Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
لم يتقبله الجمهور قبولا حسنا، وعلل هذا بأن الكتاب فضلا عن سوء ترتيبه بارد الطبع ينقصه «الخيال الفلسفي»،
20
وأسف جريم في موضع آخر لقلة العناية بعلم السياسة، مما أدى إلى تأخر
21
هذا العلم، ولكنه اغتبط؛ لأن العناية بالعلوم النافعة الأخرى، (الزراعة والتجارة والتاريخ والأخلاق) لم يسبق لها أن نالت من إقبال الجمهور ما تناله الآن،
22
وهكذا كانت سمات الاتجاه الجديد: دراسة الأشياء النافعة، ومعالجتها معالجة جدية تليق بالفلاسفة، وإكسابها قدرا من حرارة الخيال، أليس هذا أجدى من أن نفضح قصور العقل وضعف دعائم المعرفة!
وهكذا لم يجاوز عصر العقل منتصف عمره، إلا وقد أقر الفلاسفة بقصور العقل، واستنكروا الخفة وانصرفوا إلى دراسة العلوم النافعة - أو بعبارة أخرى - العلوم التي تقبل الإحصاء والملاحظة، وكلما تقدم العصر نحو نهايته تأكدت هذه الاتجاهات، فزاد الاهتمام الواقعي العملي، وزاد انشغال المفكرين بشئون الإصلاح السياسي والاجتماعي، وارتفعت حرارة الجو الفكري كل عام عن ذي قبل، وانقضى زمان استطاع رجال الحكم فيه ألا يفعلوا شيئا، فلا يوقظوا نائما ولا يحركوا ساكنا، وانقضى زمان استطاع الملوك فيه أن يقولوا: «أنا الدولة» دون استحياء، ولكن جاء زمان آخر، وبعد أن كانت فلك الملوك «تجري بهم بريح طيبة وهم بها فرحون، جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان»، فلا عجب أن وجدوا أنفسهم ملزمين بأن ينادوا بما نادى به فردريك الأكبر: «أنا خادم الدولة الأول»، وانقلب الملوك «ملوكا خيرين »، تلطيفا لذلك الحكم المطلق الذي حيل بينهم وبينه، وكثر كلامهم في «الإصلاح»، وإن هم لم يصلحوا شيئا واستحثوا أولياء عهدهم الأمراء الفتيان أن يدرسوا التاريخ طبقا لما رسمته مناهج مؤدبيهم الفلاسفة؛ وذلك لكي يتعلموا من تجارب الإنسانية ما هو «لازم لأمير عهد إليه بإصلاح حال المجتمع.»
23
ولما كان إصلاح حال المجتمع أقرب شيء لقلوب الفلاسفة، فقد كان عملا مناسبا أن يختارهم الملوك مؤدبين لأبنائهم، مدربين لهم في فنون الإصلاح، ولكن الاختيار وقع في وقت غير مناسب؛ ذلك لأنهم اختيروا لأداء هذه المهمة العملية في الوقت الذي أدركوا فيه عجز العقل المحض عن التوفيق بين العادة والطبيعة، وهو التوفيق الذي طالما دعوا الناس موقنين إلى اعتبار الغاية الخليقة بسعي الإنسان، فإن قال الفيلسوف المؤدب لتلميذه الفتى الأمير: «ينبغي أن يقوم الدين والأخلاق والسياسة على القانون الطبيعي، وينبغي أن تكون هذه الأشياء كلها منسجمة مع طبيعة الإنسان»، حق للفتى الأمير أن يجيب إن كان قد حفظ ما تعلمه من فلسفة: لقد أنبئت أن الكون ما هو إلا مادة تتحرك من تلقاء نفسها، وأن الإنسان أحدثته الطبيعة إحداثا آليا؛ وبناء على ذلك فكل ما هو كائن منسجم فعلا مع الطبيعة، يستوي في هذا إذن القسيسون والفلاسفة، والخرافة والاستنارة، الطغيان ومحكمة التفتيش من جهة والحرية ودائرة المعارف
Unknown page