مقدمة كتاب المحاسن والأضداد
لم يرد ذكر لهذا المؤلف في كتب الجاحظ، لقد ذكر أبو عثمان أسماء نحو ستة وثلاثين من مؤلفاته في مقدمة «كتاب الحيوان» وليس بينها اشارة إليه قريبة أو بعيدة. كما ذكر في بعض رسائله اسماء عدد من كتبه الكثيرة واغفل هذا الكتاب اغفالا تاما.
وكذلك خلت المصادر القديمة من ذكره، عدا كتاب الخزانة للبغدادي. أما المصادر الحديثة فقد ذكرته، منها كتاب أدب الجاحظ للسندوبي وكتاب تاريخ الأدب العربي لبرو كلمان. وترجم أو. ريشر بعض فصوله إلى الالمانية ونشرها.
وقام فان فلوتن بإصدار الطبعة الأولى منه في ليدن سنة ١٨٩٧ م.
وتبعه الخانجي فطبعه في القاهرة سنة ١٩٠٦ م، مع مقدمة موجزة عن حياة الجاحظ، وبدون شرح. ثم توالت الطبعات التي لم تكن احسن من طبعة الخانجي، ومعظمها صدر في بيروت.
وجميع هذه الطبعات نسبت الكتاب للجاحظ ولم تبد شكها فيه.
ولكن المستشرق الفرنسي شارل بيلا لا حظ في القائمة التي وضعها لكتب الجاحظ أن الكتاب منحول ولم يذكر الأسباب التي استند إليها.
وربما كان الدافع الذي حفز هؤلاء الناشرين على نسبة الكتاب
1 / 5
للجاحظ مقدمته التي يعترف فيها أبو عثمان أنه كان ينحل غيره- أمثال ابن المقفع، والخليل بن أحمد، وسلم صاحب بيت الحكمة، والعتابي، ويحيى بن خالد، وأشباههم- بعض كتبه، لتروج. وأن بعض الكتاب في عصره كانوا يغيرون على كتبه ويسرقون بعض فصولها ومعانيها ويؤلفون منها كتبا ينسبونها لأنفسهم. ثم يعلن نسبة الكتاب إليه قائلا: «وهذا كتاب وسمته بالمحاسن والأضداد لم أسبق إلى نحلته ولم يسألني أحد صنعه، ابتدأته بذكر محاسن الكتابة والكتب، وختمته بذكر شيء من محاسن الموت. والله يكلأه من حاسد إذا حسد» .
والحق أن هذه المقدمة التي لا تتعدى صفحة واحدة إنما هي فقرة استلت من رسالة للجاحظ طويلة عنوانها «فصل ما بين العداوة والحسد» ووضعت في صدر هذا الكتاب لتخفي حقيقته. بيد أن ما جاء فيها بصدد النحل والسرقة يشكل برهانا على نحل الكتاب، او عدم صحة نسبته للجاحظ: إن قلق الناحل من انكشاف فعلته وخوفه من أن يرمى بالنحل دفعاه إلى الكلام على النحل وابعاد التهمة عن نفسه.
وإمعانا في تضليل القارىء أورد المؤلف بابين في أول الكتاب:
باب في محاسن الكتابة والكتب، وباب في مساوىء اللحن في اللغة.
وكلاهما من كلام الجاحظ. استقى الأول من كتاب الحيوان واستقى الثاني من كتاب البيان والتبيين مع بعض التصرف. أما سائر ابواب الكتاب التي تناهز الستين فإن عناوينها أو موضوعاتها طرقها الجاحظ في مختلف كتبه ولكن محتوياتها غير موجودة في تلك الكتب.
وقد فزع المؤلف إلى وسيلة أخرى للتمويه هي الجدل. والجدل يعني هنا قول الشيء وضده. وقد أولع الجاحظ بالجدل حتى غدا سمة من سمات كتاباته، فنهج المؤلف هذا النهج تقليدا للجاحظ. فهو يعدد محاسن الشيء ثم يردف ذلك بتعداد مساوئه: محاسن المخاطبات
1 / 6
وضدها، ومحاسن المكاتبات وضدها، ومحاسن الجوابات وضدها، ومحاسن حفظ اللسان وضدها، ومحاسن كتمان السر وضدها، ومحاسن الصدق وضدها، ومحاسن الصحة وضدها، ومحاسن السخاء وضدها ومحاسن البخل وضدها، ومحاسن الشجاعة وضدها، ومحاسن المفاخرة وضدها، ومحاسن الزهد وضدها، ومحاسن النساء وضدها الخ ...
