الغناء المصري
الغناء صوت النفس وهو في كل أمة صورة آدابها وأخلاقها وعاداتها فبينا ترى الوحشيَّ في مفازة تمشي الرياح بها حيرى مولهة وهو يتغنى بذكر الشمس والماء والشراب والعربيَّ تحت القبة الزرقاء يتغنى بذكر البدر والليل والخيل إذا أنت بالحضري وهو آمن في سربه مطمئن في عقر داره لا يخشى زئير الأسد ولا يتطلب الغيث وقد احتفت به الغواني والغيد، والجواري والعبيد، وهو يرتع في خمائل البساتين، يتجرع كؤوس الهناء، ويتغنى بذكر الجمال، والتيه والدلال، والرقيب والعذال، والعتاب والوصال، وترى الجنديَّ يتغنى بذكر الحروب، ويترنم بأغاني الوغى، ويطرب لوقع السيوف على السيوف، كما يطرب الحضري لوقع الصنوج على الصنوج، أو لدق الأنامل على الأوتار والدفوف.
والغناء قديم وجد مع النفس لأن الإنسان ما لبث لما أخذه بصره جمال هذه الكائنات وجلال ذلك الخلق البديع أن تحركت عواطف نفسه فحركت عقيرته بأصوات الغناء. ولقد بلغ الغناء العربي شأوًا بعيدًا فلم يكد يستقر الملك لبني العباس حتى قربوا أهل الشعر وأرباب الغناء. فكانت مجالسه عندهم تفاخر مجالس الحكمة والشعر. وكان للغناء بلابل تغرد فتطرب، وتشدو فترقص. أقام الرشيد ببغداد قصرًا على ضفاف دجلة فكان إذا أرقته الهموم يقصد ذلك القصر ويدعو إليه إبراهيم الموصلي ويضاء ذلك القصر البديع ويهب نسيم الليل حاملًا عطر الأزهار فيندفع المغني يحرك الأوتار فترقص الأسماك في أمواه دجلة طربًا وتشاركه البلابل في التغريد. ومن لنا بمجلس من مجالس الأنس بالأندلس وقد ضربت علينا قبة من البلور ينحدر الماء من جانبيها وحولنا الخرد العين وبيننا مائة القد تضم إلى صدرها ابن الطرب وهو يئن من لمس أصابعها تارة ويتأوه آهة المتيم المعمود طورًا وهي تنشد:
ما لذَّ لي شرب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح
إذا أسى في الصباح أو في الأصيل أضحى يقول
ما للشمول لطمت خدي وللشمال
هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي
مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبًا يا لحظه رد ثوبًا
ويا لماه الشنيا برد غليل صب عليل
2 / 20