أجل، بصراحة أيها السادة «اجتماعكم هذا» إذا وضعناه تحت عدسة الحقيقة المجردة، والواقع، والنظرة الموضوعية البحتة، اجتماعكم هذا هو اجتماع مهزومين.
الكلمة بشعة ومروعة، وأنا متأكد أن الكثيرين سيغضبون لها ومنها، وبل ربما كان رد فعلهم أشد وأقسى، ولكن الوقت أيها السادة كما قلت لم يعد وقت مجاملات، ولا وقتا لتهوين الأمر على النفس أو الضحك والكذب عليها.
لقد كذبنا على أنفسنا، واسمحوا لي أيضا أن أضيف كذبتم علينا طويلا وكثيرا، وكنا باستمرار نصدقكم، وكنا باستمرار نتلقف كلماتكم الهادرة التي تتحدث عن حتمية وقوفكم في وجه طغيان العدو، وتعهدكم أننا حتما منتصرون ... كثيرة وطويلة هي الخطب والتصريحات والخطابات الجماهيرية المباشرة في عشرات المناسبات، الخطابات التي تنطلق بل وتجأر بتعهدكم بالحفاظ على الأرض والعرض والشعب والوطن، وكانت الأحداث تتوالى وظلت تتوالى إلى اليوم، اليوم الذي وصلنا فيه إلى مرحلة الهزيمة.
وها هو ذا اجتماعكم التاريخي يحدث تحت راية الهزيمة وليس أبدا تحت ظل راية أخرى؛ فهو أبدا ليس اجتماعا تجتمع فيه على أثر انتصار ولو ضئيلا حققناه، وليس اجتماعا تحت ظل وضع إسلامي متأزم كالعادة ولا بد لنا من البحث عن حل لأزماته، إنما هو اجتماع، وأقولها بإيمان من آلى على نفسه ألا يخدع نفسه أبدا أو قارئه، اجتماع يقع في ظل هزيمة عربية وإسلامية، هزيمة تكاد تكون أبشع هزائمنا في طول التاريخ وعرضه، أبشع من هزيمتنا في «بواتييه» أمام الفرنسيين، أبشع من هزيمتنا في غرناطة أمام الإسبان وضياع الأندلس، أبشع من هزيمتنا أمام جحافل المغول وقبائل آسيا التركية، أبشع من هزيمتنا من فرنسا وإنجلترا بتهامة الحرب العظمى الأولى، بل أبشع من هزيمتنا الأولى في عام 1948 أمام إسرائيل. •••
في أعقاب هزيمة 48 بل وأثناءها حدثت لنا هزة عميقة أيقظتنا كلنا حكاما ومحكومين، أجل كلهم استيقظوا، الحكام بعضهم فقط هو الذي استيقظ، وبدأ يدرك مدى المصيبة التي حاقت وحلت، ويعي بانتفاضة الشعوب العربية والإسلامية القادمة ولا يقف أمامها، ويحاول مع الاستعمار ضربها، كما تصرف البعض بغباء الرجعية التقليدي، ولكنه فطن لها وانضم إلى قضية التحرر الإسلامية العربية التي كانت أرض الواقع قد بدأت تدمدم بها. أما أولئك الذين سدروا في غفوتهم وغفلتهم فقد أطاحت بهم عجلة التاريخ حين حركها الشعب الإسلامي وتحرك بها، ووقفت الشعوب الإسلامية العربية تنفض عن نفسها الغيبوبة التي كان يبقينا الاستعمار الإنجليزي والفرنسي تحت تأثيرها، وهبت أممنا من باكستان في أقصى الشرق، إلى المغرب الدار البيضاء، تدرك أن هزيمة 48 إنما هي هزيمة أنظمة وحكام طال تعاونهم مع الإنجليز والفرنسيين والغرب بشكل عام ... وقامت ثورة 23 يوليو، ثورة الشعب المصري العربي المسلم تعزل الملك الذي خان قضيتها وجعلها تدخل الحرب بأسلحة فاسدة وتقبل الهدنة الخائنة التي حدثت أثناء معركة 48 ليتحول الانتصار الذي حققته جيوشنا العربية الباسلة إلى هزيمة عسكرية، وإلى تدشين قيام دولة إسرائيل بالعالم كاملا، بغربه وشرقه، يعترف بها وبشرعية اقتطاعها معظم فلسطين واعتبارها دولة شرعية لها كل حقوق أعرق الدول، وليس عليها أبدا أي واجب من واجباتها.
وعادت جيوشنا التي كتفوها بالهزيمة إلى بلادنا لتدرك أن عدوا جديدا لم تكن قد عملت له ولوجوده حسابا، وكان كفاحها، وكانت كلمة الاستعمار حتى تقولها أو تدركها تعني فقط الاستعمار الغربي المجسد في الاحتلال العسكري بقواعده وقوته وعتاده.