بيد أن الفرق شاسع بين جدل الجاحظ وجدل مؤلف المحاسن والأضداد. أن جدل المحاسن والأضداد يقتصر على تعداد محاسن الأمر ومساوئه دون إبداء الرأي ودون المناقشة أما جدل الجاحظ فيتعدى هذه المهمة أي تعداد المحاسن والمساوىء إلى إصدار الأحكام والبحث عن الحقيقة، والبت في الأمور المتنازع في شأنها. لنأخذ مثلا على ذلك مسألة البخل. لقد أورد صاحب المحاسن والأضداد اقوالا وأخبارا تبين حسنات البخل، وأخرى تظهر مساوئه واستغرق ذلك بعض الصفحات. أما الجاحظ فقد ألف كتابا ضخما في هذا الموضوع اسماه «البخلاء» وقسمه ثلاثة أقسام: قسم أول يورد فيه احتجاجات البخلاء، وقسم ثان يورد فيه احتجاجات الأسخياء، وقسم ثالث يحكم فيه بالأمر، ويعلن رأيه الخاص، وهو أن الفضيلة هي في منزلة بين البخل والأسراف، يدعوها الأقتصاد الذي يتوسط رذيلة البخل ورذيلة الأسراف. وهو في ذلك ينطلق من مبدأ فلسفي انماز به مع سائر المعتزلة والذي عرف بالمنزلة بين المنزلتين.
ولنأخذ مثلا آخر بين لنا الفرق بين جدل الجاحظ وجدل صاحب المحاسن والأضداد، وهو مسألة الصمت والكلام. في الكتاب الذي بين أيدينا صفحتان تثبتان أقوالا تزين الصمت وآخرى تزين المنطق. أما في البيان والتبين، ورسالة التربيع والتدوير، ورسالة صناعة الكلام الخ. فنلفي عشرات الصفحات التي تدور حول هذه المسألة، وتصورها
1 / 7
من مختلف نواحيها، وتقلبها على مختلف وجوهها، ثم ينتهي الجاحظ إلى رأي جازم: ان الكلام خير من الصمت، وعلم الكلام علم شريف يهدف إلى معرفة الحقيقة.
وإذا كان صاحب الكتاب لا يعلن رأيه ولا غايته، فإننا نستطيع أن نتبين من خلال النص بعض ميوله واتجاهاته التي يختلف فيها مع الجاحظ. فهو ينادي بالحجاب ويحشد أقوالا كثيرة تدعو إليه وتزينه وتحذر من السفور، وعلى عكس سائر الأبواب لم يذكر مساوىء الحجاب كما ذكر محاسنه. ويستشهد بحديث نبوي يقول: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء فإن كانت المعاينة واللقاء كان الداء الذي لا دواء له» وبآخر يقول: «الناسء حبائل الشيطان»؛ ليقرر أن المرأة تغوي الرجل وأن لقاء الرجل للمرأة ورؤيته إياها يدفعه إلى الزنى ولذا ينبغي الفصل بينهما. كما يستشهد بقول لعمر بن الخطاب يدعو إلى حرمان المرأة من الظهور والتزين والتبرج: «استعينوا عليهن بالعري» ويقول لأمرأة زنت هي هند بنت الخس تعترف فيه أن سبب اقترافها الفحش إنما هو «طول السهاد وقرب الوساد» . ويخبر أن أكاسرة الفرس كانوا يمتحنون امناءهم برؤية النساء، فمن صبر عليهن ولم يقع بحبائلهن ولم يغوه جمالهن، وثق به وإلّا تخلص منه أو أبعده. أما الجاحظ فقد عالج هذا الموضوع في رسالة مستقلة هي رسالة «القيان» . وهو يحمل على حجاب المرأة ويدعو إلى السفور ويقدم البراهين المنطقية والأجتماعية والدينية التي تسند موقفه. فهو يخبرنا أن العرب لم يعرفوا الحجاب في الجاهلية، وكان الرجال والنساء يجتمعون على الحديث والمسامرة. وفي الإسلام أجاز الدين للنساء الطواف بالكعبة مكشفات الوجوه. ولم يحرم عمر بن الخطاب السفور رغم زهده وورعه وفقهه وعلمه. وكذلك الحسن بن علي لم يحرم النظر إلى النساء، حتى الشعبي فقيه أهل العراق لم ير في النظر إلى عائشة بنت طلحة امرأة مصعب بن الزبير حراما الخ.. ثم يقول إن كل ما في العالم مسخر
1 / 8
للإنسان وكل ما تقله الأرض متاع له. واقرب واطيب ما سخر له الأنثى لأنها خلقت ليسكن إليها. وكل ما لم يحرمه الشرع محلل. والشرع لم يحرم سفور المرأة.
