فتراه ناقما عليها يضربها لأقل سبب. وقد مضى على هذه المسكينة عشر سنوات أو أكثر، وهي في مثل هذا العذاب، يأتيها كل ليلة وقد أسكره الخمر، فيعاملها كما رأيت.»
فتأثر غريب بهذه القصة حتى كاد يبكي، وبينما هما في الحديث، إذ دخلت خادمة تقول لسيدها: «إن السيدة كاملة تريد الدخول لتكلم الأمير.» فسأل غريب عن تلك السيدة، فقال أحمد: «هي المرأة التي نحن بصددها.» فقال: «دعوها تدخل.» فدخلت، والدموع ملء عينيها، وترامت على قدمي غريب قائلة: «إني ملتجئة إليك يا سيدي، وأستحلفك برأس أبيك أن تنقذني من هذه الشدة، فتأمر رجالك أن يحملوني من هذا المكان إلى حيث تشاءون، فأتخلص من هذا الإنسان المتوحش.» وكانت تقول ذلك، وهي تجهش بالبكاء، فازداد قلب غريب رقة وحنوا فأنهضها وأجلسها قائلا: «لا تخافي يا خالتي، وسأكلم أبي الليلة إن شاء الله وأستحلفه أن يخلصك من هذا الرجل فتذهبي معنا إلى لبنان.» قالت: «يا حبذا ذاك!» ثم قال لأحمد: «أتريد أن تبقيها في بيتك إلى الغد حتى نرى والدي ونكلمه؟» قال: «حسنا وإنما أخشى تبعة ذلك.» فقال غريب: «لا تخف، فإنني سأخبر أبي بحقيقة الأمر.»
فتقدمت السيدة وقبلت غريبا وألحت عليه ألا ينسى، فوعدها خيرا إذ امتلأ قلبه شفقة عليها. أما زوجها، فكان قد خرج يريد عرض دعواه على أغا الضابط، فقيل له إن دعواه مع ابن الأمير بشير، الذي هو صديق حميم لعزيز مصر. فتريث على أمل أن يسترجع امرأته باللطف.
أما غريب فخرج برجاله مع أحمد، يطوفون المدينة حتى وصلوا إلى قلعة الجبل، فقال أحمد: «هذه قلعة الجبل، فيها ديوان الحكومة، وفي هذه القلعة قتل المماليك كما أخبرتك.»
وكانت تقول ذلك وهي تجهش بالبكاء، فازداد قلب غريب رقة وحنوا، فأنهضها وأجلسها قائلا: لا تخافي يا خالتي!
فلما وصلوا إلى بابها اعترضهم حارس عليه لباس غريب، لم ير غريب مثله، وهو تنورة بيضاء كثيرة الزم والتجعد لا تتجاوز الركبتين، عليها منطقة من الحرير الملون قليلة الشد، وفوق ذلك الجمدان الجوخ المزرر، وعلى رأسه طربوش طويل مثني إلى الوراء، تتدلى منه طرة طويلة، وفي منطقته زوج غدارات، وطبنجة وخنجر، وقد تقلد سيفا محنيا. وكان طويل النجاد مستوي القامة كبير الشارب حاد العينين، تظهر عليه ملامح الشجاعة والنشاط، فخاطبه أحمد يستأذنه في الدخول فأذن لهم. فلما دخلوا سأل غريب عن ذلك الرجل، فقال أحمد: «هذا من جماعة الأرناءوط، وهم جنود من جهات ألبانيا في الروملي، وكان منهم تحت قيادة محمد علي باشا في بدء تدخله في حكومة مصر أربعة آلاف، وكانوا له عونا في كثير من أعماله.»
