Madhahib Al-Nas fi Sifat Al-Mahabba Lillah Azza wa Jal
مذاهب الناس في صفة المحبة لله عز وجل
Genres
مذاهب الناس في صفة
المحبة لله ﷿
د: عبد المجيد بن محمد الوعلان
1 / 1
تمهيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران: ١٠٢]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء: ١]، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أما بعد:
فإن الله تعالى بعث نبيه محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولم يمت رسول الله ﷺ حتى بين للناس جميع ما يحتاجون إليه، فتركهم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك (^١).
وكان من أهم ما يحتاجون إليه، وبينه لهم رسول الله ﷺ، تعريفهم بربهم، وما يستحقه من الأسماء الحسنى، والصفات العلى.
ولقد كان فهم الصحابة رضوان الله عليهم للكتاب والسنة، واعتصامهم بهما امتثالًا لقوله ﵊: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به كتاب الله» (^٢)، حائلًا بينهم وبين التنازع والتفرق المذموم وتقديم رأيهم على الكتاب والسنة.
وكذلك كان من سلك سبيلهم، لم يكن أحد منهم يقدم قوله ورأيه على الكتاب والسنة، أو يعارض النصوص بمعقوله.
_________
(^١) سنن ابن ماجه، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، ص (١/ ١٠) رقم ٣٥، وهو في صحيح سنن ابن ماجه للألباني ص (١/ ١٣)، رقم (٤١).
(^٢) رواه مسلم في كتاب الحج، باب في حجة النبي ﷺ، ص (٤/ ٣٨).
1 / 2
ثم حصل بعد ذلك الإعراض عن كتاب الله وسنه نبيه ﷺ فحدثت البدع، وظهرت الفرق ونشأ الضلال في الأسماء والصفات، فحرفوا كتاب الله، وألحدوا في دين الله فأصبحوا "يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن الضالين" (^١).
ولذلك كان لزامًا على كل مسلم أن يتعلم حقائق الدين، ليتعرف على الطريقة الصحيحة لعبادة الله ﷿ القائل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: ٥٦].
وقد أحببت أن اكتب في هذا البحث من أجل توضيح عقيدة أهل السنة والجماعة في صفة المحبة لله ﷿، ثم توضيح مذهب المعطلة في ذلك والرد عليهم.
لأن العلم بالله وأسمائه وصفاته هو أهم العلوم، وذلك لأن شرف العلم من شرف المعلوم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (^٢) ﵀: " العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات، لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض الناس على بعض، أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من العلوم " (^٣).
وقد كانت خطة البحث على النحو التالي:
يشتمل هذا البحث على تمهيد، ومقدمة، وفصلين، وخاتمة.
أما التمهيد فيشتمل على أهمية هذا الموضوع وسبب اختياره، وخطة البحث.
أما المقدمة: تحدثت فيها عن تعريف المحبة لغةً واصطلاحًا.
أما الفصل الأول: تحدثت فيه عن مذهب أهل السنة والجماعة في صفة المحبة لله ﷿.
أما الفصل الثاني: تحدثت فيه عن مذهب المعطلة في صفة المحبة لله ﷿ والرد عليهم.
الخاتمة: تحدثت فيها عن الخلاصة من هذا البحث.
_________
(^١) الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص ٨٥.
(^٢) هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، الإمام العالم، العلامة الفقيه، القدوة، ولد سنة ٦٦١ هـ بحران، وتوفي سنة ٧٢٨ هـ. انظر البداية والنهاية لابن كثير ص (١٤/ ١٤١)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، ص (٦/ ٨٠)، والأعلام للزركلي، ص (١/ ١٤٤).
(^٣) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (٧/ ١٢٩).
1 / 3
أما عملي في البحث فهو كالتالي:
١ - عزو الآيات إلى أماكنها في القران، وذلك ببيان اسم السورة ورقم الآية ووضعها بين قوسين ﴿﴾.
٢ - تخريج الأحاديث والآثار وذكر مصادرها ووضعها بين معكوفين «».
٣ - ترجمة للفرق الواردة في البحث.
٤ - ترجمة للأعلام الذي مر ذكرهم في البحث.
٥ - عمل فهارس للموضوعات.
٦ - عمل قائمة بالمراجع.