ونلمس في الكتاب عصبية علوية لا نعهدها عند الجاحظ. فهو في باب محاسن المفاخرة يغمز من قناة أبي بكر الصديق ويقول عنه أنه ليس من أشراف قريش. ويحصى مثالب معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وزياد ابن أبيه أركان البيت الأموي ويشهر بهم بينما يذكر فضائل البيت العلوي ويرددها مرارا. وإذا كان الجاحظ يشارك صاحب المحاسن والأضداد في التنديد بمعاوية والأمويين كما يتضح من رسالة العثمانية، ورسالة الحكمين، فإنه لا يشاطره موقفه من أبي بكر الصديق الذي محضه كل اكبار وتقدير في جميع كتاباته.
واسلوب الكتاب يختلف عن اسلوب الجاحظ اختلافا ظاهرا.
فنحن لا نقع فيه على عبارة الجاحظ المتنوعة القصيرة، التي تمتاز بالرشاقة والطبيعة والترادف المعنوي واللفظي، مع المحافظة على القوة والجمال: إن عبارة الكتاب تعوزها الجزالة وتشوبها الركاكة وتقترب من العامية والسوقية أحيانا. ولكنه كالجاحظ يتنكب جادة الحشمة والعفة في كلامه على النساء والجماع.
وثمة بينة أخرى تدل على عدم صحة نسبة الكتاب للجاحظ هي ورود ذكر عبد الله بن المعتز في الكتاب عدة مرات، مرفقا بنماذج من شعره وأقواله. ونحن نعلم أن عبد الله بن المعتز عاش بعد الجاحظ وقتل سنة ٩٠٨ م بعد يوم واحد من ارتقائه عرش الخلافة في بغداد على يد مؤنس الخادم. وكان شاعرا رقيقا انيق اللفظ، وألف كتابا في البديع وآخر في تاريخ الشعر اسمه طبقات الشعراء، وثالثا في آداب الشراب والخمر اسمه «الجامع في الغناء» .
وإذا لم يكن الكتاب للجاحظ فمن هو صاحبه إذن؟ ليس لدينا
1 / 9
معرفة قاطعة به. ولكن ينبغي أن لا يكون من معاصري الجاحظ، بل من المتأخرين عنه، من كتاب القرن العاشر الميلادي وما بعده.
وفي المكتبة العربية كتاب يشبه عنوانه عنوان كتاب المحاسن والأضداد اسمه «المحاسن والمساوىء» تأليف إبراهيم بن محمد اليهقي الذي إتصل بإبن المعتز ثم بالمقتدر الذي خلف ابن المعتز وحكم بين سنتي (٢٩٥- ٣٢٠ هـ) وكتب له. وقد حققه أبو الفضل إبراهيم وطبعته مكتبة نهضة مصر في القاهرة سنة ١٩٦٦ م ولفت نظره إشتراك أو تشابه الكتابين في كثير من النصوص والأخبار «مما حمله على الظن أن مؤلفهما واحد أو أنهما كتابان أخذا من أصل مشترك» . من أبوابه: ١) محاسن الكتب، نقلا عن الجاحظ، كما في المحاسن والأضداد، ٢) محاسن رسول الله، نقلا عن البيان والتبيين للجاحظ، ٣) محاسن المعراج، ٤) مساوىء من تنبأ، ٥) محاسن أبي بكرّ الصديق، ٦) محاسن عمر بن الخطاب، ٧) محاسن عثمان بن عفان، ٨) محاسن علي بن أبي طالب، ٩) مساوىء من تنقص علي بن أبي طالب، ١٠) محاسن الحسن والحسين، ١١) محاسن المفاخرة، ١٢) محاسن النتاج المركب، ١٣) محاسن الوفاء ومساوئه، ١٤) مساوىء العي وضعف العقل، ١٥) محاسن الحجاب ومساوئه، ١٦) محاسن الصحة ومساوئها، ١٧) محاسن السخاء ومساوئه، ١٨) محاسن صلات الشعراء ومساوئها، ١٩) محاسن الفقر وسماوئه، ٢٠) محاسن ومساوىء حب الوطن. الخ.....
