في أوائل سنة 1832م، حينما كتب محمد علي باشا إلى ولده إبراهيم أن يفوض إلى الأمير بشير مباشرة أعمال ولاية صيدا، وأن يكون هو المتصرف في جميع شئون الأهلين وأصحاب المقاطعات، رأى غريب أن وجوده هناك لم يعد يأتي بفائدة، فطلب إلى الأمير أن يسمح له بالعودة إلى بيت الدين فأذن له، فركب في جماعة من رجاله وسار بعد أن ودع صديقه سالم أغا، وبعد مسيرة يوم ونصف يوم، وصل إلى مدينة صور، فلم يشأ النزول في المدينة ولكنه أراد المبيت عند رأس العين قبل المدينة بنحو نصف ساعة، وهو مكان فيه مياه غزيرة تندفع من تنور قد بني حولها فانحصرت فيه، وهناك بساتين تسقى منها وأرحية تدور بها، فنصبت لهم الخيام هناك، وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب، والبساتين مخضرة في أول الربيع والجو صافيا على أثر وابل غسل الأرض ونقى الجو، فترجل غريب عن جواده وسار يتنزه في تلك البساتين ترويحا للنفس، بعد أن أمر من معه بنصب الخيام وتهيئة الطعام. وسار برفقته أحد أتباعه، فشاهد عن بعد شخصا عليه عباءة قديمة فتقدم نحوه، فإذا هو شيخ طاعن في السن بيده عكاز، وقد أرخى شعر رأسه الشائب على كتفيه، وكانت لحيته ملء صدره، وتلوح على وجهه أمارات الكآبة، فتأمله فإذا هو ماش مطرق لا يلتفت يمينا ولا يسارا، فتعجب من حاله، وحدثته نفسه أن يسأله عن أمره فناداه قائلا: إلى أين يا حضرة الشيخ؟
فانتبه الشيخ كأنه هب من نوم، ووقف ينظر إلى غريب، ثم عاد إلى الإطراق وسار.
وأعاد غريب السؤال قائلا: «ما بالك لا ترد علي جوابا؟ ألا تعلم أن المسير في هذه الأرض غير مباح بدون استئذان؟»
فالتفت الشيخ مغضبا، وقال: «إني من عبيد الله، أسير في أرض الله، فما لك ولهذه المعارضة؟» •••
تعجب غريب لهذا الجواب، وتقدم إلى الرجل وأمسك بيده فنفر منه مغضبا، وهول عليه بالعصا، فقال غريب في نفسه: «إن في عقل الرجل اختلالا، فالأولى أن آخذه بالتأني.» أما تابع غريب فأمسكه بيده قائلا: «تأدب يا رجل واعلم أنك تخاطب ابن الأمير بشير.»
فبهت الشيخ ورفع عينيه إلى غريب وتأمله برهة، ثم أطرق إلى الأرض، ولكنه صار يرتجف حتى وقعت العصا من يده، فتأمله غريب فتوسم فيه شخصا يعرفه، فبهت مفكرا لعله يتذكر تلك الصورة، ثم أوقف تابعه عن الكلام، وتقدم إلى الشيخ بكل هدوء وقال له: «ألا تريد أن تخبرني عن اسمك؟»
فقال الرجل: «لا، بل أنت ما اسمك؟»
قال: «أنا الأمير غريب ابن الأمير بشير، وأنت، من أنت؟»
فرمى الشيخ بنفسه على غريب وكأنه أراد أن يتكلم فلم يستطع، وصارت شفتاه ترتجفان، ومد يده إلى كوفية غريب يريد نزعها، فأراد خادم غريب منعه فلم يستطع، وعندما وقعت الكوفية عن رأس غريب رنا بنظره إلى جبينه ولمسه عند أثر الضربة التي كان قد أصيب بها في الصحراء بمصر . •••
فتذكر غريب تلك الأيام، وفطن إلى أن هذا الرجل هو الذي أنقذه من أيدي اللصوص، فنادى بأعلى صوته: «هل أنت الأمير سليمان؟» فلم يستطع الشيخ جوابا، ولكنه أومأ إليه برأسه إثباتا. فصرخ غريب قائلا: «أهلا وسهلا بسيدي ومنقذي من الموت!» وطفق يقبل يديه، وأمر خادمه أن يحضر ماء، رشه به وأجلسه، وأخذ يحادثه ويخفف عنه حتى سكن روعه.
Unknown page