وفي اليوم التالي بعدما بحثت المركيزة عن هذين الولدين اللذين يدعيان هذا الانتساب السامي استدعتهما إلى قصرها، وساءها ما رأتهما فيه من الضنك والبؤس، وعزمت أن تتبناهما وتعنى بهما وبأخيهما جاك.
ولم يكن في وسع المركيزة أن تتحقق صحة ما يدعيه هؤلاء الأولاد، وقد كفاها باعثا على المبادرة إلى إغاثتهم أنها رأتهم في أشد حالات الشقاء بلا معين ولا منجد. فأقدمت على إنقاذهم من براثن الفقر المدقع. وبعد سنين وقفت على تاريخ ماضيهم، وهو من أغرب ما يروى في تواريخ البشر عن كوارث الدهر ونوائبه.
فقد حدث قبل ذلك بنحو قرنين أن ملك فرنسا هنري الثاني من أسرة فالوي رزق ابنا من إحدى سراريه - وكن كثيرات - فخصه بلقب بارون دي فالوي، وأقطعه كثيرا من الضياع الغنية الخصيبة. ومن صلب هذا البارون خرج عدد ليس بقليل من أعيان فرنسا وعظمائها، ولكن الإسراف والطيش كانا متأصلين في أسرة فالوي، فكانوا كلهم مطبوعين على البطالة والإمعان في الترفه والتنعم وتبيد أموالهم وتبذيرها في سبيل لذاتهم وشهواتهم. وقبل بداءة قصتنا هذه بسنوات قليلة هبط عميد هذه الأسرة من مصاف الأعيان إلى مستوى السوقة، وباع كل ما كان باقيا عنده من العقارات، وأصبح قصره الفخم الأنيق مجلى العفاء والخراب، وزاد على هذا كله أنه تزوج فتاة من أوضع الفتيات شأنا، وهي ابنة حارس غابة الصيد. وانبعث في السكر والخلاعة وقضاء وقته بين الغوغاء، ومزاولة سرقة الصيد والبساتين وعرض ما يسرقه من الطيور والثمار للبيع على أطباق محمولة على رءوس زوجته وأولاده.
قلنا إنه فرط في كل ما ورثه عن أجداده من ثروة وجاه ورفعة شأن، ولكنه ظل حريصا على شيء واحد، وهو وثائق نسبه وحجج انتمائه إلى تلك الأسرة العريقة في الشرف. هذه الأوراق بذل في الاحتفاظ بها جهدا لا يوصف، وكان يخبؤها تحت فراشه القذر الوسخ ويخرجها في أثناء سكره وينظر إليها ثم يستخرط في البكاء والانتحاب ذارفا دموع الأسف على عز ظله زال وشرف لونه حال.
أما زوجته الوضيعة الأصل، فلم يكن لهذه الوثائق من قيمة عندها سوى اتخاذها وسيلة للاستنجاد بالأغنياء والعظماء. وهذا الفكر خطر ببالها أخيرا كأنه بإلهام، فقالت في نفسها: «لماذا لا نذهب بهذه الأوراق إلى باريس ونستخدمها هناك في سبيل الحصول على قليل من المال لسد العوز؟ هناك يجد سليل هنري دي فالوي على الأقل ما يستر عورة فقره ويكفيه تصعير خده للناس بالتسول والاستجداء، ويحول دون تعرضه لتجربة السرقة والسلب.» وبناء عليه نهض اللص الشريف ذات يوم هو وزوجته واثنان من أولادهما وغادروا مظهر شرف الأسرة ومسرح عار سليلها، وساروا قاصدين باريس. وأما ولدهما الثالث ماريان، فإذ كانت أصغر من أن تستطيع قطع هذه المسافة البعيدة مشيا على قدميها، تركاها عند باب بدال (بقال) تستندي جوده وعطفه بصمت أبلغ من الكلام.
ولما بلغوا عاصمة فرنسا لم يظفروا بشيء يحقق الآمال ويصدق الأحلام. فلم يثق أحد بصحة دعواهم، ولا وقفوا في باب إلا صدهم أصحابه وردوهم يتعثرون بأذيال الخيبة والإخفاق، فاضطروا أن يطلبوا خبزهم اليومي، ويدفعوا غائلة الجوع بالتكدية والتسول في الأزقة والشوارع.
وكان الأب (البارون) قد بلغ من العمر أرذله، ولقي من عاديات البؤس والشقاء ما نهك قواه وقوض أركان صحته، فلم يلبث أن قضى نحبه في أحد فنادق باريس. وليس بعيدا أن يكون قد قضى جوعا. وما أبطأت البارونة (زوجته) أن تعزت عنه بالاقتران بعائر أفاق كان من قبل جنديا، واسمه ريموند. ولما نبت به باريس ولم يستطع الإقامة فيها، هجرها مستصحبا زوجته وقد تركا أولادهما لرحمة العالم يعيشون كما شاهدناهم في بداءة هذا الفصل.
وكان من حسن حظهم أن لاقوا المركيزة بولانفيليه، فشملتهم بعطفها وحنوها، وحولت عسرهم يسرا، وأدخلتهم إحدى المدارس المجاورة. ولما بلغت جان - أكبر الأولاد - الرابعة عشرة، أرسلتها المركيزة إلى إحدى الخائطات لتتعلم فن الخياطة، ولكن الفتاة لم تستحسن ذلك، وشق عليها أن تتحمل مشاق التدريب على تعلم هذا الفن وتعنى بأعمال هي من شأن الخدم كالطبخ والغسل وكي الثياب وغيرها. نعم إنها نافعة ومفيدة، ولكنها لا تليق بمن يجري في عروقها دم الملوك. وبعد تكرار التوسلات وذرف الدموع رقت المركيزة لها وأخرجتها من سجنها وأبقتها معها في القصر كوصيفة أو رفيقة. وهذا ما كانت تصبو إليه وتعلل نفسها بالحصول عليه.
وكانت في أثناء وجودها مع المركيزة لا تكف عن ذكر نسبها، وطلب تحقيقه وإثبات صحته، فأوعزت المركيزة إلى أحد علماء الأنساب أن يعنى بالأمر. وبعد قليل جاءها بالخبر اليقين، وقال لها إن دعوى الفتاة صحيحة، وهي سليلة هنري الثاني دي فالوي ملك فرنسا. وبعد بضعة أسابيع ذهبت المركيزة بالأولاد إلى باريس وقصت حكايتهم على الملك لويس الخامس عشر نفسه، فأذن أن تدعى الفتاة جان الآنسة دي فالوي، وأن يلقب أخوها جاك بالبارون دي فالوي ويتعين ضابطا في الحربية، وأن يعطى كل منهم من خزانة الحكومة ثمانمائة ليرة في السنة.
وقد شعرت الأختان بما لنسبهما من العظمة والشرف عندما أعلن الملك رغبته في أن تعتزلا العالم وتقيما في دير، على أمل أن تكونا آخر من ينتسب إلى بيت فالوي. وبناء عليه أرسلت جان وأختها ماريان إلى أحد الأديار، ولكن المركيز كان قد أحب جان وطارحها أحاديث وجده وغرامه، فوجد منها أذنا صاغية. ولما دخلت الدير واصل زيارتها بلا انقطاع حتى اضطرت الرئيسة إلى إخراجهما كلتيهما.
Unknown page