Mafhum Tajdid al-Din
مفهوم تجديد الدين
Publisher
مركز التأصيل للدراسات والبحوث
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
Publisher Location
جدة - المملكة العربية السعودية
Genres
مفهوم تجديد الدين
تأليف
الدكتور بسطامي محمد سعيد
طبع على نفقة
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر
مركز التأصيل للدراسات والبحوث
Unknown page
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
مفهوم تجديد الدين
مقدمة / 3
طبع على نفقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
مركز التأصيل للدراسات والبحوث
المملكة العربية السعودية - ص. ب ١٨٧١٨ جدة ٢١٤٢٥
هاتف: ٢٦٢٨٨٦٨٥ (٩٦٦+) فاكس: ٢٢٧١٨٢٣٠ (٩٦٦+)
http://www.taseel.com/ - taseel@taseel.com
مقدمة / 4
مقدمة لكتاب مفهوم تجديد الدين
الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخاتم رسله، وبعد:
فإن علماء الإسلام قد خلفوا لنا تراثًا علميًا ضخمًا، متعدد المناحي، وما يزال معظم هذا التراث مخطوطًا لم ير النور، ولم يتعرف عليه الباحثون، رغم ما فيه من المعاني الدقيقة والأفكار العميقة التي تخدم واقعنا المعاصر وتنير السبل لأمتنا في مجالات الفكر والتشريع والثقافة، ويقدر بعض الخبراء أن ما بقي مخطوطًا من تراث علماء الإسلام يربو على ثلاثة ملايين عنوان، تقبع في زوايا المكتبات، وظلام الصناديق والأقبية، حتى إن بعضها لم يفهرس فهرسة دقيقة فضلًا عن النشر. فكان من المهم في هذه المرحلة أن تتجه الجهود لتقويم هذا التراث واستجلاء ما ينفع الناس منه في عصرنا، ثم العمل على تحقيقه ونشره.
وإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر -وقد وفقها الله لأن تضرب بسهم في إحياء هذا التراث- لتحمد الله ﷾ على أن ما أصدرته من نفائس التراث قد نال الرضا والقبول من أهل العلم في مشارق الأرض ومغاربها.
والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة تراث الأمة منذ ما يزيد على ستة عقود، وقد جاء مشروع إحياء التراث الإسلامي الذي بدأته الوزارة منذ ست سنوات امتدادًا لتلك الجهود وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر.
ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسر الله -جلَّ وعلا- للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم في فنون مختلفة تُطبع لأول مرة، ففي تفسير
مقدمة / 5
القرآن الكريم أصدرت الوزارة تفسير الإمام العُليمي "فتح الرحمن في تفسير القرآن" وفي علم الرسم أصدرت كتاب "مرسوم المصحف" للإمام العُقيلي ونحن بصدد إصدار جديد متميز للمحرر الوجيز لابن عطية مقابلًا على نسخ خطية عدة.
وفي السُّنَّهَ أصدرت الوزارة كتاب "التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقن، و"حاشية مسند الإمام أحمد" للإمام السندي، و"شرحين لموطأ مالك لكل من القنازعي والبوني"، و"شرح مسند الشافعي" للإمام الرافعي، و"نخب الأفكار شرح معاني الآثار" للبدر العيني إضافة إلى صحيح ابن خزيمة بتحقيقه الجديد المُتقن.
وأخيرًا صدر عن الوزارة كتاب: "التقاسيم والأنواع" للإمام ابن حبان، وكذا "مطالع الأنوار" لابن قرقول، وهما ينشران لأول مرة، وهناك مشاريع أخرى يُعلن عنها في حينها.
وفي الفقه أصدرت الوزارة: "نهاية المطلب في دراية المذهب" للإمام الجويني الذي حققه وأتقن تحقيقه عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي أ. د. عبد العظيم الديب -رحمه الله تعالى-، وكتاب "الأوسط" لابن المنذر بمراجعة دقيقة للدكتور عبد الله الفقيه عضو اللجنة، وكتاب "التبصرة" للخمي، و"حاشية الخلوتي" في الفقه الحنبلي، وكتاب "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان الفاسي، وفي الطريق إصدارات أخرى مهمة تمثل الفقه الإسلامي في عهوده الأولى.
