فمرقت بثينة إلى حجرة المكتب، واستبدلت ملابسها وكلها بشر واطمئنان، ثم عادت إليه بهديتها ملفوفة في ورق فني وهاج، وناولته إياها وهي تقول: هذه صورة من تحبها أكثر مني. - محال ذلك يا بثينة.
وفض أمين الورقة فوجد بطاقة تهنئتها، وقد رسمت عليها بريشتها صورة خيالية جميلة ملونة لمنحل عصري وأمين يعمل فيه، ومع البطاقة كتابان نفيسان باللغة الإنجليزية؛ أحدهما كتاب الدكتور مالكولم فريزر عن النحالة في العاديات “Becheeping in Antiquity by H. Malcolm Fraser, Ph. D.” ، وقد سرد فيه بأسلوبه الشائق سيرة النحل والنحالة في أقدم عصور التاريخ، وأما الكتاب الثاني: فالطبعة الإنجليزية من كتاب ذهن النحل لجوليين فرانسون “The Mind of the Bees by Julien Françon”
وقد ترجمه عن الأصل الفرنسي أحد علماء الإنجليز المعدودين وهو ه. إلترنجهام من أعضاء الجمعية الملكية البريطانية. ففرح أمين بهذه الهدية - بل الهدايا - فرحا عظيما.
قالت بثينة: لقد تعمدت أن أنظر في مكتبتك منذ شهرين في إحدى زياراتي لك فلم أجد هذين الكتابين، وكنت قرأت إعلانا عنهما فطلبتهما لك من إنجلترا وجاءا في الوقت المناسب، ويسرني أنهما أرضياك. - لا أدري كيف أشكرك، وكيف أحييك يا بثينة، فهل أكتفي بقول الشاعر: «أحلى التحيات أخلاها من الكلم»؟! - هيا نسأل أمنا الطبيعة - كما ننعتها - عن رأيها . - ولكنك نسيت الغداء، وإن تشربت منك أهنأه. •••
ولما أعاد أمين بثينة إلى منزلها قبيل الغروب كما يعيد الجوهري نفائسه إلى حرزه، كان وجهها الجميل الذي صانته عن الأصباغ والذرور قد اكتسب من كئوس الشمس ومن دعابات النسيم في جولاتها مع أمين بين الحقول وفي وثباتها فوق القنوات والغدران ومن حنانه وقبلاته لونا خمريا لم ينم عن الصحة وحدها، وكانت في عينيها أحلام جديدة لم تجرؤ على الإفصاح عنها له ولا لنفسها، وكان كل ما تردده ساهمة: يا له من يوم!
الفصل الثالث
لم يحتج أمين إلى أي استهواء لاجتذاب بثينة إلى المنحل الرئيسي، وقد تعاهدا على أن يخصصا يوم الجمعة لزيارته، وحان موعد الزيارة الثانية فوجد بثينة على استعداد تام قبل حضوره لمبارحة المنزل، فغادراه وهي مرحة متهللة.
قال أمين في الطريق، وهو حريص على ألا يسرع بسيارته إرضاء لها: لقد أمتعتني يا بثينة بهداياك متعة عظيمة، وقد طالعت الكتابين خلال الأسبوع فاستفدت فوائد جمة، وزاد تقديري للنحلة؛ بل للإنسانية ذاتها التي مجدت النحلة من قديم العصور، واعترفت بذهنيتها التي ارتفعت فوق مستوى الغريزة، وحيرت علماء الحشرات. - إني لسعيدة بإسعادك يا أمين ... وقد نظرت قبلك في هذين الكتابين فأعجبت بهما، ولم يدهشني - وأنت من أنت بروحك الشاعرة - أنك أحببت النحل كل هذا الحب؛ فحياة النحل وصحبته من صميم الشعر، وقد ترنم بحياته شعرا منظوما ومنثورا كل من خبر النحل من فرجيل إلى ماترلنك، ولم يفت شكسبير إلى جانب التغني بالنحل أن ينوه بنظام مملكتها الرائع. - سأغار منك يا بثينة وأنا أراك تنافسيني في محبة النحل. - حسبتك تقول إننا شخص واحد، وأنت على أي حال المذنب؛ لأنك تؤثر النحل علي. - أنت المنتصرة دائما.
وبلغا المنحل، وكأنما كل زهرة وعشب فيه وكل نبت حوله قد استعد لاستقبالها في بسمة مرحبة، وتهيآ للعمل مبكرين، فقال أمين: حظنا عظيم مع الجو يا بثينة، ففي مثل هذا الجو المعتدل تكون النحل وديعة لطيفة، فلا نسيء إلى النحل ولا نسيء إلى أنفسنا بالكشف عنها، وإن من الخطأ أن يحاول النحال - إلا لضرورة قصوى مما سأبينها لك فيما بعد - فتح الخلايا إبان الجو البارد أو الجو الحار، وسأبدأ أولا بفتح خلية نموذجية خالية من النحل لدراسة تركيبها وأجزائها، ثم بعد ذلك نفتح إحدى الخلايا المأهولة.
وتوجها إلى الخلية النموذجية فشرح لها أمين كيف تطورت تربية النحل من حالتها الآبدة في جذوع الأشجار المجوفة وفي تجاويف الصخور وما إليها مما أشار إليه (القرآن الكريم) في سورة النحل، إلى استعمال الإنسان الأنابيب من خزفية وفخارية وطينية خلايا لها، ثم إلى استعمال الصناديق المقفلة ما عدا أبوابها، ثم إلى استعمال المراجين المصنوعة من القش المضفور، ثم إلى استعمال الخلية الخشبية ذات الغرف والإطارات المتحركة، ثم إلى اهتمامه بصناعة خلية قياسية دولية للاستعمال الموحد في شتى الممالك.
Unknown page