Maidat Aflatun
مائدة أفلاطون: كلام في الحب
Genres
Logos
اليونانية فمعناها الكلمة؛ ولذا جاء في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا: «في البدء كانت الكلمة (لوغوس)، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس!» فتأمل كيف أن رأي هيراقليط ورأي زينو اتفقا بعد عدة قرون مع الكتب المنزلة المقدسة، وقد قرر هذا الرأي ووضحه المؤرخ العالم و. بن في كتابه: تاريخ الفلسفة القديمة، ص114.
نقول وبعد زينون جاء كليانت، وكان شديد التدين، ونظم صلاة نقلنا معظمها إلى العربية في عرض الكلام عليه، وقد أدى به تشدده في الدين إلى التعصب الأعمى، فأمر بقتل أريستارخوس العالم الطبيعي لقوله بدوران الأرض حول الشمس، وحدث مثل هذا بعد مئات السنين على أيدي رجال الدين لجاليليه وسيرفيه وبرونو وغيرهم كثيرون، وجاء بعده خريسبوس، وعاش عيشة الحكماء، وبسط الفكر الفلسفي جهد طاقته.
ثم إن المذهب الرواقي اشتهر وانتحله الرومان الذين تغلبوا على اليونان، وظهر ثلاثة فطاحل لهذا المذهب هم: سنيكا، ومارك أوريل، وأبيكتت.
أما سنيكا فقد درست تاريخ حياته ومبادئه مذ كنت أعد المواد لرواية نيرون التي مثلت في القاهرة في عام 1919، وأظن أن أبلغ وأوفى ما كتب عنه ما ورد في كتاب تاسيت وسويتون المؤرخين الرومانيين، والمعلوم من حياته أنه نفي من روما على عهد كلوديوس إلى أن ردته أجريبينا إلى وطنه بعد أن قتلت زوجها كلوديوس بالسم، ووكلت إليه أمر تربية ولدها نيرون، وكانت رزقت به (ورزئت به الدنيا) من زوجها الأول إينوباربوس، وكان سنيكا صديقا حميما للقائد بوروس الذي شاركه في تدريب العاتية الغشوم وهو في صباه، ويظهر أن سنيكا كان دساسا أكثر منه حكيما؛ فقد اشترك في كل المؤامرات التي تمت في قصر نيرون له وعليه، واتهمه نيرون أخيرا بالاشتراك في مؤامرة غايتها خلع نيرون، وتولية سنيكا مكانه، ولم يشأ نيرون أن يقتل سنيكا جهارا، فاكتفى بأن أمره بقتل نفسه؛ ففعل، وجاء في تاريخ تاسيت عن موته في الجزء الأول صحيفة 502 ما يأتي:
لما بعث إليه نيرون بالجند مزودين بأمر الانتحار، قال لأصحابه الذين كانوا حوله: ترون أيها الرفاق عجزي عن شكركم، إنني أترك تاريخ حياتي نموذجا تنسجون على منواله، وهو أثمن ما لدي فاعتزوا به، لقد حاولت أن أكون مثال الفضيلة والصداقة والإخلاص، فبكى الحاضرون وهموا بتقبيله، فقال لهم: أين مبادئ الفلسفة؟ وأين تعاليم الحكمة؟ ألم تتعلموا بعد كيف تلقون المصائب بصدر رحب، وعزم ثابت، ونفس مطمئنة؟! هل كانت قسوة نيرون مجهولة لديكم؟ لقد قتل أمه وأخاه (ونسي الحكيم أن نيرون اشترك مع أمه أجريبين وآخرين في قتل زوج أمه كلوديوس، وكانت هذه فاتحة عهد المذابح)، ولم يبق له إلا أن يقضي على أستاذه ومشيره، ثم ضم زوجته إلى صدره، وقبلها قبلة الوداع، ثم أمر ففتحت شرايينه، فلم تقطر دما، فأعدوا له جرعة من الساج (مثل التي شربها سقراط) فقال وهو في النزع: وا فرحتاه! إنني أموت بالكأس التي مات بها سقراط! وأمر خدمه فنقلوه إلى حمام البخار، فأخذ يرش أرقاءه بالماء، ويقول: ها أنا أتوضأ إكراما للمشتري إلهي ومنقذي من آلام الحياة. ا.ه. كلام تاسيت.
