وسكت فريزن لحظة، ثم أتم في هدوء أيضا: في المرة الأولى التي رأيتك فيها استلفت نظري مشابهتك العجيبة لجلالة ملك فرنسا، وكل ما عليك أن تفعله هو أن تحلق لحيتك وتقص شعرك، وهذا يكفي تماما لخداع حاكم وحراس حصن دايك، وسوف آخذ إذنا - بما لي من مركز سياسي - بزيارة السجين، وسأصحبك معي، وإذا لزم الأمر فإنك تتبادل الملابس مع جلالته، حتى يمكنه أن يخرج معي دون أن يشعر أحد، وتبقى أنت مكانه. غير أن بقاءك هناك لن يزيد عن يوم أو اثنين، بل ربما بضع ساعات، فحالما يكتشف أولو الأمر في السجن هذا الاستبدال فسوف يطلق سراحك طبعا، وستهتم حكومتي حتما بهذا. وعلى كل فأنا لا أعتقد أن هذا الخطر الضئيل قد يعوقك، وإني أقسم لك بشرف بلادي أن حياتك ستسلم من كل خطر. والآن، هل فهمت؟ - لقد فهمت، ولكن! - ماذا؟ - اعف عني إذا قلت إنني لم أفهم حتى الآن الغرض من هذه اللعبة، فإذا كنت ترى - كما قلت لي - أن حكومتك تستطيع أن تسير الموضوع فلم إذن تقوم بهذه «المكيدة العجيبة»؟! - لأن الوقت ضيق أمامي بكل أسف. - ماذا تعني بالوقت؟ - يجب أن يعود جلالته إلى بادن بادن قبل يوم السبت المقبل وإلا فقد عرشه.
فهز سيرل كتفيه كأنما يردد ما قاله من قبل، ويعني أنه لا يهتم بهذا مطلقا، فأردف فريزن بتنهدة قصيرة وقد نفد صبره: إنني أعلم، أعلم أنك لا تهتم بذلك، هذا مفهوم، ليس جلالته عندك أكثر من أخيك غير الشقيق، هذا حسن، ولكن ماذا ترى في الفتاة؟
وقفز سيرل دون وعي وقال في تعجب وقد تجهم وجهه: الفتاة؟! - نعم، فيرونيك كريستوف، تصور كم يكون موقف هذه الفتاة التعسة مروعا! - يا للشيطان! ماذا تعني؟! - أعني أن الآنسة كريستوف قد تمت خطبتها رسميا لجلالته، وقد بلغت بذلك جميع الهيئات الرئيسية في أوروبا، وسوف يرسل إمبراطور أوستوريا وملك بروسيا وقداسة البابا وغير هؤلاء من يمثلونهم في الاحتفال بعقد القران؛ فتصور أنت عدم ظهور جلالته في هذا الحفل، وتخيل الشائعات والأقاويل والفضائح التي ستذاع حول الفتاة المسكينة، ولست أذكر لك مشاعرها وحبها لخطيبها ولو أنها لم تره من قبل، طمعها في أن تكون ملكة، كل هذه الأماني سوف تتحطم، تأمل ماذا يكون حالها بعد هذه الصدمة المروعة.
وكان سيرل لا يزال صامتا ينظر إلى ضوء المصباح وهو يفكر بعمق.
فاستأنف فريزن بحماس شديد: فلتقدم إلي يد المساعدة يا عزيزي برتراند، ولو من أجل الفتاة المسكينة، تصور موقفها أمام العالم في هذا المركز المهين المخجل كامرأة مخدوعة في حبها، لقد تحدث الناس كثيرا عن علاقة جلالته بالآنسة سان أماند، فإذا لم يتم هذا الزواج فتصور ماذا يقوله الناس عنها وقد تفوقت عليها ممثلة! تصور تأثير ذلك على نفسيتها وعلى سمعتها، لسوف يسلقها الحساد بألسنة حداد ساخرين منها هازئين بها، وإن فيرونيك لفتاة رقيقة الحس، أخشى أن تقتلها هذه السخرية وتلك المهانة.
وجاء دور فريزن في الانتظار والمراقبة؛ فلقد نمت هاتان العينان المتحمستان عن ذلك السر الذي كان يظن سيرل أنه قد دفنه في قلبه، وما كان فريزن ذلك السياسي البارع والرجل المجرب يتوهم ذلك السر، فما دار بخلده من قبل أن سيرل برتراند قد وقع في حب فيرونيك الفتاة التي كان يرسم صورتها، ولكن تلك اللمحة التي انبعثت من عينيه عندما ذكر اسم الفتاة أمامه، وهذا المعنى العجيب الذي يطل منهما الآن؛ قد جعلاه بعد ذلك لا يخطئ في فهم حقيقة مشاعر سيرل نحو الفتاة.
وأخذ فريزن صندوق سجائره وأشعل واحدة وألقى بالثقاب فوق المنضدة، ولكن سيرل لم يتحرك بل ظل ساكنا ينظر في تفكير نحو ضوء المصباح. وحدث فريزن نفسه وقد أحس بشيء من الاطمئنان لما أدركه أخيرا من مشاعر سيرل نحو فيرونيك؛ إن حبه لها سوف يمهد سبيل النجاح لخطته، ويدفع سيرل حتما إلى الاشتراك معه في الموضوع. وأخيرا سأله فريزن: حسنا! ماذا تقول؟
ولكن سيرل لم يتحرك، وكرر فريزن سؤاله مرتين أو أكثر قبل أن يتنبه سيرل إليه، وأخيرا صاح كمن استيقظ من النوم: آه! ماذا؟ - والآن ماذا ترى في «مكيدتي العجيبة» وقد عرفت جميع ظروفها؟
فرد سيرل في بطء: إنني لا أزال أراها عجيبة، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - سوف أذهب إلى حصن دايك معك غدا.
فأردف فريزن ببساطة ورزانة: إنني كنت واثقا من ذلك، كلمتك نهائية؟ - كلمتي كلمة شرف.
Unknown page