وكان دخول غريب، ومن معه، من باب العزب المشرف على الميدان. ويؤدي إلى هذا الباب مرتفع أشبه بتل منبسط، فقال أحمد لغريب: «قبل الدخول انظر يا سيدي، إن لهذا التل وهذا الباب حكاية سأتلوها عليك.» فلما دخلوا من الباب، دلفوا منه إلى مضيق صخري، والقلعة قائمة على سفح الجبل، وقد نحت كثير من جدرانها من صخر الجبل عينه. ويؤدي ذلك المضيق إلى أبنية القلعة، وهي تشبه بلدا صغيرا لسعتها، فلما صعدوا إلى أعلى ذلك المضيق قال أحمد: «هذا هو المكان الذي ذبح فيه الأمراء المماليك، وكانوا أكثر من أربعمائة، أتوا بالملابس الرسمية مدعوين لتناول القهوة في سراي القلعة؛ احتفالا بخروج طوسون باشا ابن محمد علي باشا لمقاتلة الوهابيين في شبه جزيرة العرب، بإشارة من مولانا السلطان. فتناولوا القهوة في القاعة التي ستشاهدونها في صدر القلعة حيث مجلس العزيز، وقد وقف الرجال صفوفا للخروج في الموكب، وكان العزيز قد تواطأ مع قواده على إهلاكهم. فلما اقترب الموكب من هذا الباب حوصر المماليك في هذا المضيق يحيط بهم الأرناءوط من ناحية والمغاربة من ناحية أخرى، ثم أقفلت أبواب القلعة بغتة وقتل هؤلاء المماليك عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا أمير عاقه شأن من شئون بيته فجاء إلى الاحتفال متأخرا، فلما وصل إلى الباب، وكان الموكب آتيا للخروج آثر التريث حتى يخرج الموكب فيسير في أثره، فوقف بجواده خارج هذا الباب فوق ذلك التل المنبسط، ولم يمض إلا القليل حتى سمع إطلاق البارود، ورأى الأبواب قد أقفلت، فعلم أنها مكيدة، فهمز جواده طالبا الصحراء فرارا من الموت، ولم نعد نسمع عنه شيئا.»
Unknown page
كل هذا الحديث وغريب ومن معه سكوت، يصغون إلى أحمد، ثم راحوا يتجولون في القلعة، وهم يتحادثون في حكاية المماليك ومذبحتهم، حتى أتموا مشاهدة ما فيها من المشاهد، كدار الضرب (الضربخانة)، ومخازن الأسلحة والبئر المسماة بئر يوسف نسبة إلى السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي باني تلك القلعة، ثم سار بهم أحمد إلى مرتفع، فأشرفوا على القاهرة، وإذا هي متسعة كثيرة المباني تحيط بها البساتين المغروسة بالنخل، ويتخلل منازلها الحدائق، ولكنهم لم يروا في جوها الصفاء المعهود في جو سوريا، لما يتخلل هواء القاهرة من الغبار المتصاعد من الطرق. وشاهدوا وراء كل ذلك نهر النيل المبارك، وقد تكسرت على سطحه أشعة الشمس فأكسبته رونقا بديعا، وقد دهشوا بوجه خاص لكثرة المآذن التي تعد بالمئات.
ثم نزلوا من القلعة، وقد مالت الشمس نحو المغيب، فاستحضر لهم أحمد حميرا ليركبوها قائلا: «إن ركوب الحمير هنا رياضة لطيفة لسرعة جريها وإراحة راكبيها.» فركبوا عائدين حتى بلغوا مصر القديمة فنزلوا في المعدية إلى جزيرة الروضة، فلما وصلوا إلى القصر أسرع غريب مستفسرا عن مجيء الأمير، فقيل له إنه جاء، فدخل عليه وقبل يديه، فسأله عما رآه فقص عليه القصة، وطلب إليه أن ينقذ تلك المسكينة، فقال له: «ما لنا ولها يا بني، إننا في بلاد غريبة.» فألح عليه واستحلفه، فاستدعى أحمد فحكى القصة فأمره أن يذكره بها في الغد. أما غريب فسار بعد العشاء إلى حجرته، وكتب إلى والدته عما شاهده من أول الأمر إلى آخره.