والواقع أن ظن أبي الفضل إبراهيم لا يجانب الحقيقة. فإن الكتابين- اعني المحاسن والأضداد المنسوب للجاحظ والمحاسن والمساوىء المنسوب للبيهقي- يتطابقان في كثير من الموضوعات والمادة والنصوص وإن انفرد الكتاب الثاني بإضافة موضوعات أخرى أو أبواب جديدة.
1 / 10
واعتقد أن إبراهيم بن محمد البيهقي هو مؤلف الكتابين. ألف الأول ونسبه للجاحظ ليروج. ولما تحقق من رواجه عدل فيه قليلا وسماه المحاسن والمساوىء ونسبه لنفسه.
وكتاب المحاسن والأضداد يخلو من الأصالة والجدة ويقتصر عمل صاحبه على تجميع الأقوال والأشعار والأخبار والأقوال التي تتعلق بكل باب من أبوابه الستين، وروايتها، دون شرح أو تعليق أو ابداء رأي.
فهو إذن من نوع أدب الرواية. وإذا كانت كتب الجاحظ حافلة بمثل هذا الأدب إلّا أن شخصية الجاحظ تبقى حاضرة: تنقد هذا الخبر، وتعلق على ذاك، وتفيد من الأقوال التي تسوقها والأشعار التي ترويها لتأييد أرائها الأصيلة ومواقفها المتميزة.
ويفتقر الكتاب إلى وحدة الموضوع، ويعجز عنوانه عن لم شعث نحو ستين موضوعا مختلفا فيكتفي بربطها ربطا اعتباطيا مصطنعا.
ويستغرق موضوع المرأة نصف الكتاب تقريبا. ويترجم لثلاث نساء حرائر شاعرات هن الخنساء وليلى الأخيلية وهند بنت عتبة أم معاوية ابن أبي سفيان، ويروي شيئا من أشعارهن. ثم يورد أخبار عدة قيان منهن عنان جارية الناطفي وصاحبة أبي نواس، وعريب جارية المأمون، ويروي شعر بعض الأعرابيات.
ثم يذكر صفات المرأة الجميلة على لسان اعرابي يقول لمن سأله: اتحسن صفة النساء؟ «نعم إذا عذب ثناياها، وسهل خداها، ونهد ثدياها، ونعم ساعدها، والتف فخذاها، وعرض وركاها، وجدل ساقاها، فتلك هم النفس ومناها» . وعلى لسان عبد الله بن المعتز الذي يقول:
وحياة من جرج الفؤاد بطرفه ... لأحبرن قصائدي في وصفه
قمرٌ به قمر السماء متيمٌ ... كالغصن يعجب نصفه من نصفه
1 / 11
إني عجبت لخصره من ضعفه ... ماذا تحمل من ثقالة ردفه
هذا وما أدري بأية فتنةٍ ... جرح الفؤاد بلطفه أم ظرفه
أم بالدلال أم الجمال أم الضيا ... من وجهه أم بالقفا من خلفه
أما صفات المرأة الخلقية فقد جمعت في قول بعضهم «لا تتزوجن حنانة ولا منانة ولا عشبة الدار، ولا كية القفا» الحنانة هي التي تزوجها رجل من قبل وتحن إليه، والأنانة هي التي تئن من غير علة، والمنانة التي لها مال تمنن به. وعشبة الدار الحسناء في أصل السوء، وكية القفا ذات السمعة السيئة.
ويقدم الكتاب عن المرأة صورة سيئة تروي أخبارا كثيرة عن مكرها وخيانتها وفحشها واغوائها ويدعو إلى ضرب الحجاب عليها لكي لا تفتن الرجل وتورده موارد الهلكة.
وثمة موضوع آخر يسترعي الأنتباه طرقه صاحب الكتاب هو الغناء وأخبار الشعراء والمغنين، لا يختلف في اسلوبه عن أبي الفرج الأصفهاني (٨٩٧- ٩٦٧ م) في كتابه «الأغاني» . فهو يروي لنا أخبار إبراهيم الموصلي والرشيد وعلية أخته، وأخبار عمر بن أبي ربيعة مع الثريا وابنة عبد الملك بن مروان والأشعار التي نظمها فيهما أو التي غنيت. ثم أخبار كثير عزة، وجميل بثينة، وذي الرمة، وأبي نواس والغلمان الخ.. وهذا التشابه بين «الأغاني» والمحاسن والأضداد يحملنا على الظن أن صاحب الكتاب تأثر بأبي الفرج الأصفهاني واستقى من كتابه الشهير وعاصره أو عاش بعده.