فأسال الله ﷾ أن يجعل هذا الجهد القليل خالصًا لوجه الكريم، وأن ينفعنا به في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
د: عبد المجيد بن محمد الوعلان
awalaan@gmail.com
1 / 4
المقدمة
تعريف المحبة لغة واصطلاحًا
المحبة لغة: الحاء والباء أصول ثلاثة، أحدها اللزوم والثبات، والآخر الحبة من الشيء ذي الحب، والثالث وصف القصر.
فالأول الحب، معروف من الحنطة والشعير ...
ومن هذا الباب حبة القلب: سويداؤه، ويقال ثمرته. ... ..
وأما اللزوم فالحب والمحبة اشتقاقه من أحبه إذا لزمه والمحب: البعير الذي يحسر فيلزم مكانه (^١).
والمحبة اسم للحب، والحب: نقيض البغض وهو: الوداد والمحبة، وكذلك الحب بالكسر (^٢)، يقال أحبه فهو محب وحبة يحبه بالكسر فهو محبوب (^٣).
قيل في المحبة: (أصلها الصفا لان العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حَبَب الأسنان، وقيل مأخوذة من الحَبَاب وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد، فعلى هذا المحبة غليان القلب وثوارنه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب، وقيل مشتقة من اللزوم والثبات، ومنه أحب البعير إذا برك فلم يقم كأن المحب قد لزم قلبه محبو به فلم يرم عنه انتقالًا.
وقيل: هي مأخوذة من القلق والاضطراب. وقيل: بل هي مأخوذة من الحب جمع حبة، وهو لباب الشيء وخالصه وأصله، فإن الحب أصل النبات والشجر، وقيل: بل هي مأخوذة من الحب الذي هو إناء واسع يوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يسع غيره، وكذلك قلب المحب ليس فيه سعة لغير محبو به ... وقيل غير ذلك) (^٤).
والمحبة ميل القلب، من الحب استعير لحبة القلب ثم اشتق من الحب لأنه أصابها ورسخ فيها (^٥) ... (وقيل المحبة: ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه بحيث يحملها على ما يقربها إليه) (^٦).
المحبة اصطلاحًا: صفة حقيقة من صفات الله ﷿ الفعلية الاختيارية (^٧) المتعلقة بمشيئته (^٨)، الثابتة بالكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وقال تعالى: ﴿دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ [المائدة: ٥٤].
وعن سعد ابن أبي وقاص ﵁ قال ﷺ: «إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي» (^٩).
_________
(^١) معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس، ص (٢/ ٢٦).
(^٢) لسان العرب، ابن منظور، ص (٢/ ٧٤٢).
(^٣) مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، ص ١١٩.
(^٤) أنظر لسان العرب ص (٢/ ٧٤٢ - ٧٤٦)، وروضة المحبين ونزهة المشتاقين، ابن القيم، ص ١٧ - ١٨.
(^٥) تفسير أبي السعود، ص (١/ ٢٩٥)، عند تفسير قوله تعالى ﴿لا يحب الله الجهر بالسوء﴾ [النساء: ١٤٨].
(^٦) المصدر السابق، ص (١/ ٤٦٤).
(^٧) الصفات الاختيارية: هي التي " يتصف بها الرب ﷿ فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته: مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه، ومثل خلقه وإحسانه، وعدله ومثل استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز، والسنة" مجموع الفتاوى (٦/ ٢١٧).
(^٨) انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين ص (١/ ١٣٢)، شرح العقيدة الواسطية لمحمد الهراس ص ٥٣، والكواشف الجلية عن معاني الواسطية لعبد العزيز السلمان ص ١٧٤.
(^٩) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقاق ص (٨/ ٢١٤).
1 / 5
الفصل الأول: مذهب أهل السنة والجماعة في صفة المحبة لله ﷿
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في توضيح عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات: (فالأصل في الباب أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيًا وإثباتًا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه.
وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها، إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه - مع ما أثبته من الصفات - من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته ...
فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا بلا تعطيل، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] ففي قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ رد للإلحاد والتعطيل) (^١).
وقال أيضًا: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله محمد ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه، لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفو له ولا ند له ولا يقاس بخلقه ﷾، فإنه ﷾ أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه ...
