ولم يزل هذا شأننا حتى وفد علينا «إدوار»، وكان منكوبا بمثل نكبتنا، فتقاسمنا نحن الثلاثة هذا الشقاء وتعاونا عليه برهة من الزمان حتى فرقت بيننا الأيام.
وهنا اختنق صوته بالبكاء فلم يستطع المضي في حديثه، وأطرق إطراقا طويلا ثم رفع رأسه فإذا عيناه محمرتان من البكاء، فألقى على ماجدولين نظرة طويلة دامعة وقال لها: أتدرين يا ماجدولين ماذا صنعت بهذا الأخ الذي كنت أحبه أكثر من كل إنسان في العالم، وكان يحبني أكثر مما أحبه؟ قالت: لا أعلم أنك صنعت به شيئا، قال: لأنني قد قتلته، فذعرت ماجدولين واصفر وجهها وقالت: إني لا أفهم ما تقول، قال: قد كتب إلي من ميدان القتال أن سرجه بال ممزق يوشك أن يخذله في الميدان، وأنه في حاجة إلى عشرين فرنكا ليبتاع بها سرجا جديدا، وكنت قادرا عليها، فضننت بها عليه، فانقطع به سرجه أثناء المعركة، فداسته حوافر الخيل فمات! فاستعبرت ماجدولين باكية وقالت: وا أسفاه عليه وعلى شبابه الغض وغصنه الباسق النضير! فحدق استيفن في وجهها تحديقا شديدا وقال لها: وهل تدرين لم ضننت عليه بهذا المال الذي سألنيه؟ قالت: لا، قال: لأني كنت لا أملك سواه، وكنت بين أن أرسله إليه ليبتاع به السرج الذي يريده، أو أنفقه في السفر إلى «كوبلانس» لأراك، فآثرت رؤيتك على حياته.
فنكست ماجدولين رأسها، واحمر وجهها حياء وخجلا، وظل جسمها يرتعد ارتعادا شديدا. ثم عاد إلى حديثه يقول: وهل تعلمين ماذا تم لي بعد أن سافرت إليك هذه السفرة؟ فصمتت ماجدولين ولم تقل شيئا، فقال: ذهبت إليك في ملعب الأوبرا فلم أجدك، فانتظرتك طويلا فلم تأت، فقلقلت عليك قلقا عظيما، وذهبت إلى بيت «سوزان» لأقف على أمرك فرأيت هناك وليمة حافلة، فسألت عنها فعلمت أنها عرس صديقتك، فأبيت أن أذهب دون أن أراك - ولو على البعد - لحظة واحدة، ثم أنصرف لشأني، وكان لا بد لي من أن أحتال لذلك احتيالا، فاختلطت بالخدم كأنني واحد منهم، وكانت ثيابي أشبه بثيابهم، حتى تمكنت من الدخول إلى فناء القصر، ووصلت إلى باب قاعة الرقص، فنظرت من زجاجها فرأيتك ترقصين مع «إدوار» تلك الرقصة التي كنت تفتتحين بها حياتك الجديدة معه، وبينا أنا كذلك إذ دفع الباب دفعا شديدا وخرج منه أحد الزائرين فأمرني أمرا لم أحسن القيام به، فضربني على وجهي سوطا لا يزال أثره باقيا على خدي حتى الساعة.
وهنا وضع يده على خده كأنما قد وقع السوط في هذه اللحظة، وانفجر باكيا بصوت عال وتركها مكانها ومشى في الطريق الموصل إلى مخدعه، فلحقت به عند باب المخدع وتشبثت بردائه ومدت يدها إليه ضارعة وقالت له: ألا تستطيع أن تعفو عني يا «استيفن»؟ فجذب رداءه منها، وألقى عليها نظرة شزراء هائلة، وقال لها: اذهبي أيتها السيدة إلى مخدع زوجك فإنه مريض، وربما كان في حاجة إليك، ثم دخل مخدعه وأقفل بابه، فلبثت في موقفها ساعة باهتة مذهولة، ثم انصرفت إلى مخدع زوجها.
في هذه اللحظة علمت أنه لا يزال يحبها، ويستهيم بها، وأنها تحبه حبا يستعبدها، ويملك عليها كل عاطفة من عواطف قلبها، وأن قد حيل بينها وبينه إلى الأبد، فقضت في مضجعها ليلة ليلاء ما يكاد يغرب لها نجم، ولا يطلع لها فجر، وما كان ليله بأقصر من ليلها. (87) من ماجدولين إلى سوزان
لم يبق لي بد من أن أعترف لك بكل شيء.
قد أصبحت أحب «استيفن» حبا لم أضمر له مثله فيما مضى من أيام حياتي؛ لأنه حب بلا أمل ولا رجاء.
لا، بل أعتقد أنني ما سلوته يوما من الأيام ولا نسيته، وأنني كنت أخدع نفسي وأكذبها حينما ظننت أنني أستطيع أن أحيا بدونه، أو أسكن إلى عشرة إنسان سواه.
إنه لا يزال يحبني ويستهيم بي، ولا يزال يذكر ذلك الماضي كأنه لا يزال حاضرا بين يديه، وقد كنت أجهل ذلك منه، ولا أرى له أثرا في وجهه، حتى جلست إليه منذ ليال مجلسا منفردا فجرى بيني وبينه حديث ثارت فيه عواطف نفسه ثورة شديدة فبكى وتألم، وغضب واحتدم، فعلمت أنه لم ينس شيئا وأنه إنما كان يكاتمني لواعج نفسه وآلامها، ويطوي أحناء ضلوعه على مهجة تتحرق لوعة وأسى، فرثيت له وبكيت لبكائه، وأكبرت فيه تلك العاطفة الشريفة، عاطفة الولاء والإخلاص لامرأة قد غدرت به أقبح غدر، وخانته أفظع خيانة، وملأت عليه فضاء حياته بؤسا وشقاء.
إنه لم يفكر في الزواج حتى الساعة، ولم يفتح باب الطبقة العليا من منزله التي كان أعدها لسكنانا إلا مرة واحدة منذ ليال، وكان ذلك من أجلي، ولا تزال غرفة العرس باقية على عهدها كما هي، ولقد رأيتها فرأيت الغبار منتشرا فوق سريرها ومقاعدها وأستارها، فشعرت عند النظر إليها بما يشعر به الماثل أمام جدث بال قد ضم إليه، وطوي به بين تربه وأحجاره.
Unknown page