ونلفي في الكتاب كمية من الأمثال. والمثل أنواع ثلاثة حكمي وسائر وخرافي. ولا يوجد سوى مثلين اثنين من الأمثال الخرافية هما مثل الثعلب وملك الطيور، ومثل الغراب والحمامة. والمثل الخرافي قصة قصيرة أبطالها من الحيوانات وتنطوي على حكمة أو ترمز إلى رأي. وأهم
1 / 12
أثر عربي في هذا الفن كتاب كليلة ودمنة الذي نقله ابن المقفع في مطلع الدولة العباسية من الفارسية إلى العربية. وتبدو لغة المثلين قريبة من لغة كليلة ودمنة وكذلك اسلوبهما مما يحملنا على القول أن صاحب المحاسن والأضداد تأثر بكليلة ودمنة.
أما الأمثال السائرة فعديدة وردت متفرقة في تضاعيف الكتاب.
والمثل السائر جملة قصيرة ترمز إلى حادثة نادرة جرت لبعض الناس أو قالها أحدهم بمناسبتها، فشاعت وسارت على الألسن، ورددها الناس في الحوادث المشابها. أهمها «أحمق من هبنقة»، «وأحمق من دغة»، «وأحمق من باقل» (باب محاسن الدهاء والحيل) . ومنها المثل «لا هنك انقيت ولا ماءك أبقيت»، والمثل «في الصيف ضيعت اللبن» (باب أمثال في التزويج) . ومنها المثل «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها» (باب المطلقات) . والمثل «ويل للشجي من الخلي» «وعند جهينة الخبر اليقين» (باب مساوىء مكر النساء) . ثم المثل «العجب كل العجب بين جمادى ورجب» . والمثل «سبق السيف العذل» (باب محاسن الغيرة) .
ونجد في كتب الجاحظ كثيرا من الأمثال السائرة الواردة في المحاسن والأضداد وكذلك نجد الميداني (٥١٨ هـ) يؤلف كتابا ضخما يجمع الأمثال هو «مجمع الأمثال» . ولا بد أن الميداني أفاد منهما.
وهناك مصدر آخر استمد منه الكتاب الكثير من مادته هو الآداب الفارسية. ويبدو أن صاحبه يعرف اللغة الفارسية فهو مثلا يورد توقيع عبد الله بن طاهر «من سعى رعى، ومن لزم المنام رأى الأحلام» ثم يعلق عليه قائلا: هذا المعنى سرقه من توقيعات أنو شروان فإنه يقول «هرك روذ حرد هرك خسبد خراب ببند» . ويقول في مكان آخر: «وجد في بعض خزائن ملوك العجم لوح من حجارة مكتوب عليه: كن لما لا
1 / 13
ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى ﵇ خرج ليقبس نارًا، فنودي بالنبوة» (باب محاسن الرزق) . ويرجع إلى تاريخ الفرس فيروي بعض أخباره عن الكسروي ويحدثنا عن النيروز والمهر جان وتاريخهما وشعائر هما، وعن الفهليد المغني وأخباره مع كسرى ابرويز الخ، والهدايا التي تقدمها ملوك الأمم إلى ملوك فارس والتي يقدمها ملوك الفرس إلى سائر الملوك (باب محاسن الهدايا وما قبله) . ثم إن بعض الأبواب خصصت برمتها للحديث عن ملوك الفرس وعلاقاتهم بالنساء مثل باب محاسن وفاء النساء، وباب غدر النساء.
ونلمح في الكتاب أثرا نصرانيا، يتمثل في رواية المؤلف قصة النعمان ملك الحيرة مع شريك بن شراحبيل والطائي الذي أتاه في يوم نحسه فأمر بقتله، فاستمهله الطائي ريثما يأتي أولاده وزوجته ليودعهم ويوصي بهم. وضمنه شريك بن شراحبيل. ووفى الطائي بوعده وعاد في الوقت المحدد فأعجب النعمان بوفائه وسأله عن دينه فأجابه: ديني النصرانية فتنصر النعمان لأن النصرانية دين الوفاء (باب محاسن الوفاء) . وفي رواية خبر الصبي الذي مات ثم عاد إلى الحياة بدعاء أمه. والخبر يرويه المؤلف عن إبراهيم بن عبد الله عن أنس بن مالك.
وكان الصبي من الأنصار مرض فمات، «فمدت أمه يدها إلى السماء وقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك، وهاجرت إلى نبيك محمد صلوات الله عليه، رجاء أن تغيثني عند كل شدة، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم، فكشف ابنها الذي سجيناه وجهه، وما برحنا حتى طعم وشرب وطعمنا معه» وهذا الخبر يشبه خبر اليعازر الوارد في الكتاب المقدس. ونقع في الكتاب على أقوال لعيسى بن مريم (باب محاسن الثقة بالله) .