- ثم ذكر ﵀ بعض الآيات التي تدل على الصفات، ومنها الآيات التي تدل على صفة المحبة لله ﷿ فقال: -
وقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ٩٥]، ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)﴾ [الحجرات: ٢٢]، ﴿دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ [المائدة: ٥٤]، ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤)﴾ [البروج: ١٤]، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] وغيرها من الآيات (^٢).
_________
(^١) التدمرية، ابن تيمية، ص ٧.مجموع الفتاوى لابن تيمية، ص (٤/ ٢).
(^٢) العقيدة الواسطية، لابن تيمية، ضمن مجموع الفتاوى ص (٣/ ١٢٩ - ١٣٠، ١٣٢)، انظر التوحيد لابن مندة، ص (٣/ ٢٠٤ - ٢٣٨).
1 / 6
(والشاهد من هذه الآيات الكريمة: أن فيها إثبات المحبة والمودة لله سبحانه وأنه يُحِب ويُوِد بعض الأشخاص والأعمال والأخلاق ...
وفيها إثبات المحبة من الجانبين جانب العبد وجانب الرب ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾، وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، ففي ذلك الرد على من نفى المحبة من الجانبين كالجهمية (^١) والمعتزلة (^٢)، فقالوا: لا يُحِب ولا يُحَب، وأولوا محبة العباد له بمعنى محبتهم عبادته وطاعته، ومحبته للعباد بمعنى إحسانه إليهم وإثابتهم ونحو ذلك، وهذا تأويل باطل؛ لأن مودته ومحبته ﷾ لعباده على حقيقتها كما يليق بجلاله كسائر صفاته، ليستا كمودة ومحبة المخلوق) (^٣).
وقد جاء في السنة أحاديث كثيرة في إثبات صفة المحبة لله ﷿ منها حديث سهل بن سعد ﵁: أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» الحديث (^٤).
فالكتاب والسنة وإجماع المسلمين: أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين، ومحبتهم له ... وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعبادة المؤمنين ومحبتهم له (^٥).
قال ابن القيم (^٦) ﵀:
وله الإرادة والكراهة والرضى وله المحبة وهو ذو الإحسان (^٧)
_________
(^١) الجهمية: أصحاب الجهم بن صفوان، وهو من الجبرية الخالصة ظهرت بدعته بترمذ، وقتله مسلم بن أحوز بمرو في آخر ملك بني أمية، وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط. انظر: الملل والنحل للشهرستاني، ص ٣٦، والفرق بين الفرق للبغدادي، ص ١٩٤.
(^٢) المعتزلة: هم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وسموا بذلك لما اعتزلوا مجلس الحسن البصري ﵀، وأصول اعتقادهم خمس، العدل، والتوحيد، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر: الفرق بين الفرق ص ١١٢، الملل والنحل ص ٢١.
(^٣) شرح العقيدة الواسطية، صالح الفوزان، ص ٤٥.
(^٤) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر ص (٥/ ٧٦).
(^٥) مجموع الفتاوى ص (٢/ ٣٥٤).
(^٦) هو محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي بل المجتهد المطلق، المفسر النحوي الأصولي، الملقب بشمس الدين، والمعروف بابن قيم الجوزية، والجوزية مدرسة كان أبوه قيمًا عليها، ولد سنة ٦٩١ هـ، وتوفي سنة ٧٥١ هـ. أنظر البداية والنهاية لابن كثير (١٤/ ٢٤٦)، شذرات الذهب (٦/ ١٦٨).
(^٧) نونية ابن القيم ص ٣٧.
1 / 7
(وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشايخ الدين المتبعون، وأئمة التصوف أن الله ﷾ محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥]، وكذلك هو سبحانه يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية) (^١).
فمذهب السلف رضوان الله عليهم: هو أن يُوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتمثيل والتكييف والتعطيل، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله (^٢).
و(لما سئل الإمام مالك بن أنس (^٣) - رحمه الله تعالى - فقيل له: يا أبا عبد الله، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)﴾ [الأعراف: ٥] كيف استوى؟ فأطرق مالك وعلاه الرحضاء - يعني العرق -، وانتظر القوم ما يجيء منه فيه، فرفع رأسه إلى السائل وقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء). وأمر به فأخرج (^٤).
