2
ما كان للعلم أن يقوم لو لم تسبقه الفلسفة، ولن نعرف ما الذرة والصاروخ حتى نعود إلى السؤال الذي ألقاه الحكيم اليوناني الأول: ما هذا «الوجود»؟ إن كلمة الفلسفة - كما يقول هيدجر - مكتوبة على شهادة ميلاد أوروبا والغرب، وفي استطاعتنا لا بل من واجبنا أن نقول: إنها مكتوبة على شهادة ميلاد عصرنا الذي نسميه في رهبة وإشفاق بعصر الذرة.
بالسؤال: «ما هذا؟» نحاول أن نحدد «ماهية» الشيء، فحين نسأل: ما هذا الذي يبدو على البعد؟ ونتلقى الجواب: إنه شجرة، ثم نعود فنسأل: وما هو هذا الذي ندعوه شجرة؟ فإننا نكون قد اقتربنا من طريقة اليونان في السؤال، أي اقتربنا من الفلسفة. هكذا كان يسأل سقراط وأفلاطون وأرسطو، إنهم يسألون: ما هذا الذي نسميه بالجمال؟ وما هذا الذي نسميه بالمعرفة والطبيعة والحركة؟ إن السؤال عن «ما هو الموجود؟» ليس سؤالا من أسئلة، ولكنه «السؤال» الذي طبع الروح الغربي من المهد حتى لحظتنا الراهنة، فسؤالنا «ما هو» سؤال عن ماهية شيء، عن جوهره وحقيقته، والسؤال عن الماهية يستيقظ في عقل الإنسان وقلبه حين يصيب الاضطراب والغموض ماهية ما يسأل عنه، وحين تهن صلته به أو تهدد بالضياع والانهيار، فسؤالنا إذن عن ماهية الفلسفة ينبع من إحساسنا بأن الفلسفة نفسها أصبحت موضع السؤال، إنه يصدر عن شعور بالمحنة، محنتنا نحن، السائلين والمسئولين جميعا ؛ ذلك لأن الفلسفة لا تصاب بالمحنة. والذين يحلو لهم أن يتحدثوا عن محنة الفلسفة إنما يتحدثون عن محنتهم هم، عن عجزهم عن الاتصال بروحها وانقطاع الأسباب التي تربطهم بما هو حق وباق وخالد، وكم مرت المحن المزعومة - من جانب الفلاسفة قبل كل شيء - كما تمر السحب على وجه الشمس.
دار بنا الحديث في دائرة، كنا نسأل عن أصل الفلسفة، فساقنا الحديث إلى ماهيتها، ثم إذا بنا نتهم أنفسهما ونتهم غيرنا بأننا نعيش من إهمال السؤال عنها في محنة. ولكي نعرف سر هذه المحنة لا بد لنا من معرفة ذلك الذي أدرنا ظهورنا له، وعصبنا أعيننا عن رؤيته حتى تعثرنا في المحنة، أعني لا بد لنا أن نعود فنسأل: ما هي الفلسفة؟
الكلمة اليونانية «فلسفة» تعود إلى كلمة «فيلسوف»، كان أول من استخدم هذه اللفظة الأخيرة وطبعها بطابعها هو هيراقليطس، ومعنى هذا أن كلمة الفلسفة لم توجد بعد عند هيراقليطس، وكل ما نجده لديه هو كلمة الفيلسوف، مستخدمة استخدام الصفات،
3
فالفيلسوف عنده هو الذي يحب «السوفون»، والحب عنده فعل يحاول به المحب أن يطابق بينه وبين المحبوب، فيتحدث كما يتحدث «اللوجوس»، ويعيش ويفكر في «هارمونية»، أي في انسجام وتجانس معه، ومن العسير أن نعرف، على وجه الدقة، ما يريده هيراقليطس بكلمة «السوفون»، إنه من أعقد الفلاسفة وأشدهم غموضا، حتى لقد سماه الأقدمون بالمظلم، ولكننا نستطيع أن نعتمد على هيراقليطس نفسه: «إن لم يسمعوني واستمعوا إلى اللوجوس (المعنى، الجوهر، الكلمة) فسيكون من صواب الرأي أن نقول بما يطابق الحكمة: إن الواحد هو الكل»، أما «الكل» فيعني هنا كل ما هو موجود، وأما «الواحد» فتعني الواحد الفريد المتوحد، كل الموجودات متحدة في الوجود، والسوفون تعني إذن كل موجود في الوجود، أو بعبارة أشد حدة: الوجود هو الموجود، ورابطة