كذلك نلفي في الكتاب أثرا يهوديا يتمثل برواية قصة السمؤال بن عادياء الشاعر الذي وفى بوعده وحفظ الأمانة التي أودعها عنده الشاعر
1 / 14
امرؤ القيس، وضحى من أجل وفائه بابنه (محاسن الوفاء) . كما يبدو في الحديث المنسوب إلى النبي ﷺ والذي يجعل اليهود أكرم الناس نسبا. لقد سئل النبي عن أكرم الناس نسبا فأجاب «يوسف الصديق، صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، فأين مثل هؤلاء الآباء في جميع الدنيا ما كان مثلهم ولا يكون مثلهم أحد أبدا» (باب محاسن المفاخرة) .
إن هذه الأقوال والأخبار التي تبين فضائل الفرس والنصارى واليهود تخفي خلفها شعوبية متنكرة. ونحن نعلم أن الجاحظ حمل على الشعوبية التي كانت تبغض العرب وتكيد لهم وتحاول تشويه دينهم وتزوير تاريخهم بالدس والنحل والتوليد. وموقف الجاحظ من النصارى واليهود يختلف عن موقف صاحب المحاسن والأضداد ومن يقرأ رسالة النصارى يتضح له بجلاء أن أبا عثمان لم يكن راضيا عنهم ولا عن الفرس حملة لواء الشعوبية.
وعلى الرغم من هذه الملامح الفارسية والنصرانية واليهودية يبقى الكتاب أثرا من صميم الآداب العربية كالبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد والعقد الفريد لابن عبد ربه. أنه يحشد كمية لا بأس بها من أجمل ما تفوه به ابيناء العرب في الكتب والمكاتبات والجوابات وحفظ اللسان والمشورة والشكر والصدق والعفو والصداقة والوفاء والكرم والبخل والشجاعة والموعظة والزهد والمرأة والهدايا الخ.. ويترجم لبعض الشعراء ويروي الكثير من أشعارهم ابتداء بامرىء القيس الجاهلي حتى عبد الله بن المعتز ٩٠٨ م مرورا بالأخطل وكثير وذي الرمة وأبي تمام وأبي نواس الخ.. ويروي الكثير من أخبار خلفاء الدولة الأموية والدولة العباسية وقوادهم، هذا عدا الأحاديث النبوية الشريفة وأقوال الخلفاء الراشدين الأربعة في مختلف الموضوعات التي عرض لها.
1 / 15
لقد حاول صاحب كتاب المحاسن والأضداد أن يقلد الجاحظ فلم يستطع، وظهر زيفه لأن اسلوبه يختلف عن أسلوب الجاحظ، وتفكيره يتعارض مع تفكير الجاحظ. أنه يفتقر إلى أصالة الجاحظ وعبقريته الأدبية والفلسفية. وحسبنا في هذه المقدمة أننا أمطنا اللثام عن هذه المسألة.
بيروت في ١/٨/١٩٨٨ علي بوملحم
1 / 16
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله، سيدنا محمد، وآله أجمعين.
مقدمة
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ﵀: «إني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين، والفقه، والرسائل، والسيرة، والخطب، والخراج، والأحكام، وسائر فنون الحكمة، وأنسبه إلى نفسي، فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم بالحسد والمركب فيهم، وهم يعرفون براعته وفصاحته؛ وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفًا لملك معه المقدرة على التقديم، والتأخير، والحط، والرفع، والترهيب، والترغيب، فإنهم يهتاجون عنذ ذلك، اهتياج الإبل المغتلمة. فإن أمكنتهم الحيلة في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي ألف له، فهو الذي قصدوه وأرادوه، وإن كان السيد المؤلف فيه الكتاب نحريرا نقابًا، ونقريسًا بليغًا، وحاذقًا فطنًا، وأعجزتهم الحيلة، سرقوا معاني ذلك الكتاب، وألفوا من أعراضه وحواشيه كتابًا وأهدوه إلى ملك آخر، ومتوا إليه به، وهم قد ذموه وثلبوه لما رأوه منسوبًا إلي، وموسومًا بي.
وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه، فأترجمه باسم غيري، وأحيله على من تقدّمني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسلم صاحب بيت الحكمة، ويحيى بن خالد، والعتابي، ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي
1 / 17
الكتب، فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم، الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب، لا ستنساخ هذا الكتاب وقراءته علي، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيرونه إماما يقتدون به ويتدار سونه بينهم، ويتأدبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم، ويروونه عني لغيرهم من طلاب ذلك الجنس، فتثبت لهم به رياسة يأتم بهم قوم فيه، لأنه لم يترجم باسمي، ولم ينسب إلى تأليفي» «١» .
وهذا كتاب وسمته (بالمحاسن والأضداد) لم أسبق إلى نحلته، ولم يسألني أحد صنعه؛ ابتدأته بذكر محاسن الكتابة، والكتب، وختمته في ذكر شيء من محاسن الموت، والله يكلؤه من حاسد إذا حسد «٢» .
1 / 18
محاسن الكتابة والكتب
كانت العجم تقيد مآثرها بالبنيان والمدن والحصون، مثل بناء ازدشير وبناء اصطخر، وبناء المدائن والسدير، والمدن والحصون، ثم أن العرب شاركت العجم في البنيان، وتفردت بالكتب والأخبار، والشعر والآثار؛ فلها من البنيان غمدان، وكعبة نجران، وقصر مأرب، وقصر مارد، وقصر شعوب، والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان، وتصنيف الكتب أشد تقييدًا للمآثر على ممر الأيام والدهور من البنيان، لأن البناء لا محالة يدرس، وتعفى رسومه، والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن، ومن أمة إلى أمة، فهو أبدًا جديد، والناظر فيه مستفيد، وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان والتصاوير. وكانت العجم تجعل الكتاب في الصخور، ونقشًا في الحجارة، وخلقة مركبة في البنيان، فربما كان الكتاب هو الناتيء، وربما كان هو المحفور، إذا كان ذلك تاريخًا لأمر جسيم، أو عهدًا لأمر عظيم، أو عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها، أو أحياء شرف يريدون تخليد ذكره، كما كتبوا على قبة غمدان وعلى باب القيروان، وعلى باب سمرقند، وعلى عمود مأرب، وعلى ركن المقشعر، وعلى الأبلق الفرد، وعلى باب الرها؛ يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المذكورة، فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور، وأمنعها من الدروس. وأجدر أن يراه من مر به، ولا ينسى على وجه الدهور «١» .
ولولا الحكم المحفوظة والكتب المدونة، لبطل أكثر العلم، ولغلب
1 / 19
سلطان النسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، فتحنا بها كل مستغلق، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد بخس حظنا منه، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر، والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل، وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء، يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء، وكتب الملاهي، وكتب أعوان الصلحاء وكتب أصحاب المراء والخصومات، وكتب السخفاء وحمية الجاهلية، ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم، ونازعت إلى حب الكتب، وألفت من حال الجهل وإن يكونوا في غمار الوحش، ولدخل عليهم من الضرر والمشقة وسوء الحال ما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير «١» .
وسمعت محمد بن الجهم يقول: «إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتابًا فأجد اهتزازي للفوائد الأريحية التي تعتريني من سرور الإستنباه وعز التبين، أشد إيقاظًا من نهيق الحمار، وهدة الهدم، فإني إذا استحسنت كتابًا واستجدته ورجوت فائدته، لم أوثر عليه عوضًا، ولم أبغ به بدلًا، فلا أزال أنظر فيه ساعة بعد ساعة، كم بقي من ورقة مخافة استنفاده، وانقطاع المادة من قبله» «٢» .
وقال ابن داحة: «كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك فقال: «لم أر أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب، ولا أسلم من الوحدة» «٣» .
1 / 20
وأهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفترًا وكتب معه: «هديتي هذه، أعزك الله، تزكو على الإنفاق، وتربو على الكد، لا تفسدها العواري، ولا تخلقها كثرة التقليب، وهي إنس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والآخرة تؤنس في الخلوة وتمنع من الوحدة، مسامر مساعد، ومحدث مطواع، ونديم صدق.
وقال بعض الحكماء: «الكتب بساتين العلماء» وقال آخر: «ذهبت المكارم إلا من الكتب» .