وهذا الجواب من مالك ﵀ في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات، مثل النزول والمجيْ، واليد والوجه، وغيرها.
وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة) (^٥).
_________
(^١) مجموع الفتاوى (١٠/ ٦٦).
(^٢) مجموع الفتاوى، ص (٦/ ٥١٥).
(^٣) هو مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، أبو عبد الله، أمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، وإليه تنسب المالكية، توفي سنة ١٧٩ هـ. انظر شذرات الذهب (١/ ٢٨٩)، الأعلام (٥/ ٢٥٧)، صفة الصفوة لابن الجوزي ص (٢/ ٥٠٣).
(^٤) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ص ٣٨٩، وصحح اسناده الذهبي في العلو ص ١٤١.
(^٥) مجموع الفتاوى، ص (٤/ ٤).
1 / 8
الفصل الثاني: مذهب المعطلة في صفة المحبة لله ﷿
قال شيخ الإسلام ﵀: (للناس في هذا الأصل العظيم - يعني محبة الله - ثلاثة أقوال:
أحدها: إن الله يُحِب ويُحَب كما قال تعالى: ﴿دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ [المائدة: ٥٤]، فهو المستحق أن يكون له كمال المحبة دون ما سواه، وهو سبحانه يحب ما أمر به ويحب عباده المؤمنين، وهذا قول سلف الأمة وأئمتها، وهذا قول أئمة شيوخ المعرفة، والقول الثاني: أنه يستحق أن يُحَب لكنه لا يُحِب إلا بمعنى يريد، وهذا قول كثير من المتكلمين ومن وافقهم من الصوفية (^١)، والثالث: أنه لا يُحِب ولا يُحِب، وإنما محبة العباد له إرادتهم طاعته، وهذا قول الجهمية ومن وافقهم من متأخري أهل الكلام والرازي (^٢) (^٣).
وقال في موضع آخر: (فالقسمة في المحبة رباعية، فالسلف وأهل المعرفة أثبتوا النوعين، قالوا: إنه يُحِب ويُحَب والجهمية والمعتزلة تنكر الأمرين، ومن الناس من قال إنه يُحِبه المؤمنون، وأما هو فلا يُحِب شيئًا دون شيء، ومنهم من عكس فقال: بل هو يُحِب المؤمنين مع أن ذاته لا يُحَب) (^٤).
فخالف المعطلة أهل السنة في إثبات صفة المحبة لله ﷿ (لكن لما كان الإسلام ظاهرًا والقرآن متلوًا لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام، اخذوا يلحدون في أسماء الله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه، وهذا جهل عظيم) (^٥).
_________
(^١) الصوفية: نسبة إلى لبس الصوف، لاشتهارهم به أول الأمر زهدًا وتقشفًا وأول ما ظهرت الصوفية من البصرة ثم تطورت منذ بدايتها وانتسب لها كثير من العلماء، وكتبوا في هذا العلم، ولا تخلو كتبهم من شطحات. انظر: مجموع الفتاوى (١١/ ٦ - ١٨)، مصرع التصوف عبد الرحمن الوكيل.
(^٢) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، يلقب بفخر الدين الرازي، ويعرف بابن الخطيب، أشعري المعتقد، تأثر بابن سينا وأشباهه من الفلاسفة، ولد سنة ٥٤٤ هـ، وتوفي سنة ٦٠٦ هـ انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي ٢١/ ٥٠٠، الأعلام للزركلي (٦/ ٣١٣).
(^٣) شرح العقيدة الأصفهانية ٢٧، النبوات ص ١٦٢.
(^٤) النبوات ص ١٣٠.
(^٥) الفتاوى ص ١٠/ ٦٩ - ٧٠.
1 / 9
فطائفة -الجهمية والمعتزلة - (أنكرت حقيقة المحبة من الجانبين، زعمًا منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المُحِب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة) (^١).
فهو (عندهم لا يُحِب ولا يُحب، ولم يمكنهم تكذيب النصوص فأولوا نصوص محبة العباد له على محبة طاعته وعبادته، والازدياد من الأعمال لينالوا بها الثواب.
وأولوا نصوص محبته لهم بإحسانه إليهم، وإعطائهم الثواب وربما أولوها بثنائه عليهم ومدحه لهم، ونحو ذلك وربما أولوها بإرادته لذلك) (^٢).