وهذه النبذة الجميلة البليغة التي نقلناها عن تاسيت (وهو في نظري أعظم مؤرخي الرومان، وأعظم مؤرخي الأقدمين ما عدا هيرودوت وبلوطارح وهما في صفه) تعطينا صورة ناطقة لموت سنيكا، ولكنها تدل على معنى المذهب الرواقي كقوله: «أين تعاليم الحكمة؟ ألم تتعلموا كيف تقلون المصائب بصدر رحب، وعزم ثابت، ونفس مطمئنة؟»
وكان سنيكا إسبانيا (أي من أبناء المستعمرات بالنسبة للرومان) ولد في العام الثالث للمسيح، ومات في سنة 65ب.م على دين آبائه وأجداده، ونحن لا نريد الانتقاص من قدره بقولنا إنه كان دساسا أكثر منه حكيما، ولكن يظهر أن حياته السياسية اقتضت إغفال الحكمة والتضحية بها في سبيل مظاهر الحياة، وحب النفوذ حتى إنه حاول في نهاية أمره أن يكون قيصرا رومانيا، وهذه الفكرة الجنونية لم تخطر ببال أحد من الحكماء.
أما إيبقت أو إيبكتت ومعناه «المشترى بالمال»، وليس هذا علما، ولكنه يشبه اسم «عبد الخير» في عرفنا لما كان الرقيق مباحا، هذا الحكيم المسكين الذي لم يستفد من الدنيا شيئا حتى ولا اسما يعرف به غير وصف الرق والابتياع، كان رقيقا لرجل من أخبث الناس، وأرذلهم، وأقبحهم ذكرا في التاريخ، وهو المعتوق إيبافروديت، وقد درسنا حاله أيضا في كتاب تاسيت، وكان إيبافروديت هذا رقيق نيرون، وصحبه طول حياته، وسهل له كل الجرائم حتى جريمة الانتحار التي قضى بها على نفسه، فتأمل أيها القارئ اللبيب كيف أن بلاط نيرون أعظم الظالمين، وأشد الطغاة بغيا، خرج فيلسوفين معروفين، هما سنيكا وإيبقت، وكان المسكين أعرج، ولعل عرجه نتيجة ضربة من إيبافروديت اللعين، وقد دفع به الظلم والأذى إلى أن يلتمس تفريجا لكروبه في درس الفلسفة الرواقية التي تعلم احتمال المصائب، ولقاءها بصدر رحب، وبلغ منها الغاية فصار شبه أستاذ إلى أن طرده دوميتيان الإمبراطور في سنة 90ب.م. مع جميع الفلاسفة؛ لأنهم ضايقوه بمبادئهم التي تقاوم ظلمه (العفو يا صاحب الجلالة) فلجأ إلى نيكوبوليس، وأخذ يعلم الحكمة، وهو في غاية الفقر، ولكنه بعد موته لم يعدم غنيا متهوسا محبا للظهور، اشترى مصباحه الذي كان مصنوعا من الفخار (مسرجة) بثلاثة آلاف دراخما (نحو ثلاثة آلاف فرنك) كما يصنع أغنياء الأمريكان لعهدنا في اقتناص آثار العظماء، وكان الحكيم الأعرج المريض الفقير أولى بها يقوم أوده في حياته، ولم يدون شيئا، ولكن تلميذه فلافيوس أريانوس كتب عنه كل مبادئه في كتابين رأينا لهما ترجمة إنجليزية في ستة أجزاء بقلم إليزابث كارتر، وخلاصة فلسفته استسلام الإنسان للألم، وتوطيد النفس عليه، وقوله بأن إرادة الإنسان فوق كل شيء، وهي التي تؤدي إلى سائر الأعمال، وأن جميع الناس أبناء الله، والمثل الأعلى للحكمة في نظره سقراط وديوجين الكلابي.
أقول: وأول ما علمت شيئا عن إيبقت ما قرأته من الحكم والمواعظ التي اقتبسها جون لوبوك وزين بها كتبه «سعادة الحياة» و«منافع الحياة» حتى يمكن القول بأن جون لوبوك كان تلميذا لإيبقت في العصر الحديث، وإيبقت واضع مثل «احتمل واصفح»، وفيه ما فيه من نصائح المسيحية المكرمة، وإذا صح ظني كان تولستوي من أتباع إيبقت، وبالجملة كانت فلسفته فلسفة استسلام وعدم مقابلة الشر بالشر، وتعميم الحب، ولم أر أحدا من حكماء العرب أو كتابه قد اعتنى بآراء هذا الحكيم الذي لا يشبهه في حكمته وشقائه إلا أيثوب الذي كان رقيقا وفيلسوفا، وكتابه العيون اليواقظ، الذي انتحل معظمه لافونتين، ونقله محمد عثمان جلال نظما، معروف ومتداول.
Unknown page