ذات مرة ضربت عاصفة حقل الذرة فأتت عليه تماما، واضطر الأطفال للعمل على مدار يوم كامل ليربطوا عيدان الذرة بالحبال في العصي لتقف مستقيمة مرة أخرى. وكانت الأسرة تعتمد بصورة أساسية على الذرة لصنع طعامها اليومي من عصيدة الذرة.
كان هناك اكتفاء ذاتي كامل، باستثناء الخبز والدقيق والسكر والملح. لم تكن العائلة تشتري إلا الضروري جدا، حتى إن ورق الحمام كان يتم صنعه من ورق الجرائد التي كانت تقص إلى شرائح في حجم اليد، وكان هذا أيضا من واجبات الأطفال؛ حيث كان يجلس أحدهم إلى المنضدة في غرفة المعيشة ويقطع الورق.
كذلك كان الورق يستخدم في التدفئة أيضا، ولم تكن هناك قمامة؛ فقد كان لديهم كومة سماد وخنزير وفرن.
كان أبي يتمنى طوال حياته أن يكون مستقلا، وهذا يرجع لطابع الفلاح المترسخ بداخله، وبينما رأى هو في ذلك نفعا له، كان ذلك الطابع يثير استياء زوجته وأولاده الذين نشئوا في عالم من المفاهيم المختلفة مثل الاستهلاك والتخلص من القديم. وتعد القدرة على إصلاح الأشياء واستعمالها مجددا، والقناعة التي ورثها من والديه بتأجيل بعض الاحتياجات أو حتى إلغائها تماما، من الأمور الآخذة في الانقراض في هذا البلد.
كان في قبو البيت الكبير في وادي الراين وعاء إعداد العرق، وكنت في طفولتي كثيرا ما أجلس على دلو مقلوب أو قطعة خشب أراقب العرق أثناء تصنيعه. كنت أحب صوت النار وهي تتأجج في الفرن، وصوت الكحول وهو يسقط في الزجاجات الكبيرة الحجم، ورائحة العرق العطرية في الحجرة المرتفعة الحرارة، ورائحة العمل التي تفوح من الرجال. وفي الخارج كنت أشاهد بقايا الثمار المعصورة وهي تبرد في حفرة في الأرض وينبعث منها بخار يغطي الفروع اليابسة لأشجار الكمثرى التي عراها الشتاء.
أما بالنسبة إلى أبي وإخوته، فقد كان صنع العرق يعني لهم وجود مياه ساخنة، والتي كان يتم نقلها مباشرة إلى حوض في الورشة المجاورة حيث توجد خلف السياج حظيرة الدجاج. كان المشهد يشبه أفلام رعاة البقر: رائحة العرق وصوت الدجاج وأولاد الفلاحين الذين يغتسلون عرايا في الماء الساخن. وكان هذا المشهد يتكرر عشر مرات في العام تقريبا، أما باقي السنة فقد كان الأطفال يغتسلون في المطبخ عند الحوض الوحيد في البيت، وبماء بارد.
وبقي أبي متعلقا بأسلوب حياته البطيء الذي عهده منذ كان طفلا؛ فقد ظل يغتسل في أغلب الأحيان عند حوض الغسيل، منحنيا بشدة على الحوض مصدرا أصوات تأوه عالية وهو يضرب وجهه بالماء، حتى إن الماء كان يندفع لأمتار بعيدة. ثم كان يدخل خرقة التنظيف بالإصبع السبابة في أذنه بعمق ويهزه بقوة، لدرجة أن مجرد مشاهدته يفعل ذلك كانت مؤلمة.
هذه هي الغنيمة الهزيلة التي خلفها لي ما نقل إلي عن طريق المصادفة من حياته، وكأنها قليل من أعواد القش التي خلفتها الريح في حقل بعد حصاده.
وفي عام 1938 بدأ الحكم النازي، وكانت العائلة تعد من المسيحيين الاجتماعيين في القرية. لم يفهم جداي انتماءهما إلى الكاثوليكية على أنه يقتصر على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد وحسب. كذلك لم يكن للعائلة أي مصالح اقتصادية خاصة يمكن للنظام السياسي الجديد أن يستفيد منها. يرجع الفضل في أن العائلة كانت مؤمنة ضد الأزمات بدرجة كبيرة لعملها بالزراعة، ولوظيفة جدي في صناعة الكهرباء التي كانت تشهد ازدهارا متناميا.
كانت جدتي تقول: «إن الشيطان هو من يقوم بحشو الأسلحة بالطلقات.» أما جدي، الذي كان شديد العناد، فقد عاد إلى استخدام صيغة «سيادتك» الرسمية في كلامه مع أخي زوجته الذي كان ينتمي للحزب النازي.
Unknown page