صعيد مصر
وفي صباح اليوم التالي، جلس الأمير لتناول القهوة مقطب الوجه، وولداه وغريب بجانبه، فاستولى السكوت على من حضر، ولم يجسر واحد منهم أن يسأله عن سبب ذلك، ولا عن موضوع المرأة ونجاتها من مخالب ذلك الشرير. وبينما هم على هذه الحال، إذ جاء أحد حراس القصر ينبئه أن حنا البحري بالباب، فنهض الأمير لاستقباله مرحبا به وأجلسه بالقرب منه، وبعد أن تبادلا التحيات أبلغه البحري أن العزيز بعث إلى نائبه بالقاهرة يأمره بإرسال سيادتكم إلى بني سويف في الصعيد حيث تمكثون في طمأنينة ريثما يعود أفندينا من الإسكندرية فتنالون بغيتكم، ثم أفهمه أن العزيز أمر له بعشرة آلاف قرش شهريا والتموين الكافي.
فسر الأمير وأمر بالتأهب للرحيل وأحضرت معدات السفر من «ذهبيات» وقوارب لنقل الرجال والأمتعة والزاد فركبوا النيل، ومعهم الخبراء والبحارة، فكانوا يقلعون نهارا، ويرسون ليلا عند الشاطئ، ومعهم كل ما يحتاجون إليه من معدات الطعام والنوم.
أما غريب، فلم يكن همه إلا الاستفهام عما يشاهده على ضفاف النيل من الآثار، مر بالجيزة فرأى من ورائها الأهرام العظيمة فسأل عنها، فقال له أحدهم: «إنها مبان هائلة من صنع الجان.» فلم يعبأ بقوله وما زال يسأل، حتى علم أنها قبور لجثث الملوك اعتقادا منهم أن أجسادهم المحنطة ستعود فتحيا بعد أجيال، فبنوا لها هذه الأهرام لحفظها من طوارئ الحدثان حتى يأتي زمن بعثها.
فلما كان المساء، رست بهم «الذهبيات» ونزلوا إلى البر فلاحظوا أن النيل يجري من الجنوب إلى الشمال في أرض خصبة، يحدها من الشرق والغرب جبلان يمتدان طولا موازيين للنيل مسافة أيام؛ ولذلك سمي الصعيد وادي النيل. وفيما كان غريب يتأمل الفارق بين تربة أرض لبنان وتربة أرض مصر، طرق ذهنه أمر المرأة التي وعدها بإنقاذها، فأسرع إلى الأمير فرآه جالسا أمام خيمته على ضفة النيل فذكره بالمرأة، فأجابه قائلا: «إني قد أخبرت حنا البحري بالقصة، وكلفت أحمد أن يساعده في الوصول إلى نتيجة، والغالب أنها سوف تطلق من زوجها، وتخير في السكنى حيثما تشاء، أما نحن فلا يمكننا يا ولدي أن نحملها معنا حيثما توجهنا؛ إذ ليس معنا في الحريم سواها، وأنت تعرف عادات هذه البلاد وتحجب أهلها.» فقبل غريب يد الأمير، وأثنى عليه.
قضوا طوال الليل ثم نهضوا في الصباح وعادوا إلى سفنهم، وأقلعوا إلى المساء، وكانت الريح هادئة ومسيرهم معاكسا لمجرى النيل، فكانت مراكبهم تسير ببطء. وفي المساء يبيتون على الشاطئ الغربي غالبا؛ لأنه أكثر عمرانا وخصبا.
وما زالوا على ذلك حتى وصلوا إلى مدينة بني سويف، فتلقاهم كاشفها بالترحاب، وأنزلهم في دار معدة لهم في الفشن على ضفة النيل، ولكنه ارتعد عند مشاهدة الأمير بشيرا لما كان يبدو في وجهه من الهيبة.
ضياع «غريب»
Unknown page
وكان الأمير قد جاء من بر الشام بعدد من الخيل الأصيلة، قدم منها خمسة للعزيز، وبقي معه بعضها لركوبه وركوب أولاده وبعض خاصته. ففي ذات يوم بعد نزوله بالفشن، اشتاقت نفسه للفروسية فبعث يسأل الكاشف عن ميدان للعب الخيل، فأخبره أن في البر الشرقي وراء ذلك الجبل سهلا رمليا يصلح لذلك، فبعث الخيول باكرا تقطع النيل ثم قطعه هو وأولاده، وما زالوا ومعهم الأتباع والخدم والكاشف حتى وصلوا إلى ذلك السهل، فضربوا الخيام واستحضروا ما يحتاجون إليه من طعام وشراب لذلك اليوم.
