وهنا نسأل: هل كان في استطاعة السيد «إجه» أن يصلح العميل ويرده عن خدمة العنف والإرهاب؟ لا شك أنه لم يكن يستطيع. هل كانت مصادفة أنه بقي حيا؟ نعم كانت مصادفة، هل أثمر الاحتجاج الصامت أية ثمرة؟ وهل فهم أحد أنه احتجاج؟ نعم، فقد فهمه السيد كوينر على أي شيء يحتج هذان السيدان إذن؟ من الواضح أن احتجاجهما البعيد المدى موجه ضد الإرهاب، أما الاحتجاج الظاهر فهو على التورط في الكلام، هنا يختلفان عن أوديسيوس، فلولا أناشيد هوميروس في ملحمته المشهورة لبقي أوديسيوس «لا أحد» مجهولا، أما السيد كوينر فلا يمكنه في زمن البطش أن يغني أو يتكلم أو يعلن شيئا، حتى ولو كان هذا الشيء هو اسمه؛ ولذلك فقد أنكر هذا الاسم، ولولا هذا الإنكار لظل «لا أحد». وأما السيد «إجه» فلولا الصمت الذي لجأ إليه لبقي هو أيضا لا أحد، كلاهما هرب من العدم إلى العدم، من ضياع طبيعي للاسم (أو قل للشخصية والذات في ظل الإرهاب) إلى ضياع مفروض للاسم، غير أن حيلتهما العاجزة تثبت قوتها، واستسلامهما الصامت يثبت أنه هو السلاح الوحيد للمقاومة. لقد بين كلاهما أننا نعيش في عالم يهدد ذاتية الإنسان بالتلاشي ؛ ولذلك فليس عجيبا أن نجد بريشت يوصي طوال حياته «بالتنكر»، ويصف نفسه - لكثرة الأقنعة التي لبسها - في نوع من الاعتزاز بمكره فيقول: أيا كان الذي تبحثون عنه، فأنا لست «هو»، وينصحنا في قصيدة مشهورة فيكرر القول: «أقول لك: أخف الآثار.» ويصف المدن التي نعيش فيها اليوم بأنها كالأدغال التي تموت فيها الفيلة؛ لهذا كله وجدنا الذات المهددة بالضياع في مركز أعماله الشعرية والمسرحية، فشخصية جالي جاي في مسرحية «رجل برجل» عنوان الإنسان الذي يمكن في العصر الحديث أن يتشكل بالشكل الذي يراد له، وسائقو الطائرة المحطمة في مسرحية «بادن» التعليمية عن التفاهم والقبول، ويتحتم عليهم التضحية بشخصياتهم في سبيل المجموع التاريخي الرهيب، وشن-تي، إنسانة ستشوان الطيبة والشريرة معا، تتصارع فيها شخصية المحسنة الفقيرة والمستغلة الجشعة، وتظل على هذا الصراع بين الفردية والمجموع حتى تصرخ في النهاية: لا بد من إيجاد حل. والسيد شميت في مشهد المهرج المفزع في المسرحية التعليمية السابقة يتخلى عن أعضائه شيئا فشيئا ليحس بالسعادة حتى ينتهي به الأمر إلى التخلي عن رأسه. كل هذه الشخصيات لا تحتج بالمعنى المألوف عن الاحتجاج، إنها تخفي هذا الاحتجاج فتكون النتيجة أن تظهره، وتخنق صوته فيرتفع أعلى مما كان، وتحاول بكل قوتها أن تنكر ذاتها فتؤكدها، وسواء كان بريشت صادقا فيما دعا إليه صراحة في بعض مسرحياته التعليمية من سحق الفرد ليحيا المجموع، والتضحية بالثائر لتبقى الثورة «لنلاحظ بهذه المناسبة أنه عدل عن هذا الموقف البشع في مسرحياته المتأخرة، وراح يبحث عن حل آخر كما فعل مثلا على لسان تشن-تي في مسرحية إنسان ستشوان الطيب.» فإنه يشير إلى نوع من الاحتجاج الأخرس الذي يخشى أن يكون هو الاحتجاج الوحيد الذي بقي للإنسان في عصر التجمعات والمحاكمات ومعسكرات الاعتقال، والملايين الصامتة المستسلمة في ظل نظم الفوضى التي نسميها بالفاشية والنازية، وإذا كان السيد «ك» والسيد «إجه» لا يقولان «لا» واضحة عالية، بل يبعدان عن نفسيهما شبهة الاحتجاج بكل وسيلة حتى ولو استدعى الأمر أن يتخليا عن أسمائهما، فإن سكوتهما يظل عالي الصوت، واستسلامهما يصبح هو السبيل الوحيد للمقاومة، وامتناعهما عن قول «لا» يظل أقوى أثرا من كل صيحات المتمردين والغاضبين، ولا شك أن هذا الاحتجاج الصامت الساخر من كل احتجاج هو في حقيقته أقوى من كل احتجاج. صحيح أن السيد «ك» والسيد «إجه» لم يحلا مشكلة «اللا آحاد» الكثيرين في هذا العصر، ولكنهما قد أشارا إليها على أقل تقدير. •••