الكينونة المضمرة في الجملة الأخيرة متعدية، نستطيع أن نترجمها بقولنا: إن الوجود يجمع (يكون) الموجود، فيكون الوجود بهذا المعنى هو التجميع «اللوجوس»، قد تبدو لنا هذه العبارة تافهة، وقد نحسب أن كل ما يوجد فهو بطبيعته مشترك و«مجتمع» في الوجود، ومع ذلك فقد كان اجتماع الموجودات في الوجود وبقاؤها فيه هو الذي أثار الدهشة في عيني اليوناني القديم (أقول في عينيه ولا أقول في سمعه أو قلبه؛ ذلك أن فلسفة اليونان كلها فلسفة رؤيا وتأمل، وكلنا يعرف منزلة العين عند أفلاطون وأرسطو، من يدري في أي اتجاه كان يمكن أن تسير الفلسفة والفكر الغربي كله لو أن اليوناني أصغى سمعه وخشع بقلبه بدلا من أن يفتح عينيه ليسأل ما الوجود؟ فينتهي به السؤال إلى السيطرة عليه والتحكم فيه؛ هذه السيطرة وهذا التحكم اللذين وصلا إلى قمتهما فيما نسميه اليوم بالروح العلمية أو الروح الوضعية).
هذا الذي أدهش اليونان حاولوا أن يحموه وينقذوه ممن لا يحس بالدهشة، من حكماء السوق، من السفسطائي الذي يعرف لكل مشكلة حلا ويجد لكل سؤال جوابا، ولم يكن من سبيل إلى إنقاذ الدهشة إلا بالصعود في طريق المدهش، فأصبح الحكيم هو الذي يسعى إلى الحكمة، ويوقظ بسعيه الشوق إليها في نفوس الآخرين، فمحبة الحكمة - بالمعنى الذي ذكرناه من الانسجام مع الواحد أو الكل، والتجانس مع الجوهر أو المعنى - هي في السعي إليها سعيا يحدده الحب ويبين له الطريق إلى وجود الموجود، إلى الكل. ربما كان هذا السعي هو الفلسفة التي قصد إليها هيراقليطس، ومع ذلك فلم يكن هيراقليطس فيلسوفا بالمعنى الذي نتعارف عليه اليوم كما ورثناه عن أفلاطون وأرسطو، وكل ما نستطيع أن نقوله عنه: إنه مفكر عظيم، محب للحكمة، دائب السعي إلى التشبه بها، والمجانسة بين لغته ولغة «اللوجوس»، والحياة والتفكير بما يطابق الواحد الكل. هذا السعي المفعم بالدهشة نحو مصدر كل دهشة هو الذي يعبر عنه فيما بعد في هذا السؤال الذي يتحول به الفكر بمعناه عند هيراقليطس والفلاسفة قبل سقراط بوجه عام إلى ما نسميه اليوم بالفلسفة: ما هو الوجود من حيث هو موجود؟ هذه الخطوة التي مهد لها السفسطائيون وقام بها سقراط وأفلاطون يعبر عنها أرسطو في جملة مشهورة يقولها بعد هيراقليطس بحوالي قرنين من الزمان : «وهكذا كان من قديم، ولم يزل الآن، وسيبقى أبدا؛ السؤال الذي تسأله الفلسفة وتحار في الوصول إلى الجواب عنه وهو: ما هو الموجود؟»
4
السؤال يشير إلى ما يسأل عنه، إنه وجود الموجود، هو التغير الدائم عند هيراقليطس، والمثال عند أفلاطون، والطاقة عند أرسطو، والأنا أفكر عند ديكارت، والأنا أتصور لنفسي عند كانط، و«الأنا» عند المثاليين الألمان من بعده، وإرادة القوة عند نيتشه ... إلخ. إجابات يطول بنا المقام لو حاولنا أن نتتبعها؛ لأن ما نريده أبسط من هذا بكثير، نريد أن نقف عند الباعث على هذا السؤال ونعرف الدافع إليه؛ فالتحولات المختلفة التي مرت بها الفلسفة في تاريخها الطويل لن تجدينا في الإجابة على سؤالنا، أجدى من ذلك أن نحاول الاقتراب من جوهر الفلسفة نفسها، ونعرف الباعث الخالد الذي دفع الإنسان في كل مرة إلى محاولة الإجابة على سؤالها الخالد.
Unknown page