وكان وصولهم إلى ذلك المكان بعد شروق الشمس بقليل، فتركوا الرجال ينصبون الخيام ويعدون المعدات، وسار الخيالة يجولون ويلعبون بخيولهم، وكان غريب في جملتهم لأنه تعلم الفروسية وهو في سن السادسة، وكان إذا ركب جواده ظننته والسرج قطعة واحدة. وتعلم رمي الجريد، ولعب السيف والترس، فجعل يركض جواده، وقد سدل الكوفية على رأسه اتقاء للحر فذهل الجميع، ولا سيما الكاشف ورجاله، وامتدحوا شجاعته وفروسيته على مسمع منه، فزاد همة ونشاطا، وكان يركب جوادا من خيل أبيه فتعب الجواد ولم يتعب هو، ثم ترجل ودنا الكاشف منه يمدحه بما هو أهل له، وتقدم الأمير وقبله . ثم التفت غريب فرأى جواد الكاشف واقفا، فسأله أن يأذن له في ركوبه ليجربه فلم يسعه إلا الإجابة، ولكنه قال له: «احذر منه لأنه جموح إذا ركب رأسه لم يثنه شيء!» فضحك غريب معجبا، وقد ثار في رأسه إقدام الشباب، واعتلى صهوة ذلك الجواد الأشهب، وكان جميع الخيالة قد نزلوا عن خيولهم لأنها تعبت وأخذوا ينظرون إلى ذلك الفارس الصغير ويعجبون له.
أما غريب فما إن اعتلى الجواد حتى شعر أنه جموح، ولكنه أبى إلا أن يركضه فلكزه لكزة قوية، فعدا الجواد صوب الصحراء، وسار ملء عنانه فظن الواقفون أن ذلك كان بإرادة غريب، وأنه لا يلبث أن يرجع به، ولكنهم انتظروا فلم يعد، وأوغل في الصحراء متواريا عن الأبصار، فصاح الأمير بشير برجاله قائلا: «لقد ضاع الغلام فهلموا إليه!» فركب جماعة منهم، واقتفوا أثره، والأمير ينتظرهم على أحر من جمر الغضا.
وكانوا قد أعدوا الطعام ودعوا إليه، فجلسوا وأبصارهم شاخصة إلى الأفق لعلهم يرون الخيالة راجعين، فمضت ساعة وساعتان، ولم يظهر أحد. فالتفت الأمير إلى الكاشف، وكان تركي الأصل، فإذا هو أصفر اللون مضطرب، لا يستطيع أن يتفوه ببنت شفة، فقال له الأمير: «ما رأيك في هذا الغلام؟» فقال له: «الله أعلم يا سيدي، إن جوادي هذا لم أشتره إلا منذ بضعة أيام من أحد العربان ولم أختبره بعد، وإنما قال لي صاحبه إنه جموح صعب المراس.» فقال له الأمير: «هل تعرف العربان الذين ابتعته منهم؟» قال: «لا أعرف أسماءهم، وإنما أعلم أنهم من عرب بني واصل القاطنين في هذه الصحراء.» فوقف الأمير على قدميه صارخا: «لا بد أن الجواد قصد تلك القبيلة، فهل عندك أحد ممن يعرف الطريق إليها؟» قال: «نعم وإنما الطريق صعب خطر.» قال: «لا تكلمني بمثل هذا الكلام، فإننا لا نعرف الخطر ولا الخوف، فأحضر لي بعض الخبيرين الذين يعرفون الطريق، وأنا أسير بنفسي للتفتيش عن هذا الفتى الضائع.» فنهض ابناه خليل وأمين وغيرهما من رجاله قائلين: «لا، لا يا سيادة الأمير، فإننا نحن سوف نذهب.»
فركبوا ومنعوا ابني الأمير من الركوب معهم، فلم يقبل الأمير أمين لأنه كان يحب غريبا محبة عظيمة، وقد وخزه ضميره لأنه هو الذي سعى في استحضاره إلى مصر فاحتدمت في رأسه النخوة، وآلى على نفسه ألا يرجع إلا بعد أن يجد غريبا، ويعود به سالما.
