Madina Fadila
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Genres
لي - مثل الكثيرين من الناس - آراء معينة أتمسك بها، وأومن بصوابها؛ لأنها تستند استنادا منطقيا إلى حقائق مشهورة بينة، وكثيرا ما أضيق بالصديق الحميم الذي لا يسلم لي برأي أعتز به، قد أجده يصر على الإنكار حتى بعد أن أعرض عليه جميع الحقائق المتعلقة بالرأي الذي يرفض، وحتى بعد أن أظهره المرة بعد المرة على خطوات الاستدلال المنطقي التي ينبغي لها أن تقنع أي رجل منصف معتدل، والذي يزيد في ضيقي به أنه في الغالب لا يستطيع تفنيد حجتي، ومع ذلك، ومع أنه يسلم بها رغم أنفه، فإنه يبقى متمسكا برأيه، وينتهي بي الأمر إلى أن أعتقد أن صديقي، وا أسفاه، قد ختم الله على عقله أو أغشى على بصيرته الانفعال أو الانقياد للهوى، والانسياق وراء الخيالات، فصار بهذا كله لا يبصر الحق.
وقد أغفر لصديقي الانقياد للهوى وانحرافه عن الطريق المستقيم، أفعل ذلك لأني أعرف أثر الهوى في سوء الحكم، ولأني أراها هنة هينة وخطأ كان يصح جدا أن أقع فيه أنا نفسي، لولا أن الله سلم.
والواقع أني وصاحبي هذا لسنا دائما على هذه الدرجة من الاختلاف، بل على العكس، إن آراءنا في القضايا الكبيرة جد متقاربة؛ وذلك لأننا - كما شاءت لنا المقادير - أستاذان جامعيان، اكتسبنا نفس التجارب واهتممنا بنفس الأشياء، وهو وأنا نتفق عادة على نوع الحقائق التي يصح اعتبارها مكونة لقضية ما، وعلى نوع الاستنباطات التي يصح أن تقبل التصديق، فأكثر المقدمات التي يستخدمها كلانا والعبارات التي تدور على لسانينا بحكم العادة، هي مما ألف استعماله رجال التعليم في المدارس. ومع ذلك، ومع اتفاقنا التام على الأساسيات، فقد أقضي أنا وصاحبي الليل كله نتجادل متفقين على كل شيء سوى الرأي، على حد تعبير كارليل.
وهكذا نستطيع نحن الأستاذين أن نقضي ليلة بأسرها في جدل؛ وذلك لأننا متفقان، والحال غير ذلك إن اجتمعت أنا واجتمع هو برجال لا ينتمون إلى طائفتنا؛ برجال السياسة مثلا أو برجال الدين، والذي يحدث حينئذ أن ينقطع حبل المجادلة بحكم عدم وجود الاتفاق على الأساسيات، فما يعده رجل السياسة أو رجل الدين حقيقة جوهرية، قد لا نعدها نحن كذلك، فهي - في نظرنا - مشكوك في صحتها أو في أهميتها، وعمليات الاستدلال التي نراها مؤدية إلى الاقتناع يرفضها صاحبانا بشيء من الاستخفاف والعناد، وما هي في نظرهما إلا كلام النظريين الجامعيين، وهكذا لا تكاد جلسة السهرة تبدأ إلا وقد آن لها أن تنتهي؛ لأننا لا نجد ما نصل به سير المجادلة، وكيف نستطيع أن نواصلها وصاحبانا قد أفسد عليهما التفكير ما يعانيانه من تحكم الأهواء، وما يشاطران فيه أبناء طائفتيهما من استسلام بلا وعي لأفكار ومعان يتداولها الناس دون تثبت منها، فليس قصورهما إذن ذلك الأمر السطحي، الذي يرجع إلى قصور الذات فحسب، بل هو أعمق وأعم.
على أننا جميعا رجال الجامعة ورجال السياسة ورجال الدين، ننتسب لجيل واحد، فإذا ما قدر لنا أن نلتقي ببعض شخصيات بارزة تنتمي إلى جيل سابق، ظهرت لنا بلا شك أشياء وأمور تجمعنا نحن أبناء الجيل الواحد على الرغم من شدة ما بيننا من اختلاف، فلنقف هنيهة ولنطلق لخيالنا العنان، ولنر ماذا يكون إذا ما استحضرنا لعالمنا هذا دانتي وتوماس الأكويني، كما كان يستحضر علاء الدين الجن بمس مصباحه السحري، فإذا ما استجاب القديس توماس وحضر، فلا يليق أن نضيع وقته الثمين في التحدث عن حالة الطقس وما إلى ذلك، بل ينبغي أن نبادر فنطلب إليه أن يحدد لنا فكرة القانون الطبيعي؛ إذ إن عبارة «القانون الطبيعي» كانت شائعة الاستعمال في عصره، بقدر ما هي كذلك في أيامنا، ونحن نعرف أن القديس توماس كان دائما على استعداد لأن يحدد ويعرف، وإذن فهو لا يتردد في أن يحدد لنا فكرة القانون الطبيعي على النحو التالي، فيقول:
لما كانت الموجودات كلها المشمولة بالعناية الإلهية، يحكمها ويقدرها القانون الأزلي، فبين أن للموجودات كلها نوعا من المشاركة في القانون الأزلي، وذلك أنه من حيث إنها منطبعة به فهي تستمد منه نزوعها لأفعالها وغاياتها الذاتية. هذا وأكمل الموجودات خضوعا للعناية الإلهية هو المخلوق العاقل، وذلك من حيث إن المخلوق العاقل بما له من نصيب من العناية الإلهية لا تقتصر عنايتهعلى ذاته فحسب، بل تمتد إلى غيره، ومن ثم كان له نصيب من العقل الأزلي يستمدمنه نزوعا طبيعيا لفعله وغايته الذاتيين، وهذا الإشراق من القانون الأزلي في المخلوق العاقل هو ما يسمى القانون الطبيعي.
1
وقد نفضل بعد أن نسمع هذا التحديد الموجز الدال أن ننتقل من موضوع القانون الطبيعي إلى موضوع أوثق اتصالا بشئون السياسة العملية، وليكن مثلا «جمعية الأمم»، وهو موضوع كتب فيه دانتي طويلا، وإن كان قد سمى كتابه «في الملوكية»، ودانتي من أنصار جمعية الأمم، إن صح القول، وينتصر لها بالحجة التالية:
الجنس البشري كل بالنسبة إلى أجزاء معينة، وهو جزء بالنسبة إلى كل معين، فهو كل بالنسبة إلى ممالك معينة وشعوب معينة، كما سبق لنا القول، وهو جزء بالنسبة إلى العالم كله، وهذا بين بذاته، وإذن، فعلى النحو الذي تقابل به الأجزاء البشرية الجنس البشري باعتباره كلا يكون مقابلة الجنس البشري للكل الذي هو جزء منه، ومما سبق لنا بيانه يسهل علينا أن نرى أن مقابلة أجزاء الجنس البشري للجنس البشري باعتباره كلا تتم باتباع مبدأ واحد، ألا وهو أن تخضع لحكومة ملك واحد، فإذا ما حدث ذلك قابل الجنس البشري العالم الذي هو جزء منه، والعالم يحكمه ملك واحد، هو الله، فالمبدأ في الحالتين واحد، هو حكومة الملك الواحد، ونستدل بهذا على أن الملوكية، أو ما نسميه نحن جمعية الأمم، ضرورية للعالم من أجل صلاح حاله.
2
Unknown page