قال الجاحظ: وأنا أحفظ وأقول: «الكتاب نعم الذخر والعقدة، والجليس والعمدة، ونعم النشرة ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علمًا، وظرف حشي ظرفًا، وإناء شحن مزاحًا، إن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت سرتك نوادره، وشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبناسك فاتك، وناطق أخرس؛ ومن لك بطبيب أعرابي، ورومي هندي، وفارسي يوناني، ونديم مولد، ونجيب ممتع؛ ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغص والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده؛ وبعد فما رأيت بستانًا يحمل في ردن، وروضة تنقل في حجر، ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة؛ ولا أعلم جارًا آمن، ولا خليطًا أنصف، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أخضع، ولا صاحبًا أظهر كفاية وعناية، ولا أقل املالا ولا إبراما، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف في قتال من كتاب، ولا أعم بيانا، ولا أحسن مؤاتاة، ولا اعجل مكافأةً، ولا شجرة أطول عمرًا، ولا أطيب ثمرًا، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكًا، ولا أوجد في كل إبان من كتاب. ولا اأعلم نتاجًا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من السير العجيبة، والعلوم
1 / 21
الغريبة، وآثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية، والبلاد النازحة، والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب.
ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غبًا وورده خمسًا، وإن شئت لزمك لزوم ظلك، وكان منك كبعضك. والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يملّك، والمستمع الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق.
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلم إن افتقرت إليه لا يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتتك، وإن هبت ريح أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقًا منه بأدنى حبل لم تضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، وإن أمثل ما يقطع به الفراغ نهارهم وأصحاب الكفايات ساعات ليلهم، نظر في كتاب لا يزال لهم فيه ازياد في تجربة، وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين، وتثمير مال، ورب صنيعة، وابتداء إنعام. ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر وملابسة صغار الناس، ومن حضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية، وجهالتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة والغنيمة، واحراز الأصل مع استفادة الفرع؛ ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المنى، واعتياد الراحة، وعن اللعب، وكل ما تشتهيه، لقد كان له في ذلك على صاحبه اسبغ النعم، وأعظم المنة «١» .
1 / 22
وجملة الكتاب وإن كثر ورقه، فليس مما يمل لأنه وإن كان كتابًا واحدًا، فإنه كتب كثيرة في خطابه، والعلم بالشريعة والأحكام، والمعرفة بالسياسة والتدبير، وقال مصعب بن الزبير: إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويكتبون أحسن ما يسمعون، فإذا أخذت الأدب فخذه من أفواه الرجال، فإنك لا ترى ولا تسمع إلا مختارًا ولؤلؤًا منظومًا» .
وقال لقمان لابنه: «يا بني نافس في طلب العلم، فإنه ميراث غير مسلوب، وقرين غير مرغوب، ونفيس حظ من الناس وفي الناس مطلوب» .
وقال الزهري: «الأدب ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ولا يبغضه إلا مؤنثهم» . وقال: «إذا سمعت أدبًا فاكتبه ولو في حائط»، وقال منصور بن المهدي للمأمون: «أيحسن بنا طلب العلم والأدب»؟ قال: «والله لأن أموت طالبًا للأدب خير لي أن أعيش قانعًا بالجهل» . قال: «فإلى متى يحسن بي ذلك»؟ قال: «ما حسنت الحياة بك» .
1 / 23
مساويء اللحن في اللغة «١»
وضده الحديث المرفوع: «رحم الله عبدًا أصلح من لسانه» . وكان الوليد بن عبد الملك لحنة فدخل عليه إعرابي يومًا فقال: «أنصفني من ختني يا أمير المؤمنين»، فقال: «ومن ختنك»؟ قال: «رجل من الحي لا أعرف اسمه»، فقال عمر بن عبد العزيز:
«إن أمير المؤمنين يقول لك من ختنك؟ فقال: «هو ذا بالباب» .
فقال الوليد لعمر: «ما هذا»؟ قال: «النحو الذي كنت أخبرتك عنه»، قال: «لا جرم فإني لا أصلي بالناس حتى أتعلمه» .
قال: وسمع أعرابي مؤذنًا يقول: «أشهد أن محمدًا رسول الله» فقال: «يفعل ماذا»؟
قال: وقال رجل لزياد: «أيها الأمير؟ إن أبينا ملك، وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا» فقال زياد: «ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع من ميراث أبيك، فلا رحم الله أباك حيث ترك ابنًا مثلك» وقال مولى لزياد: أيها الأمير احذوا لنا همار وهش، فقال: «ما تقول»؟ فقال: «احذوا لنا إيرًا»، فقال زياد: «الأول خير من الثاني» .
قال واختصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز فجعلا يلحنان: فقال الحجاب:
«قمنا فقد أوذيتما أمير المؤمنين»، فقال عمر للحاجب: «أنت والله أشد إذاء منهما»؛ قال: وقال بشر المريسي، وكان كثير اللحن: «قضى لكم
1 / 25