وفي السيرة النبوية أصدرت الوزارة الموسوعة الإسنادية "جامع الآثار" لابن ناصر الدين الدمشقي.
وفي العقيدة والتوحيد أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا هو "الاعتقاد" لابن العطار تلميذ النووي -رحمهما الله-.
ولم نغفل عن إصدار دراسات معاصرة متميزة من الرسائل العلمية وغيرها فأخرجنا "القيمة الاقتصادية للزمن" و"نوازل الإنجاب" وفي الطريق -بإذن الله تعالى- ما تقر به العيون من دراسات معاصرة في القرآن والسُّنَّة، ونوازل الأمة.
ونقدم اليوم للقراء كتابًا مبتكرًا في موضوعه، جديدًا في طرحه، هو كتاب "مفهوم تجديد الدين" فهو كتاب يؤرخ لأصحاب العلامات البارزة في تجديد
مقدمة / 6
مسيرة الدين وموضعه من الفكر الإنساني وأثره في حياة الأشخاص والمجتمعات والأمم، سواء كان هذا التجديد للأحسن والأفضل شكلًا ومضمونًا أم كان تجديدًا للأحسن بحسب الدعوى وفيه من الزيغ ما فيه.
كما تناول حركات التجديد المغرضة التي حامت حول ثوابت الدين وفروعه للنيل منها بدعوى التطوير مجاراة للغرب في علمانيته.
وتطرق الكتاب لمظاهر الانحراف في العقائد التي خرجت عن الجادة، من جراء تعاطي الفلسفات الباطلة، وانسياق بعض من ينتسبون إلى الدين وراء تلك الأفكار المصادمة للعقيدة الصحيحة الصافية.
فهذه الدراسة تشتد إليها الحاجة في موضوع مدحضة مزلة لأن تجديد الدين لا يكون إلا وفق أصوله بلا تشويه أو مزايدة.
أما دعاوى التجديد المرتجل الذي يجعل من مقاصد الشريعة بحرًا خضمًا تلقى فيه النصوص وتهدر فيه اجتهادات أئمة الإسلام فليس بتجديد محمود بل تبديل للشريعة وعبث بأحكامها.
ولا يفوتنا التنويه بالجهود المتميزة لمركز التأصيل للدراسات والبحوث الذي يشرفنا التواصل والتعاون العلمي معه.
ونشكر القائمين عليه ونسأل الله أن يجعلنا وإياهم من المتعاونين في سبيل نهضة الأمة وتقوية بنيانها العلمي والفكري.
مقدمة / 7
مفهوم تجديد الدين
تأليف
الدكتور بسطامي محمد سعيد
طبع على نفقة
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر
Unknown page
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
مفهوم تجديد الدين
1 / 3
طبع على نفقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
مركز التأصيل للدراسات والبحوث
المملكة العربية السعودية - ص. ب ١٨٧١٨ جدة ٢١٤٢٥
هاتف: ٢٦٢٨٨٦٨٥ (٩٦٦+) فاكس: ٢٢٧١٨٢٣٠ (٩٦٦+)
http://www.taseel.com/ - taseel@taseel.com
1 / 4
المقدمة
من المفاهيم التي يحتاج إلى تحديد معناها بدقة مفهوم تجديد الدين، ذلك أن الاضطراب في فهم معناه يقود إلى انحرافات خطيرة. وهناك طائفة من الأسئلة تثار في هذا الصدد؛ هل كل رأي جديد في الدين هو تجديد له؟ ما الحدود الفاصلة بين الجديد المقبول والجديد المرفوض؟ ما علاقة التجديد بالتطور، أهما مترادفان أم بينهما فروق؟ وفي ضوء مواجهة الإسلام للحضارة الغربية المعاصرة كيف تتم الملاءمة بين الفكر الإسلامي والعصر الحاضر؟ وهل لذلك أثر في بلورة مفهوم التجديد؟
لقد جاءت الإجابة على هذه الأسئلة من اتجاهات عديدة، ولا ريب أن بعضها صائب وبعضها مخطئ. والدراسة التي تقدمها الصفحات التالية تسعى للبحث في هذه الاتجاهات والمفكرين الذين من ورائها، وتسعى للبحث عن مفهوم التجديد السليم وتمييزه عن المفاهيم الخاطئة، وبيان مجالاته وآثاره.