وقالوا: (ليس لله حياة قائمة به، ولا علم قائم به، ولا قدرة قائمة به، ولا كلام قائم به، ولا حب ولا بغض، ولا غضب، ولا رضى بل جميع ذلك مخلوق من مخلوقاته) (^٣).
وطائفة - كالأشاعرة (^٤) - فسرت محبة الله للعبد بلازمها من إرادة الإنعام عليهم والغفران لهم والرضا عنهم، وفسرت محبة العبد لله: بطاعة العبد لله واتباع أمره.
قال الأزهري (^٥): (محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)﴾ [آل عمران: ٣٢] أي لا يغفر لهم) (^٦).
وقال الأشعري (^٧): (وأجمعوا على أنه ﷿ يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم، وأنه يحب التوابين، ويسخط عل الكافرين ويغضب عليهم، وأن غضبه إرادته لعذابهم، وأنه لا يقوم لغضبه شيء) (^٨).
_________
(^١) مجموع الفتاوى ص (١٠/ ٦٦)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (٢/ ٣٩٤).
(^٢) مدارج السالكين، لابن القيم ص (٣/ ١٨).
(^٣) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (١/ ٢٤٤).
(^٤) الأشاعرة: أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ويثبتون لله سبع صفات، ويقولون بتقديم العقل على النقل عند التعارض، ويؤولون آيات الصفات، ولا يحتجون بأحاديث الآحاد في العقيدة، الملل والنحل ص ٤٠، وانظر للفائدة: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود.
(^٥) هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، اللغوي النحوي الشافعي صاحب تهذيب اللغة وغيره من المصنفات، ولد سنة ٢٨٢ هـ، وتوفي سنة ٣٧٠ هـ. أنظر شذرات الذهب لابن العماد (٣/ ٧٢).
(^٦) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٤/ ٦٥)، فتح القدير للشوكاني، ص (١/ ٣٣٣).
(^٧) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري اليماني البصري، إمام المتكلمين، ولد سنة ٢٦٠ هـ، ومات ببغداد سنة ٣٢٤ هـ. انظر سير أعلام النبلاء (١٥/ ٨٨).
(^٨) رسالة إلى أهل الثغر ص ٧١.
1 / 10
وقال الرازي في تفسيره: (اعلم أنه لا نزاع بين الأمة في إطلاق هذه اللفظة، وهي أن العبد قد يُحِب الله تعالى، والقران ناطق به، كما في هذه الآية - ﴿آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥]-، وكما في قوله تعالى: ﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ [المائدة: ٥٤]، ...
وأعلم أن الأمة وإن اتفقوا في إطلاق هذه اللفظة، لكنهم اختلفوا في معناها، فقال جمهور المتكلمين: إن المحبة نوع من الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته، فإذا قلنا: نُحِب الله، فمعناه نُحِب طاعة الله وخدمته، أو نُحِب ثوابه وإحسانه) (^١).
والذين أنكروا محبة الله ﷿ لهم في ذلك شبه منها:
قالوا: إن (المحبة تقتضي المناسبة، قالوا: وهي منتفية فلا مناسبة بين المحدث والقديم، فيقال لهم: هذا كلام مجمل تعنون بالمناسبة الولادة أو المماثلة، أو نحو ذلك مما يجب تنزيه الرب عنه، فإن الشيء ينسب إلى أصله بأنه ابن فلان وإلى فرعه بأنه أبو فلان، وإلى نظيره بأنه مثل فلان، ولما سأل المشركون النبي ﷺ عن نسب ربه أنزل الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)﴾ [الإخلاص: ١ - ٤] (^٢)، فلم يخرج من شيء ولا يخرج منه شيء، ولا له مثل، فإن عنيتم هذا لم نسلم أن المحبة لا بد فيها من هذا.
وإن أردتم بالمناسبة أن يكون المحبوب متصفًا بمعنى يحبه المُحِب، فهذا لازم المحبة والرب متصف بكل صفة تُحَب، وكل ما يُحَب فإنما هو منه فهو أحق بالمحبة من كل محبوب (^٣)
_________
(^١) التفسير الكبير للرازي، (٤/ ١٧٥ - ١٧٦)، وانظر تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، ص (٦/ ٥)، (٦/ ٢٣٦)، وتفسير أبي السعود، ص (١/ ٢٩٥).
