210

Mafātīḥ al-ghayb

مفاتيح الغيب

Publisher

دار إحياء التراث العربي

Edition

الثالثة

Publication Year

١٤٢٠ هـ

Publisher Location

بيروت

Genres

Tafsīr
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
[الْبَقَرَةِ: ٤٠] وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﵇ وَجَعَلَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْهَا فِي مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ مِنْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ، حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ جَامِعَةً لِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْعَهْدِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْفَاتِحَةَ بِاسْمِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَحْصُلَ الصَّلَاةُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الدَّلِيلُ بِدَلَائِلَ أُخْرَى: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ﵊ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ
وَلِقَوْلِهِ ﵊: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَاظَبُوا عَلَى قِرَاءَتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْنَا ذَلِكَ،
لِقَوْلِهِ ﵊: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي»
وَثَالِثُهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُتَابَعَتُهُمْ وَاجِبَةً فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى/ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النِّسَاءِ: ١١٥] وَرَابِعُهَا:
قَوْلُهُ ﵊: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكتاب»
خامسها: قوله تعالى:
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] وقوله: فَاقْرَؤُا أَمْرٌ، وَظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، فَكَانَتْ قِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاجِبَةً، وَقِرَاءَةُ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةً عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَسَادِسُهَا: أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَحْوَطُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا،
لِقَوْلِهِ ﵇: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»
وَسَابِعُهَا: أَنَّ الرَّسُولَ ﵇ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَنْهُ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: ٦٣] وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهَا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: التَّكْلِيفُ كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى الْعَبْدِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هَذِهِ الْعُهْدَةِ عِنْدَ الْإِيتَاءِ بِالصَّلَاةِ مُؤَدَّاةً بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ بِقِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالْعَمَلِ الْكَامِلِ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالْعَمَلِ النَّاقِصِ، فَعِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ وَجَبَ الْبَقَاءُ فِي الْعُهْدَةِ، وَتَاسِعُهَا:
أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ حُصُولُ ذِكْرِ الْقَلْبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طَه: ١٤] وَهَذِهِ السُّورَةُ مَعَ كَوْنِهَا مُخْتَصَرَةً، جَامِعَةٌ لِمَقَامَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ مُعَادِلَةً لِكُلِّ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الْحِجْرِ: ٨٧] فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا الْبَتَّةَ. وَعَاشِرُهَا: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ فُقْدَانِ الْفَاتِحَةِ لَا تَحْصُلُ الصَّلَاةُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:
أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «ذَكَرَنِي عَبْدِي»
وَفِيهِ أَحْكَامٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٥٢] فَهَهُنَا لَمَّا أَقْدَمَ الْعَبْدُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي ملأ خير من ملائه. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الذِّكْرِ مَقَامٌ عَالٍ شَرِيفٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ فَقَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا
[الْأَحْزَابِ: ٤١] ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ

1 / 230