ولما كان مصطلح تجديد الدين مصطلحًا إسلاميًا نشأ من حديث مروي في ذلك، وهو قول الرسول ﷺ: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"؛ اتجه البحث أول ما اتجه إلى تحقيق هذا الحديث الأصل
1 / 5
الذي نشأ منه المصطلح، واتجه إلى جذور كلمة التجديد في اللغة واستعمالات القرآن والحديث لهذه الكلمة. ولا ريب أن مفهوم التجديد السليم هو الذي كان يقصده النبي ﷺ حين أعلن لأصحابه -رضوان الله عليهم- عن نبوءة بعث مجدد لكل قرن، وأحق الناس بتوضيح هذا المفهوم هم السلف الذين تلقوا هذا الحديث ونقلوه للأجيال اللاحقة لفظًا ومعنى. ولهذا كانت الخطوة الثانية في هذا البحث أن أجمع ما عسى أن يوجد من أقوال في عصور السلف عن التجديد، ومن تعريفاتهم وآرائهم يمكن أن يتضح لنا مجمل تصورهم لحقيقة التجديد ومَن المجدد. والمصدر الثاني لمعرفة ماهية التجديد أن ننظر في أعمال وجهود من سمَّاهم المؤرخون مجددين، وبتحليل ما قاموا به من أعمال وتصنيفها يزداد معنى التجديد ومجالاته ظهورًا ووضوحًا.
ومن المفاهيم الشائعة للتجديد مفهوم نشأ في هذا العصر نتيجة لمواجهة الدين لحضارة الغرب اللادينية. فقد نشأت في الغرب في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي حركة لتجديد الدين وتطويره ليكون ملائمًا لمتغيرات العصر. وقد نشأت هذه الحركة داخل شقي النصرانية: الكاثوليكية والبروتستانتية، وأطلق على هذه الحركة في الغرب اسم العصرانية (modernism)، كما شهدت اليهودية اتجاهات متماثلة في الفكر والمبادئ والأهداف. وفي العالم الإسلامي أدى الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية إلى ظهور نزعات متشابهة لتلك التي ظهرت في الغرب.
فما هي العصرانية؟ وما مفهوم التجديد الذي تطرحه؟
لقد اقتضت الإجابة على ذلك تتبع تاريخ الحركة في الغرب، وفي اليهودية والنصرانية، ثم رصد أفكار القادة والكُتَاب الذين حملوا لواء الفكرة من المسلمين.
وبعد عرض آرائهم جاء النقد والتقويم وبيان مواضع الخطأ والصواب. وهكذا انقسم البحث إلى ثلاثة أبواب: باب عن المفهوم السُّنِّي للتجديد، وباب عن مفهومه عند العصرانية، وباب في نقد هذا المفهوم العصراني، مع مقدمة وخاتمة. وتحت كل باب من هذه الأبواب فصول بيانها كالآتي:
الباب الأول: المفهوم السُّنِّي للتجديد.
الفصل الأول: تعريف التجديد وضوابطه.
1 / 6
الفصل الثاني: نماذج من جهود المجددين.
الباب الثاني: مفاهيم التجديد الخاطئة.
الفصل الأول: مفهوم التجديد عند العصرانية في الغرب.
الفصل الثاني: مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي (الطبقة الأولى من المفكرين).
الفصل الثالث: مفهوم التجديد عند العصرانية في العالم الإسلامي (الطبقة الثانية من المفكرين).
الفصل الرابع: إعجاب الغرب بالعصرانية في العالم الإسلامي.
الباب الثالث: مفهوم التجديد العصراني في ميزان النقد.
الفصل الأول: نقد المبادئ العامة.
الفصل الثاني: نقد المبادئ التفصيلية.
الخاتمة.
* * *
وقد كان هذا البحث في الأصل رسالة نشرت في كتاب كتب الله له أن يشتهر ويتداول. وقد قمت الآن بتنقيح البحث الأول وأضفت إليه إضافات وتعديلات طفيفة، وأحمد الله ﷿ على توفيقه وتيسيره، وأسأله تعالى أن يوفق لأن يخدم البحث الهدف الذي من أجله كتب وهو بيان المفهوم الصحيح للتجديد.
وبسم الله أبدأ وبه أستعين وعليه أتوكل وله الحمد أولًا وآخرًا.
