ـ[مجموعة الرسائل والمسائل]ـ
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: ٧٢٨هـ)
علق عليه: السيد محمد رشيد رضا
الناشر: لجنة التراث العربي
عدد الأجزاء: ٥ أجزاء في مجلدين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
Unknown page
مجموعة الرسائل والمسائل
تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره
الجزء الأول
رسائل وفتاوى في:
التفسير والحديث والأصول والعقائد والآداب والأحكام والصوفية
خرج أحاديثه وعلق عليه: السيد محمد رشيد رضا
لجنة التراث العربي
1 / 1
الجزء الأول
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل
أقسام الناس في التقوى والصبر
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل الشيخ الإمام، العالم العامل، الحبر الكامل، شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، تقي الدين بن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم، عن الصبر الجميل والصفح الجميل، والهجر الجميل، وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس؟ فأجاب ﵀: الحمد لله، أما بعد فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، فالهجر الجميل هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا عتاب، والصبر الجميل صبر بلا شكوى، قال يعقوب ﵊: " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " مع قوله: " فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون " فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل.
ويروى عن موسى ﵊ أنه كان يقول: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان.
ومن دعاء النبي ﷺ: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ أإلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت الظلمات له، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك الغنى حتى ترضى ".
وكان عمر بن الخطاب ﵁ يقرأ في صلاة الفجر " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف. بخلاف الشكوى إلى المخلوق.
قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طليوسًا كره أنين المرض وقال: إنه شكوى. فما أنّ حتى مات. وذلك أن
1 / 2
المشتكي طالب بلسان الحال، إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه، والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى: " فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ".
وقال ﷺ لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ". ولا بد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبلًا " إلى قوله: " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط "، وقال تعالى: " بلى إن تصبروا وتتقوا يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين "، وقال تعالى: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ".
وقد قال يوسف: " أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا أنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ". ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين - المسارعة إلى فعل المأمور، والتقاعد عن فعل المحظور، والصبر والرضا بالأمر المقدور، وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة بل ومن السالكين، فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية، دون الدينية، فيرى أن الله خالق كل شيء وربه ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يسخطه ويبغضه وإن قدره وقضاه، ولا يميز بين توحيد الإلوهية، وبين توحيد الربوبية، فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات - سعيدها وشقيها - مشهد الجمع الذي (١) يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق والمتنبي الكاذب، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، والملائكة المقربون والمردة الشياطين، فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية، وهو إن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره، ولا يشهد الفرق الذي فرق الله بين أوليائه وأعدائه، وبين المؤمنين والكافرين، والأبرار والفجار، وأهل الجنة والنار،
_________
(١) لعل الأصل:فمشهد الجمع يشترك فيه الخ
1 / 3
وهو توحيد الألوهية، وهو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، وفعل ما يحبه ويرضاه، وهو ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان. فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية
الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإلا فهو من جنس
المشركين وهو شر من اليهود والنصارى، فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية
إذا هم يقرون بأن الله رب كل شيء كما قال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات
والأرض ليقولن الله) وقال تعالى (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟
سيقولن لله قل أفلا تذكرون؟ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟
سيقولون: الله (١) قل أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه
إن كنتم تعلمون؟ سيقولون الله قل فأنى تسحرون؟) ولهذا قال سبحانه (وما يؤمن أكثرهم بالله
إلا وهم مشركون) قال بعض السلف تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون الله وهم مع
هذا يعبدون غيره.
من أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى (٢) فإن
أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاؤا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا
ببعض كما قال تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون
نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا. أولئك هم الكافرون حقًا)
_________
(١) هذه قراءة أبي عمرو ويعقوب في الآية وما بعدها وقرأ الباقون (لله) وهي المشهورة عندنا
(٢) الإصطلاح الشرعي أن الكفر إذا أطلق انصرف إلى ما يقابل الإسلام ويضاده فالمراد هنا أن من المسلمين جنسية أو ادعاء من يكفر بمسائل أكثر مما يكفر به أهل الكتاب. وإذا أطلق الكفر في عرف هذا العصر فالمراد به الإلحاد والتعطيل المطلق ولا يدخل فيه أهل الكتاب كما هو ظاهر
1 / 4