إذا كان في احتجاج أوديسيوس و«السيد ك» جانب من السخرية الخفية بالبطش والادعاء والظلم والزيف الذي يرتدي رداء البطولة، فإن هناك أنواعا أخرى من السخرية والساخرين تستطيع أن تملأ قلوبنا بالبهجة وتضيء عقولنا بالمعرفة، ولسنا في حاجة إلى البحث في الملاحم القديمة، ولا لتنقيب في آداب الأمم الغربية لنجد آثار هذه السخرية المرحة؛ فهناك حكاياتهم التي تدور على ألسنة الشعب في الأسواق والطرقات، وهناك مغامراتهم التي نتذكرها في كل مناسبة تدعو إليها، هناك جحا في حياتنا، وهناك الأويلنشبيجل أو جحا الألمان. ويكاد يكون لكل شعب جحاه الطيب الضاحك الزاهد في كل ادعاء أو إصلاح، القادر مع ذلك على تصحيح كل وضع مقلوب أو شاذ.
1
ولا يسمح المجال بالإضافة في الحديث عن هذين الأحمقين العاقلين، ولا يصلح للكلام في فلسفة الضحك والمضحكين؛ فذلك شيء يمكن أن يرجع فيه القارئ إلى كتب كثيرة تعالج هذا الموضوع، ولكننا نلاحظ فحسب أن أسلوبهما هو أسلوب الإغراب الذي جعل منه بريشت وسيلة المعرفة التي تكشف عن مجتمع كل ما فيه غريب ومحتاج إلى التغيير، فالمعرفة التي يعلمنا إياها جحا أو الأويلنشبيجل هي بدورها معرفة كاشفة، وشخصيتهما تشترك مع شخصية الأحمق أو المغفل في العصر القديم والوسيط إلى يومنا هذا في كشف «العالم المقلوب» الذي نعيش فيه، وهم جميعا يسلطون لسانهم السليط أو نكتتهم اللاذعة عليه؛ لأنهم يرونه دائما عالما يقف على رأسه.
ولعل في شخصية سقراط الفيلسوف المبتسم المتواضع من ملامح شخصية الأحمقين المشهورين أكثر مما توحي به كتابات أفلاطون أو أكسينوفون التي بقيت لنا عنه، ولعل هذا أيضا هو الذي دفع الكاتب الساخر أرسطوفان إلى هجومه اللاذع عليه، فهو في مسرحية «السحب» يصوره حالما خياليا، ويعلقه في سلة بين السماء والأرض، ويمثله صاحب مذهب صوفي وخرافي، ويجعله في النهاية يحرق مدرسته الفكرية، ومع ذلك فقد فشل هجوم أرسطوفان؛ ذلك لأن سقراط لم يكن يحمل مذهبا بقدر ما كان يجسده، وهذا وحده هو الذي جعل أكثر الفلاسفة المتأخرين والعصور التالية ترفعه إلى درجة التقديس. لقد كان - كما قال عنه كير كجارد بحق - سخرية خالصة، ولكن هذه السخرية لم تكن تشبه في شيء تلك النزعة التهكمية المرة التي يطلق عليها اسم «الكلبية»
cynicism ، فهي - كما يقول عنها كير كجارد أيضا - «نفي مطلق لا متناه»، يعبر به صاحبه عن سخط أبدي، ولكن هذا السخط يختلف عن خيبة الأمل، فهو لا يصدر عن مرارة الفشل، بل عن حرية العلو فوق الأوضاع القائمة، بغية نقدها وتغييرها والكشف عن تناقضاتها.
ومع ذلك قد يكون من المبالغة أن نقول عن الأويلينشبيجل أو عن جحا أنهما ساخران بهذا المعنى، فكلاهما لا يزعم أنه يلتزم بدعوى أو مذهب أو إصلاح، بل يدخل نفسه في مآزق لا يستطيع أن يخرج منها؛ لكي يكشف بذلك عن حرجها أو تناقضها؛ ولذلك كانت حريته حرية الكشف والتعريف وتسليط الأضواء.