د. بسطامي محمد سعيد خير
-الخرطوم-
شعبان ١٤٣٣ هجرية (يوليو ٢٠١٢)
1 / 7
الباب الأول المفهوم السُّنِّي للتجديد
1 / 9
الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه
1 / 11
الفصل الأول تعريف التجديد وضوابطه
أصل كلمة التجديد:
تجديد الدين هو أحد المصطلحات الإسلامية؛ والمصطلحات الإسلامية هي كلمات عربية الأصل، استعملت في القرآن، أو في السُّنَّة، أو عند العلماء إما في نفس معناها اللغوي؛ أو أعطيت معنى خاصًا قوي الصلة بمعناها اللغوي. فمثلًا الصلاة فإنها مشتقة لغويًا -في أرجح الأقوال- من الدعاء (١)، ولكنها أصبحت ذات مدلول خاص في القرآن وفي السُّنَّة.
وإذا كانت غاية هذا البحث هي تجلية مفهوم التجديد وتوضيحه، فإن البحث يتجه أول ما يتجه إلى أصل معنى كلمة "تجديد" في اللغة، وفي استعمالات القرآن والحديث لهذه الكلمة.
الحديث الأصل:
نشأ مصطلح التجديد من حديث صحيح من لفظ النبي ﷺ، فقد روى أَبو داود في سننه، عن أبي هريرة ﵁، عن رسول الله ﷺ قال:
_________
(١) انظر: "لسان العرب" ابن منظور ١٤/ ٤٦٤.
1 / 12
"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (١).
ورواه أيضًا الطبراني في كتاب المعجم الأوسط، ورواه الحاكم في كتاب المستدرك، ورواه البيهقي في كتاب المعرفة، كلهم عن أبي هريرة ﵁.
وهو حديث صحيح، صححه من الأئمة المتقدمين الحاكم والبيهقي، ومن الأئمة المتأخرين الحافظ العراقي وابن حجر والسيوطي (٢)، ومن المعاصرين ناصر الدين الألباني (٣).
التجديد لغة:
جاء في معاجم اللغة (٤) عن مادة جدد ما يأتي:
تجدد الشيء؛ يعني: صار جديدًا، وجدده؛ أي: صيَّره جديدًا وكذلك أجدَّه واستجدّه. والجديد هو نقيض الخلق، والجدة -بالكسر- هي مصدر الجديد وهي نقيض البلى، ويقال: "بلي بيت فلان ثم أجدّ بيتًا من شعر"، ويقال لمن لبس ثوبًا جديدًا: "أبل وأجد واحمد الكاسي".
والأصل في هذا المعنى القطع، يقال: جددت الشيء فهو مجدود وجديد؛ أي: مقطوع، ومن هذا قولهم ثوب جديد: "وهو في معنى مجدود"؛ أي: كأن ناسجه قطعه الآن. هذا هو الأصل، أما ما جاء منه في غير ما يقبل القطع فعلى المثل من ذلك؛ كقولهم جدد الوضوء وجدد العهد.
وكذلك سمي كل شيء لم تأت عليه الأيام جديدًا، فالجديدان والأجدان هما الليل والنهار لأنهما لا يبليان أبدًا.
ومن النقول السابقة يمكن القول إن التجديد في أصل معناه اللغوي يبعث في الذهن تصورًا تجتمع فيه ثلاثة معان متصلة لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، ويستلزم كل واحد منها المعنى الآخر.
_________
(١) "سنن أبي داود"، كتاب الملاحم ٤/ ١٠٩.
(٢) "عون المعبود شرح سنن أبي داود" ١١/ ٣٩٦، و"فيض القدير شرح الجامع الصغير" المناوي، ٢/ ٢٨٢، و"كشف الخفاء" للعجلوني ١/ ٢٤٣.
(٣) "صحيح الجامع الصغير" للألباني ص ١٤٣، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" للألباني ص ٦٠١.
(٤) "الصحاح" للجوهري ١/ ٤٥١، و"لسان العرب" ٣/ ١١١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٠٩.
1 / 13
أولها: أن الشيء قد كان في أول الأمر موجودًا وقائمًا وللناس به عهد.
وثانيها: أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديمًا خلقًا.