التفتيش عن «غريب»
انقسم الخيالة قسمين: قسم سار شمالا وقسم سار جنوبا، وكان الأمير أمين مع الفريق الأخير، وكان مع كل من القسمين خبير عارف بالطريق، واتفق الخبيران على أن يلتقي الفريقان عند الغروب في مكان متوسط بين الجهتين يعرفانه، للاطلاع على نتيجة البحث، والمشورة فيما يفعلونه.
ولما جاء الغروب ولم يعد أحد منهم، زاد قلق الأمير على ابنه أمين وباقي رجاله، فالتفت إلى الكاشف فإذا هو غارق في بحر من الهواجس، فسأله عن أمره فقال: «يا سيدي قد أخطأ الأمير أمين بسيره بهذا العدد القليل من الرجال؛ لأن البدو القاطنين بهذه الصحراء قوم غزاة، والحكومة لم تستطع إخضاعهم حتى الآن، وفيهم قطاع الطرق واللصوص، حتى إنهم كثيرا ما يهاجمون هذه البلاد وينهبونها، ومع سهر أفندينا العزيز الذي أمن البلاد وأهلك المماليك، فإن هؤلاء العرب لا يزالون من الخونة العاصين، وقد اعتاد المماليك قبل هلاكهم أن يلتجئوا إليهم في حال فرارهم من وجه الحكومة.»
وكان الكاشف يتكلم، وعينا الأمير بشير تتقدان حتى أصبح منظره كالأسد الكاسر، ثم التفت إلى الكاشف قائلا: «إذا كانت الحال كذلك فلا بد لي من الركوب لأتبع أثر هؤلاء لعلهم يكونون في شدة، على أني أعلم يقينا أنهم أشداء لا خوف عليهم، فإن بينهم عددا من بني الدحداح، وفيهم خيالة مشهورون، ولكن يجب أن أتبع أثرهم إذا غربت الشمس ولم يعودوا، أو لم يحضر من يخبرني عنهم.»
وأحب الكاشف أن يثني عزمه، فأصر وأمر أن يسرج له الجواد، وفيما هم على هذه الحال نظروا فرأوا في عرض الأفق غبارا ظهر من تحته خيالة فاستبشروا، فلما اقتربوا منهم رأوهم قليلي العدد، وليس فيهم الأمير أمين فقالوا له: «يا مولانا، إن الأمير أمينا لم يشأ المجيء معنا، وقد آلى على نفسه ألا يرجع ما لم يقف على خبر الأمير غريب، وقد حملنا هذا الكتاب إلى سيادتك.» فتناوله وفضه فإذا هو يقول فيه:
Unknown page
سيدي وملاذي
أقبل يديك ... وبعد، فلم أتأخر عن المجيء إليك مع من رجعوا إلا لأننا لم نظفر بغريب، وأنا أشعر بأني السبب في مجيئه إلى مصر؛ ولذلك آليت على نفسي ألا أرجع إلا بعد أن أجده، فألتمس منك المعذرة، ولا تظن أني خالفت أوامرك، فإني لا أستطيع العودة إليكم بدون أخي غريب، وقد أبقيت معي عشرين فارسا من رجالنا تطييبا لخاطرك، والسلام.
ولدك المطيع: أمين
فالتفت الأمير إلى حامل الكتاب، وقال له: «أين تركتم أمينا؟» فقال: «يا سيدي إننا بعد أن تركناكم انقسمنا قسمين: قسم سار شمالا وقسم سار جنوبا، واتفقنا على أن نلتقي عند الغروب في مكان متوسط فيه ماء لنعلم نتيجة سعينا، فسرنا نحن نحو الشمال وبحثنا طويلا، فلم نقف لغريب على أثر، فعرجنا نحو الملتقى، فالتقينا بالأمير أمين ورجاله، فسألناهم عما كان من أمرهم فقالوا إنهم لم يروا أحدا، وإنما مرادهم أن يقصدوا قبيلة بني واصل في هذا المساء، وهي بالقرب من مكانهم، إذ ربما كان الجواد قد قصد تلك الجهة لأن هذه عادة خيول العرب. فقال لنا الأمير أمين: «الأصوب أن تسيروا وتخبروا والدي وتطيبوا خاطره.» ودفع إلينا بهذا الكتاب، فأتينا به إلى سيادتكم امتثالا لما أمر.»
