وليس في استطاعة كاتب على وجه الأرض أن يصف ما تحمله هذه السنين الطويلة من صنوف الآلام والذل والعذاب. هذه الرزايا كلها أناخت عليه فعبثت بعزة نفسه وصوحت زهرة آماله، وجعلته يتوقع بذاهب الصبر دنو أجله ليستريح من مكابدة شقاء لا يستطيع إنسان أن يتحمله. وأعجب من هذا كله أنه كابد هذه الشدائد جميعها ولم يفه قط بكلمة تذمر أو شكوى. وهذا الصبر العجيب النادر المثال أثر حتى في أقسى السجانين قلبا وحملهم على التوجع له والعطف عليه.
وفي السنين الأولى التي قضاها سجينا في الجزيرة حاول غير مرة أن يتصل بالعالم، واستخدم لذلك عدة طرق فلم ينجح، ومنها ما رواه فولتير قال: «كتب اسمه بسكين على إناء فضي ورماه من النافذة إلى زورق كان بجانب سور السجن، فالتقطه صاحب الزورق وكان صيادا، وأخذه إلى حاكم الجزيرة، فلما رآه أخذته رعدة الخوف وصاح بالصياد: هل قرأت المكتوب عليه؟ وهل رآك أحد تحمله إلي؟ - إني أجهل القراءة. وقد وجدته الآن ولم يرني أحد.
ولم يؤذن للصياد في الذهاب إلا بعدما تحقق الحاكم أنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، وأنه لم يشاهده أحد. وحينئذ قال له: «اذهب. فمن حسن حظك أنك جاهل لا تعرف القراءة».»
ويقال إن راهبا لقي مرة في الماء بجانب السجن قميصا مطويا من كتان نقي، وقد كتب عليه الأمير خلاصة قصة ولادته والمعاملة الجائرة التي عومل بها. فذهب به الراهب المنكود الحظ إلى الحاكم، ولما سأله حلف له أنه لم يقرأ المكتوب عليه، ومع ذلك وجدوه بعد يومين قتيلا في فراشه، وكان من ضحايا هذه المكيدة الشيطانية التي كادوها لهذا الأمير المسكين.
ويظهر أنه حتى الموت نفسه كان من الكائدين له والمؤتمرين عليه؛ لأنه على رغم تمنيه لنفسه كل يوم في صلواته، أبى أن يصغي إليه ويبادر إلى إنقاذه مما يعانيه. وبعد تسع وعشرين سنة قضاها في جزيرة سنت مرغريت بما هو أمر من الموت، نقلوه إلى الباستيل الذي مع شدة صعوبة الإقامة فيه عده جنة بالنسبة إلى ما قاساه من الأهوال في سجن الجزيرة.
ويقال إنه في مدة إقامته في هذا السجن لم يمنعوا عنه شيئا مما كان يطلبه، سواء كان من مواد الأطعمة أو من أدوات التسلية. ولكن هذا كله لم يخفف شيئا من شدة وطأة ذله وشقائه. وكانوا في هذا الوقت قد استبدلوا بقناعه الحديدي قناعا من مخمل (قطيفة)، ولكنه كان كالقناع السابق لا يفارق وجهه دقيقة واحدة ليلا ونهارا. وإذا عاده الطبيب في أثناء مرضه كان مأذونا له أن يكلمه، ولكن من وراء القناع. وكان يقدر أن يريه لسانه بشرط ألا يبدو معه أقل شيء من ملامح وجهه. وظل على هذه الحالة إلى آخر يوم من حياته، وهذا اليوم صار لحسن حظه قريبا؛ لأن القناع الكريه المخيف - حديديا كان أم مخمليا - ظل ثلاثا وأربعين سنة حاجبا الملامح التي لو سفرت لدلت على حقيقة نسب صاحبها. فلفظ نفسه الأخير والقناع مشدود على وجهه.
وهاك ترجمة ما جاء في تقرير السجن عن وفاته: «يوم الاثنين في 19 نوفمبر سنة 1702 توفي السجين المقنع الذي جيء به من سجن جزيرة سنت مرغريت، وقد توفي فجأة فلم يتمكن من تناول السر المقدس، على أن علامات الضعف والهزال ظهرت عليه منذ أمس. وفي الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم التالي في 20 نوفمبر دفن في مقبرة كنيسة القديس بولس. وأنفق على دفنه 800 فرنك.»
هكذا كانت نهاية هذا الأمير وهو في الخامسة والستين من عمره، ولو قدر له أن يدخل الحياة بضع ساعات قبل ميلاده لكان من أعظم ملوك العالم مجدا وعظمة واقتدارا. وكان حتى اسمه مجهولا عند الذين دفنوه، ويقال إنهم قطعوا رأسه مبالغة في الحرص على إخفاء معالمه، ووضعوا مع الجسد بعض المواد الكيماوية للتعجيل في محو رسمه وطمس ملامحه. وقد أتلفوا جميع الآنية والأمتعة التي استعملها. فأذابوا المعدنية منها وأحرقوا الملابس والمفروشات بالنار، ونزعوا ما على جدران سجنه من الورق مخافة أن يكون تحته شيء ينم على أعظم جريمة سود اقترافها صفحات تاريخ الإنسانية.
مبادلة غريبة
حدث في سنة 1782 أن اللورد نيوبورو برح وطنه ويلس في بريطانيا إلى توسكانا في إيطاليا لقضاء بضع سنوات في عزلة وانقطاع عن كل شاغل. ولم يخطر قط بباله أن يد القدر سوف تستخدمه لتمثيل فصل رائع ذي شأن في قصة أدهشت العالم كله بشدة غرابة حوادثها ووقائعها، مع أنه أقل الناس تأهبا خلقيا واستعدادا طبيعيا لما وكل إليه تمثيله والقيام به.
Unknown page