وثالثها: أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق. فقد جاء صريحًا في النقول السابقة أن الجديد نقيض الخلق، وأن الجِدّة نقيض البلى، فيكون معنى جدد الشيء صيَّره جديدًا غير خلق ولا بال. فهناك ثلاثة عناصر: شيء بال وخلق، قد كان غير بال ولا خلق، يجدد بأن يعاد إلى مثل حالته الأولى.
وتزيد الأقوال المذكورة هذا المعنى وضوحًا، فقولهم: "بلي بيت فلان ثم أجد بيتًا من شعر"، ففلان هذا قد كان له بيت، فصار قديمًا وقد يكون تهدم بعضه، فاستحدث بيتًا مثله. وقولهم لمن لبس ثوبًا جديدًا: أبل وأخلق، رغبة له أن يعيش فيبلي ما لبسه من ثوب، ثم بعد أن يبلى ويخلق، يجدد باتخاذ ثوب آخر مثل الثوب الأول نوعًا وجنسًا.
أما قولهم جدد الوضوء، وجدد العهد، فهو أظهر في الدلالة على أن التجديد يتضمن معنى الإعادة، فتجديد الوضوء يعني إعادته وتجديد العهد هو تكراره تأكيدًا.
كلمة (جديد) في القرآن:
لم يأت في القرآن لفظ جدد أو لفظ التجديد، ولكن قد جاءت فيه كلمة جديد، وسيفيدنا استعمال القرآن الكريم لهذه الكلمة في استجلاء معنى التجديد.
من الآيات في ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٤٩ - ٥١]. فهؤلاء يقولون إنهم لن يكونوا خلقًا جديدًا، أو بعبارة أخرى لن يجدد خلقهم بعد أن يبلوا ويصيروا عظامًا مفتتة مكسرة -والرفات في اللغة هو ما تكسر وبلي من كل شيء- فيقول الله ﷿ ردًا عليهم: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠)﴾؛ أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم. قال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون (١).
_________
(١) "تفسير القرطبي" ١٠/ ٢٧٤.
1 / 14
فمن هذه الآية يتضح بجلاء لا لبس فيه أن تجديد الخلق هو بعثه وإحياؤه وإعادته.
ويتكرر هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧)﴾ [سبأ: ٧]. يقول القرطبي في شرح هذه الآية: أي هل نرشدكم إلى رجل ينبئكم ويقول لكم أنكم مبعوثون بعد البلى في القبور. ومعنى مزقتم كل ممزق: أي: فرقتم كل تفريق، والمزق خرق الأشياء (١).
وفي قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: ١٠] يقول القرطبي: ضللنا أصله من قول العرب ضل الماء في اللبن إذا ذهب، والعرب تقول للشيء غلب عليه غيره حتى خف فيه أثره: قد ضل (٢)، فتجديد الخلق هنا أيضًا هو إحياؤه وبعثه بعد أن ذهب وعفا أثره واندرس.
وفي معنى هذه الآية أيضًا قوله تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)﴾ [ق: ١٥]، وهذا توبيخ لمنكري البعث يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه (٣)؛ فالله ﷿ لم يعجز عن خلق الناس أول مرة، فكيف يعجز عن إحيائهم ثانية. ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾؛ أي: في حيرة من البعث. ففي هذه الآية إشارة إلى المراحل الثلاث: خلق أول وحياة أولى، ثم موت وبلى، ثم بعث وإحياء، وإعادة وتجديد، فإذا الخلق خلق جديد.
كلمة تجديد في الحديث:
بين أيدينا بعض الأحاديث التي جاء فيها استعمال كلمة تجديد (٤).
الأول: قال رسول الله ﷺ: "إن الايمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب؛ فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم" (٥).
_________
(١) "تفسير القرطبي" ١٤/ ٢٦٣.
(٢) المصدر نفسه ١٤/ ٩١.
(٣) المصدر نفسه ١٧/ ٨.
(٤) انظر: "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث" مادة: (جدد).
(٥) رواه الطبراني عن ابن عمر بن الخطاب بإسناد حسن ورواه الحاكم عن ابن عمرو بن العاص ورواته ثقات، وقال العراقي: حديث حسن من طريقيه. انظر: "الجامع الصغير" للسيوطي ص ١٣٣، و"فيض القدير" للمناوي ٢/ ٣٢٤.
1 / 15