اضطرب خاطر الأمير بشير عند سماع ذلك وأطرق هنيهة، ثم قال: «خير لنا أن نتكل على المولى القدير، وهو قادر أن يرد ضائعنا ويحفظنا.» فسأله الكاشف إذا كان يريد العودة إلى البلدة للمبيت تلك الليلة، فقال الأمير: «كيف نبيت نحن في القصور، وأولادي في الصحراء يتعرضون للخطر الشديد، لعلنا نرى في منتصف الليل أن نسير لنجدتهم، فلنبق هنا لنرى ما يكون من الأمر.»
وبعد تناول العشاء، اجتمع الأمير بشير وولده خليل في خيمة، فشعرا بأن الدنيا كلها ظلام لتغيب الأميرين أمين وغريب، وعدم الاطمئنان على سلامتهما، فجلسا يتحدثان في ذلك الشأن.
الأمير «أمين»
أما ما كان من أمر الأمير أمين، فإنه بعد أن استراح هو ورجاله عند ذلك الماء، وكان الليل قد أظلم، تشاور مع رجاله في الأمر فإذا هم متشجعون جميعا إلا الخبير، فإنه تغيرت أحواله ووقع في خوف عظيم، وتقدم إلى الأمير أمين قائلا: «ليعش رأس الأمير، إننا الآن معرضون للخطر، وقلما جاء جماعة إلى هذا المكان ونجوا؛ لأن عرب هذه الجهات فرع من عرب العبابدة المشهورين، وهذه القبيلة التي هي أقرب إلينا تعرف بقبيلة بني واصل، وهي على جانب عظيم من البأس. وسيادتك تعلم أن هؤلاء البدو لا يؤدون عملا، وهم يعيشون بالنهب والسلب، ينامون نهارا، ويسرحون ليلا، وإني أضن بك أن تلقي بنفسك في هذا الخطر العظيم.» فالتفت إليه الأمير أمين قائلا: «إني عالم بكل الأخطار، ولست أجهل شيئا منها، وإن كنت تراني شابا فقد خبرت الناس، واختلطت بأمثال هؤلاء كثيرا في جهات الشام، وإنما أطلب إليك أن تتشجع وتصدقني الخدمة.» ثم التفت إلى رجاله وقال لهم: «وكيف أنتم؟» فقالوا: «نحن عبيدك، وأرواحنا رهن أمرك، ومستعدون جميعا أن نذهب فداء الأمير غريب.» فشكرهم ثم رتب مسيرهم، وأخبرهم بأنه يجب أن يحافظوا على مراكزهم بقرب بعضهم البعض.
ثم ركبوا خيلهم وساروا في ظلام الليل قاصدين قبيلة بني واصل، وقد شهروا سلاحهم للدفاع، وجعلوا في مقدمتهم رجلا يحمل مشعلا متقدا استئناسا بالنور وإيهاما لمن يراهم بأنهم من أهل ذلك البر، فساروا خببا في ذلك الليل، وهم لا يشاهدون حولهم إلا أفقا مظلما، لا يتخلله شيء من العمارة.
وبعد مسير نحو ساعتين، ظهر لهم شبح كأنه فارس سائر على مقربة منهم نحو اليمين، فأمر الأمير أحد رجاله أن يقتفي أثره ويسأله عن أمره، فسار وعاد من فوره يقود جوادا ليس عليه إلا السرج، فلما رآه الخبير صاح بأعلى صوته: «هذا هو جواد الكاشف، فأين الغلام؟» فوقف الجميع وتقدم الأمير أمين إلى الجواد وتأمله فتحقق من قول الخبير، فقال رجل منهم: «الأرجح أن الغلام سقط عن ظهر الجواد.» فقال الأمير أمين: «إن غريبا لا يقع عن ظهر الجواد، فقد عرفته فارسا منذ كان أصغر من ذلك في أرض أكثر وعورة. فما رأيكم؟»
Unknown page