لم يجد الدموع التي ترطب وجهه،
وإنما راح يطري الجمال الضائع.
هل استطاع السلطان الرفيع
أن يوقف جرائم نيرون؟
يا له من قدر قاس،
حين تلتقي شهوة القتل
بسلطان السيف!
ويجيب السجين قائلا: أنت نفسك تعلمين أن الطموح إلى متاع الأرض لم يكن من طبعي، ولكن نفسي كانت تشتاق إلى الفعل، حتى لا تشل طاقتها على العمل. فترد عليه السيدة الحكيمة بقولها: إن من صفات الأرواح التي ميزتها الطبيعة، والتي لم تبلغ كمال الفضيلة، أن نسعى إلى المجد والسمعة الطيبة عن طريق ما تحققه من أعمال في سبيل الدولة، ولكن يا له من جهد ضائع وعقيم! فأنت تعرف من تعاليم الفلكيين ومن قراءتك لبطليموس أن الأرض لا تزيد عن نقطة ضئيلة إذا قورنت بالفضاء الكوني الكبير، وأن الجزء المسكون منها لا يزيد عن ربع مساحتها، فإذا طرحت من هذا الربع تلك المساحات الشاسعة التي تشغلها البحار والصحاري والمستنقعات لما بقي للإنسان إلا جزء ضئيل. فما قيمة المجد الذي يطمع صاحبه في أن ينشر ذكره على هذا الحيز الصغير؟ وهل يمكن أن تبقى لهذا المجد قيمة في ذاتها؟ وإذا عرفت أن هذا الحيز الصغير تسكنه شعوب مختلفة اللغات والعادات والطباع، فهل تحلم مدينة من المدن بأن يسير ذكرها فيه، ناهيك بفرد واحد؟ إن شيشرون يعترف في أحد كتبه
10
أن سمعة الدولة الرومانية في قمة مجدها لم تستطع أن تتعدى جبال القوقاز، فهل تشك بعد هذا أن من العبث أن يفكر امرؤ في نشر اسمه في مثل هذا الحيز الضيق المحدود؟ وإذا تفكر الإنسان في خلود الزمن، فمن أين يأتيه الفرح بخلود الاسم؟ وإذا استطاع أن يحفظه عبر آلاف السنين، فما هي هذه الآلاف إذا قيست بعمر الأبد؟ وما قيمة المجد الذي أحرزه عظماء الرجال إذا كانت أجسادهم ستتحلل بعد الموت إلى تراب؟ وماذا ينفع بعد ذلك أن تشتهر أسماء لا وجود لأصحابها؟ ولكن الغرور هو الذي يسول لكم أن تسعوا إلى المجد والشهرة بين الناس. فاسمع حكاية الرجل الذي عرف كيف يسخر من هذا الغرور. فيحكى أنه سمع أن رجلا سمى نفسه بالفيلسوف، لا عن حب للفضيلة، بل عن ولع بالشهرة، وقال الرجل لنفسه: سأجرب معه السب والإهانة لأعرف من صبره عليها إن كان فيلسوفا حقا كما يدعي، واحتمل الرجل فترة ثم قال في سخرية مما أصابه من أذى: «هل رأيت أخيرا أنني فيلسوف؟» فرد عليه الأول في سخرية أشد مرارة: «لو أنك سكت لرأيت ذلك حقا!»
Unknown page