أدركت جيوشنا ومن ثم شعوبنا أن الاستعمار قد غرس بيده شيئا قال هو عنه إنه دولة وقلنا نحن عنه إنه دولة مزعومة. وأكدت لنا قيادة ما تبقى من الجبهة الفلسطينية الوطنية أنها لن تبدأ حتى تلقي بتلك الدولة المزعومة في البحر وتعيد الأرض المغتصبة إلى أصحابها وتنتزع هذه الشوكة المسمومة التي غرستها قوى متآمرة كثيرة في قلب وطننا.
وبرغم أننا كلنا رحنا نتحدث عن هزيمة 48 وعن ضرورة وحتمية نشوب معركة جديدة تنتصر فيها الأمة العربية المسلمة، التي كانت لا تزال هي الحامية والراعية للقدس الشريفة موطن كل الأديان وكعبة كل المؤمنين، رغم أننا رحنا «نتحدث» عن الهزيمة، إلا أن القليلين جدا هم الذين وعوا حجم تلك الهزيمة ونظروا إلى أبعد من كونها معركة عسكرية هزمت فيها سبعة جيوش عربية، فقط نتيجة النظم المهترئة التي أثبتت فشلها في أول اشتباك عسكري مع عدو كان جيشه لا يزال في حكم العصابات الإرهابية التي بالكاد توحدت وانضمت، وبارجون تشفاي ليومي والهاجاناه، تشكل ما سوف يصبح اسمه بعد هذا جيش الدفاع الإسرائيلي، وما سوف يثبت أنه ليس مجرد جيش للدفاع عن مجتمع صغير ضعيف من المهاجرين الأوروبيين اليهود، إنما هو في الحقيقة ميلاد أخطر قوة استعمارية - لم تقد - وإنما زرعت وصنعت من قلب منطقتنا نفسها وأيضا في قلبها.
فكما أثبتت الوثائق بعد هذا لم يكن اختيار فلسطين لتكون قاعدة للاستعمار الاستيطاني القادم عبثا؛ لقد اختيرت لتشطر الأمة الإسلامية بشكل عام والأمة العربية بشكل خاص إلى شطرين كبيرين، تمهيدا للتشطير والتقطيع والتجزيء والتشرذم، والهزيمة الكاملة القادمة. ولو كان الوجود الإسرائيلي قد بقي على هيئة إسرائيل 48 بالضفة الغربية وجزء من الشرقية عربية وكذلك قطاع غزة وصحراء النقب والقدس، لما عاشت إسرائيل، ولماتت كما تموت الشتلة، إذا نقلت إلى أرض غريبة وبقيت على حالها، عملاق الشعب المصري يخرج من القمقم المحلي الذي حبسوه في داخله طويلا، القمقم الذي كان يؤمن بأن مصر بلد فرعوني التاريخ لا يمت بصلة في أهدافه وتوجهاته إلى البلاد العربية، وحتى إلى آسيا وأفريقيا، وأن تطلعه علميا وفلسفيا وحضاريا لا بد أن يتجه عبر البحر المتوسط إلى الشمال الأنجلوساكسوني ومن ثم الأمريكي. عملاق هائل خرج يغلي بفلسفة الثورة الجديدة المؤمنة بعروبة مصر وانتمائها الإسلامي الكامل وجذورها الضاربة في أفريقيا وآسيا، وتطلعاتها إلى وحدة عربية شاملة مع شقيقاتها العربيات، ووجود إسلامي عالمي يضمها إلى الإطار الإسلامي الأوسع الذي يجمع الشعوب المسلمة في آسيا وأفريقيا من شمال وجنوب شرقي آسيا إلى أفريقيا بشمالها وجنوبها ووسطها، وكل هذا العالم سواء في دائرته الأكثر صغرا، الدائرة العربية أو دائرته الأكثر كبرا، دائرته الإسلامية مركزها مصر، هي بمثابة القلب منه وهي الرابطة بين شرقه وغربه وبين أفريقيته وآسيويته وعالمه الثالث كله.
أجل شيئا فشيئا بدأت تتكشف ملامح المؤامرة الكبرى على العرب والإسلام اللذين يشكلان العمود الفقري للعالم الآسيوي والأفريقي الثالث، يتكشف أن اختيار إسرائيل - حتى ولو أنهم حاولوا إخفاءه بالشعارات التي لا تتوقف على أرض الميعاد وشعب الله المختار وحائط المبكى والحق التاريخي - يتكشف أن السبب الأهم يكمن في أنه من مثل هذا الموقع الذي اختير لتقوم عليه إسرائيل يمكن دق إسفين قاتل في قلب الأمة العربية أولا ثم العالم الإسلامي ثانيا ثم العالم الآسيوي الأفريقي الثالث كله ثالثا.
Unknown page