قال: «لا شك أنه يخشى ذلك؛ لأن الحكومة العثمانية، وإن تكن قد ولته هذه البلاد بأوامر شاهانية حسب إقرار مؤتمر كوتاهية الذي عقد في 14 مايو سنة 1833م، إلا أني أرى أن ذلك الحكم لن يدوم له لأسباب كثيرة، منها أن الباب العالي لم يوافق على ذلك إلا لتحقيق إيقاف إبراهيم باشا عن التقدم إلى بر الأناضول والتعدي على أملاك الدولة هناك، والذي أراه من مطامع هذا البطل أعظم من ذلك كثيرا، فتراه على كثرة ما يقاسيه من القلاقل بسبب ثورات أهالي سوريا المتواصلة لا ينفك ناظرا إلى ما وراء ذلك، ويخشى ألا يفوز في بر الأناضول كما فاز هنا إذ ليس له هناك عضد مثل سيادة الأمير بشير.»
فقال أمين بك: «يا للعجب لهذا الرجل الباسل؛ فإني أراه أشجع من أبيه!»
قال سالم أغا : «قد سمعت الناس يتحدثون بشجاعة أبيه أيضا، وإنما الفرق بينهما على ما يظهر أن والده أرق جانبا وأحسن سياسة منه، أما هو فأقرب إلى رجال الحرب من أبيه، فمحبة الناس لأبيه مقرونة بالاحترام، أما محبتهم له فمقرونة بالخوف، وقد شهدته في عدة مواقع ببلاد اليونان وعجبت لبسالته، ولولا الحملتان البحريتان الإنجليزية والفرنسية اللتان تغلبتا على حملته في نافارين لكان فوزه هناك تاما، بالرغم مما أظهره اليونان من الهمة والنشاط والغيرة الوطنية.»
نكبة الإنكشارية
فقال غريب: «ولكن ما السبب الحقيقي لثورة اليونان؟ هل تعرف عنه شيئا؟»
فقال سالم أغا: «نعم، لأني أخذت إلى تلك الديار وربيت فيها، فقد كانت بلاد اليونان ولاية من ولايات الدولة العلية، غير أن الشعب اليوناني شعب تواق للحرية، وكانوا لا يكفون عن ذكر دولتهم القديمة، وما كان من رفيع مجدها وعظيم سطوتها. واتفق في ذلك العهد أن ولاية الصرب التي كانت من ولايات الدولة استقلت بأحكامها استقلالا محدودا، بمساعدة الدولة الروسية لارتباطها معها بجامعة الدين والجنس.
فلما رأى اليونان ذلك ثارت في نفوسهم محبة الاستقلال، فأخذوا يتكاتبون في سائر أنحاء العالم؛ لأن الشعب اليوناني كثير الأسفار كما تعلمون، وألفوا جمعية سرية في روسيا والنمسا وبلاد اليونان وغيرها، وكانوا يضمون إليها كل الشبان اليونانيين، وأطلقوا عليها اسم «جمعية الأصدقاء».
وقد كنت أنا في أثينا خادما في أحد بيوت الأعيان، وسني نحو الخامسة عشرة، فدعيت يوما مع سيدي، ولا تعجبوا لقولي إني كنت خادما؛ لأن ذلك لم يكن باختياري - كما سأخبركم - فلما وصلنا إلى مكان الدعوة، دخلنا قاعة منفردة قد اجتمع فيها عدد غفير من الرجال اليونانيين، وفي صدرها رجل جالس، أمامه مائدة فوقها كتاب أظنه التوراة، فدعانا كل واحد بمفرده، فلما دنوت منه قال لي: ضع يدك فوق هذا الكتاب، ففعلت. ثم أخذ يلقنني قسما أذكر منه ما يأتي:
أقسم بالإله الواحد قسما ثابتا، أني سأواظب على الأمانة والإخلاص لجمعية الأصدقاء في كل الأمور، وأني لا أبوح بشيء من أعمالها أو أقوالها، ولا أدع أحدا من أصدقائي أو أقربائي يعلم أني عالم بوجودها، وأقسم أني سأنمي الكراهية التي في قلبي للمستبدين بوطني وأتباعهم وأنصارهم، وأني سأتخذ كل وسيلة لإبادتهم. وأخيرا، أقسم بك يا وطني المقدس العزيز، وبما قاسيته من المشاق والعذاب، وبما سكبه أولادك من الدموع السخينة خلال عدة قرون، وأقسم بما أنتظره من الحرية المستقبلة لك، أن أقف نفسي لأجلك، وأن أجعلك من الآن فصاعدا محور أفكاري ومقاصدي، وأجعل اسمك نبراسي في جميع أعمالي، وأكتفي بسعادتك جزاء لمتاعبي.
وأقسم هذا القسم عينه جميع من حضر، وقد علمت أن منشأ هذه الجمعية كان في أودسا تحت رئاسة رجل يقال له: نقولا سكوفاس أحد تجارها، ويظهر بذلك أن الثورة كانت بدسيسة روسية.
Unknown page