2
الذين كان الغوطيون وسائر القبائل الجرمانية يدينون بعقيدتهم، وأضمر تيودريش العداء للإمبراطورية الشرقية، وهدد باتخاذ إجراءات مضادة، وسعى بعض رجال البلاط بالدس والوقيعة، فقالوا لتيودريش: إن أحد أعضاء مجلس الشيوخ - وكان اسمه ألبينوس - على صلة سرية بالسياسيين في بيزنطة، وهب بواتيوس للدفاع عن زميله، دون أن يخطر بباله أن التهمة قد تمتد إليه، وفقد الملك ما عرف عنه من الحكمة والاعتدال؛ فأمر بالقبض عليه، والإلقاء به في سجن بافيا، وأوعز إلى مجلس الشيوخ بالحكم عليه بالإعدام، أو بالأحرى بالتصديق على الحكم الذي أصدره بالفعل عليه. وسواء أصحت التهمة أم لم تصح - فلم يثبت عليها حتى الآن دليل - فقد أعدم بواتيوس في عام 524 بالقرب من مدينة ميلانو، بعد سجن دام ستة شهور، ودفن في كنيسة سان بييترو أو القديس بطرس.
بقي بواتيوس إذن في سجنه ينتظر الموت، وراح يؤلف «عزاء الفلسفة»
3
في خمسة كتب، أملتها عليه تجربة أليمة، استطاع مع ذلك أن يرتفع فوقها ويستعين عليها بالحكمة التي استمدها من ينابيع الفلسفة القديمة، من أفلاطون وأرسطو والرواقية والأفلاطونية المحدثة جميعا، وأن يقترب فيه من الروح المسيحية السمحة التي حدت برجال العصر الوسيط أن يجعلوا منه أحد شهداء الكنيسة، مع أنه كان من أتباع الأفلاطونية المحدثة ولم يكن مسيحيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. •••
لم يكد بواتيوس يفكر في شكواه الصامتة ويحاول تدوينها على لوح أمسكه في يده اليمنى، حتى خيل إليه أنه يرى سيدة جليلة المظهر نافذة العينين شامخة القامة، لم يدر كيف دخلت عليه زنزانته ووقفت إلى جانبه تطل عليه كأنها رؤيا من زمن آخر بعيد، كانت تبدو متقدمة في العمر، وإن كانت ما تزال تحتفظ بقوتها وشبابها، وكان عودها السامق الذي يكاد يطاول السماء وهيئتها الجادة الرزينة تكسبانها شيئا لا يمت بصلة إلى البشر، أما رداؤها فمن خيوط رقيقة، على هيئة الشباك المتوازية، ينتهي بذيل جرار، ولا يخلو من آثار تمزيق، لعله نتيجة الأذى والاضطهاد الذي لقيته على مر العصور، وفي وسطه رسمت حروف الألف باء اليونانية، بحيث تبدأ من أسفل بالحرف «ب»، وهي اختصار براكسيس أو الحياة العملية، وتنتهي من أعلى بالحرف ثيتا وهي اختصار ثيوريا، أو الحياة النظرية التأملية، وكانت تحمل في يدها اليمنى لفافة مكتوبة من الرق أو الورق، وفي اليسرى صولجانا ينطق بمجدها وسلطانها حيث كانت أم العلوم.
غضبت السيدة الجليلة حين أبصرت ربات الشعر حول فراش السجين يملين عليه شكواه الحزينة التي عرفناها من قبل، وأظلمت عيناها وتكلمت قائلة: من الذي سمح لهؤلاء البغايا بالدخول إلى هذا المريض لا ليخففن آلامه، بل ليزدنها اشتعالا بسمهن الحلو؟ إنهن يعكرن صفاء العقل بظلام العاطفة، ويجلبن عليه المرض بدلا من أن يخلصنه منه، وما نفعهن لرجل قضى شبابه عاكفا على دراسة الإيلين
4
والأكاديميين؟
5
Unknown page