ونهضت سيدة تريد الخروج، فتصورت عفيفة أنها ستبقى عند خالها غانم، وتذكرت لؤم طباعه ودناءة نفسه الكلبية وقبح أفعاله، وكيف أنه أبى قبولها عنده، وكيف قسا قلبه الصخري فأمات شقيقته كمدا وقهرا، فسقطت على قدمي سيدة راجية باكية تحلفها بالله تعالى وبابنها المحبوب أن لا تتركها في هذا المكان تموت قهرا، ثم قالت لها: ارحميني ارحميني واجبري كسري، انظري فقد أوشكت قوتي تنحل، وضاع رشدي، أنقذيني الله يسترك.
وبينما هي تتكلم هكذا إذا بباب الحجرة قد انفتح لهمام وسعيد، وكانا قد حضرا - كما تقدم القول - لاستعطاف خاطر غانم، والإصلاح بينه وبين فؤاد، وكان من عادة سعيد أن يدخل على أبيه بغير استئذان ولا تنبيه، فلم يخلف عادته وصادف دخوله وسيدة واقفة وعفيفة منطرحة على قدميها تستغيث وتسترحم، فأثر هذا المشهد عليه وعلى همام، فأقبلا إلى عفيفة وأنهضاها من ركعتها، وأجلساها على المقعد، وجعلا يسليان خاطرها ويطيبان قلبها.
وكانت سيدة قد جلست حين أبصرت هماما أخاها، وقالت: أحضرت معي الصبية كي أسلمها إلى خالها فهو أحق مني بالوصاية عليها والاهتمام بأمرها، وبذلك تنقطع أسباب الخصام والنزاع، ولكن تأنفت من الإقامة عنده، وليس لي أن أجبرها وأمنعها وهي تستغيث بي، ولكنني أخاف أن أرجعها عندي فتستمر أسباب القيل والقال، ويشتد علينا التعب والقلق، فوالله لقد ضاع رشدي، فلست أعلم ماذا أصنع. ثم إنها جعلت تقص على همام وسعيد طرفا من الحديث الذي دار بينها وبين غانم، وتطنب القول في أمانة فؤاد واستقامته، وعفة عفيفة وبراءتها، ونزاهتها من كل عيب وريب.
فقال سعيد: بدا لي من أول وهلة رأي في حل هذه المشكلة، ولعله مصيب وبه التوفيق بين الجميع.
قال همام: أفدنا عن رأيك فلعل به خيرا لنا أو يكون منه سبيل للخروج من هذا المأزق، فقد - والله - عدمت الرأي على شدة فراستي وذكاء قريحتي في حل المشاكل وتذليل المصاعب، فما أعلم هل عراني الخمول وفترت همتي منذ يوم دخلت في زمرة المتقاعدين حملا على المعاش.
قال سعيد: الرأي عندي أن نزوج فؤادا بعفيفة، فبهذه الوسيلة تنصرف الأضغان وتتمكن علاقات المحبة بين الفريقين، ويفوز فؤاد بمرغوبه، وتنال عفيفة جزاء الأمانة والعفاف.
قال همام: والله هذا عين الصواب، وهو الرأي الجدير بالاتباع في هذه الأحوال، لولا ما يحول من الموانع في هذا السبيل.
قالت سيدة: كان فؤاد هدفا للظنون الفاسدة والتهم الباطلة بسبب عفيفة، فلو تزوجها لثبتت تلك الظنون، فالرأي عندي لإزالة الشبهات أن نزوجه بسعدى - كما جرى القول أولا - ليعلم الناس أنه بريء مما نسب إليه، فلا يفترون عليه الكذب، والحجة في ذلك أنه لو لم يكن فؤاد بريئا لما زوجه غانم بابنته.
قال سعيد: قد فهمت المانع الحقيقي لتفضيل زواج فؤاد بسعدى، وهذا مانع هين لا عبرة به، ومن الممكن إزالته والفضل لا يخفى، وفضيلة عفيفة تكفيها لكبت أعدائها المفترين وإبطال أقوال الشانئين، والله حكيم، يقدر الأمور قدرها، فيجازي أحسن جزاء كل فعل جميل.
قال همام: لله درك يا سعيد، ما كنت أظن أنك على هذه الدرجة من الذكاء والفهم، فأنت ترى المانع من زواج فؤاد بعفيفة خلو يدي الاثنين من الثروة، وفي اعتقادك أن الزواج لا يجمل إلا بالموسرين، وأما قليلو المال فمتعوسون والزواج مجلبة التعب والشقاء لهم، والرجل العاقل لا يقدم عليه إلا بعد أن يكون قد أحرز شيئا من حطام هذه الدنيا لكفالة راحته وضمان استقباله، وإلا كان من الخاسرين مثله مثل رجل يقع في بحر عجاج متلاطم الأمواج، يطمع في النجاة على خشبة، والبر عنه بعيد والأمان فقيد، ولقد أصبت - والله - أنه لا يجمل بنا أن نجعل فؤادا وعفيفة في مثل هذا المركز الصعب، بل يجب علينا مساعدتهما بما يمكن، وأن نضمن لهما الاستقبال ليكونا في أمن من غوائل الأيام.
Unknown page