وقد عرفت الفلسفة اليونانية القديمة شخصية جذابة هي شخصية الفيلسوف ديوجينيس، أو ديوجينيس الكلبي كما اشتهر اسمه، ذلك المغفل الحكيم الذي راح في ضوء النهار يتجول في الأسواق حاملا مصباحا في يده، باحثا عن إنسان. لم يكن ديوجينيس بالطبع يجهل أن المصباح لا ضرورة له في وضح النهار، ولا كان غبيا إلى الحد الذي يجعله يبحث عن «إنسان» لا وجود له، ولكنه اتبع أسلوبا في الإغراب يجعله أقرب إلى «الأويلنشبيجل» أو إلى جحا، وإن اختلف عنهما في ملامح كثيرة؛ فهو لم يكن يدعو إلى حكمة «اللوجوس» التي كانت تلزم الجميع، ولا كان يخضع للقوانين اليونانية التي آمن بها سقراط إلى آخر لحظة من حياته كما ضحى من أجلها بهذه الحياة، ولكنه كان ساخطا على طريقته، فهو يريد أن يقول للمدينة اليونانية «البوليس» إنه يكشف لها حقيقتها، ويقدم لها المرآة التي لا تحب أن ترى وجهها فيها. إنه يعيش عيشة الكلب، ويسير في الشوارع والأسواق حاملا مصباحه المشتعل في يده، وكأنه يريد أن يقول لأهل المدينة: لست أنا الكلب، بل أنتم الكلاب! لا بل إنني لا أزعم أني إنسان، وإنما أبحث بينكم عن إنسان، أعرف سلفا أنني لن أجده؛ لذلك لم يكن هو الساخر الحر الذي نعنيه، بل الباحث الذي خاب أمله في عالمه؛ فراح يبحث عن شيء يعرف مقدما أنه لن يعثر عليه. إن بحثه عن الإنسان ليس بالبحث الحقيقي، وإنما هو أقرب إلى محاولة يائسة يقوم بها رجل لم يجد ما يبحث عنه ولم يجده، ومن ثم قيل عنه بحق: إنه الفيلسوف الكلبي، أو المتهكم الهازئ الذي لا يشارك مشاركة حقيقية في الفعل الذي يقوم به، ولا يتوقع أن يصل من ورائه إلى نتيجة، بل يؤمن إيمانا مسبقا بأنه جهد عقيم لا جدوى منه.
في أي شيء يختلف هذا الكلبي الحكيم عن الأحمق والمغفل؟
قلنا: إن الأول يتهكم من أجل التهكم، ويصدر في سلوكه أو قوله عن مرارة وخيبة أمل في نفسه وفي العالم، أما الثاني فيسخر سخرية الساخط الحر، وإن لم يزعم لنفسه أنه يقوم بدور المصلح أو الداعية؛ ذلك أنه يحشر نفسه في مآزق محرجة؛ ليبين لنا أننا نحن أيضا نعيش في مثل هذه المآزق، وهو لا يقسم العالم إلى مخدوعين وخادعين وضحايا ومذنبين، بل يسلم الضحايا إلى قدرهم، ويبين للمذنبين أيضا أنهم ضحايا ومخدوعون، ففي كل مغامرة يقوم بها، وفي كل حكاية من حكايات غفلته وعبطه يثبت لنا أنه قد دخل في مأزق لن ينجو منه إلا بصعوبة، حتى ليخيل إلينا أنه يريد في كل حركة من حركاته أن يدمر نفسه. إنه يتعذب، ولكنه العذاب الذي يسبق كل معرفة حق؛ ولذلك فهو إذا ضحك على ذقون الناس وأضحكنا لم يتشف فيهم ولم يحاول أن يثبت أنه يعرف خيرا منهم، وإنما يتجاهل أو يعترف بجهله لكي يفضح من يدعون المعرفة الحقة، كما كان يفعل سقراط سواء بسواء، ولكنه لا يهتم بأن يثبت لنا جهل الغير، ولا بأن يعلمنا شيئا لا نعلمه، بل يكتفي بأن يظهر لنا كيف يتعذب من تعالم الآخرين، ويعبر بكلماته المقلوبة عن ألمه لأحوال «العالم المقلوب» الذي يعيش فيه، إنه يكشف لنا عن هذا العالم، ويرينا أنه عالم يقف على رأسه، ويدعونا - بغير أن يقول حرفا - إلى إعادته لوضعه الصحيح.
Unknown page