(^٢) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب سورة الإخلاص، ص (٩/ ٨٦)، وهو في ضعيف الترمذي للألباني، ص ٤٣٩، رقم ٦٦٦، ٦٦٧.
(^٣) النبوات ص ١٢٦.
1 / 11
في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانًا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء أن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» (^١).
عن ابن عباس ﵄ ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦)﴾ [مريم: ٩٦] قال: يحبهم ويحبونه (^٢) (^٣).
وقد دل الحديث الذي في الصحيحين على أن ما يجعله من المحبة في قلوب الناس هو بعد أن يكون هو قد أحبه وأمر جبريل أن ينادي بأن الله يحبه، فنادى جبريل في السماء أن الله يحب فلانًا فأحبوه (^٤).
فإن قيل: المحبة والرضا يقتضيان ملاءمة ومناسبة بين المُحِب والمحبوب، ويوجب للمُحِب بدَرَك محبوبه فرحًا ولذةً وسرورًا ...
والملاءمة والمنافرة تقتضي الحاجة، إذ ما لا يحتاج الحي إليه لا يحبه، وما لا يضره كيف يبغضه، والله غني لا تجوز عليه الحاجة، إذ لو جازت عليه للزم حدوثه وإمكانه وهو غني عن العالمين، وقد قال تعالى - في الحديث القدسي -: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» (^٥)، فلهذا فسرت المحبة والرضا بالإرادة إذ يفعل النفع والضر.
فنقول: جمهور أهل السنة على أن (المحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة) (^٦). ويجاب على قولكم من وجهين:
أحدهما: الإلزام وهو أن نقول: الإرادة لا تكون إلا للمناسبة بين المريد والمراد، وملاءمته في ذلك تقتضي الحاجة، وإلا فما لا يحتاج إليه الحي لا ينتفع به ولا يريده، ولذلك إذا أراد به العقوبة والإضرار لا يكون إلا لنفرة وبغض، وإلا فما لم يتألم به الحي أصلًا لا يكرهه، ولا يدفعه، وكذلك نفس نفع الغير وضرره هو في الحي متنافر من الحاجة، فإن الواحد منا إنما يحسن إلى غيره لجلب منفعة، أو دفع مضرة، وإنما يضر غيره لجلب منفعة، أو دفع مضرة.
فإذا كان الذي يثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه، لم يكن إثبات إحداهما ونفي الأخرى أولى من العكس، ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة، وأثبت ما نفاه من
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم ص (٤/ ٧٩)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه لعباده، ص (٨/ ٤٠).
(^٢) زاد المسير لابن الجوزي، ص (٥/ ٢٦٦).
(^٣) النبوات ص ١٢٧.
(^٤) المصدر السابق ص ١٣١، مجموع الفتاوى ص (١٠/ ٧٤ - ٧٥).
(^٥) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ص (٨/ ١٦).
(^٦) مجموع الفتاوى ص (١١/ ٣٥٥).
1 / 12
المحبة لما ذكره لم يكن بينهما فرق، وحينئذ فالواجب إما نفي الجميع، ولا سبيل إليه للعلم الضروري، بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم، وأن ذلك يستلزم الإرادة وإما إثبات الجميع كما جاءت به النصوص، وحينئذ فمن توهم أنه يلزم من ذلك محذور، فأحد الأمرين لازم، إما أن ذلك المحذور لا يلزم أو أنه لزم فليس بمحذور.
الجواب الثاني: أن الذي يعلم قطعًا هو أن الله قديم واجب الوجود كامل، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا الإمكان ولا النقص، لكن كون هذه الأمور التي جاءت بها النصوص مستلزمة للحدوث والإمكان أو النقص هو موضع النظر، فإن الله غني واجب بنفسه وقد عرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه ولا إمكانه ولا حاجته، وأن قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة، بمنزلة قوله مفتقر إلى ذاته ومعلوم أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه، فتوهم حاجة نفسه إلى نفسه، إن عنى به أن ذاته لا تقوم إلا بذاته فهذا حق، فإن الله غني عن العالمين وعن خلقه، وهو غني بنفسه (^١).
وأيضًا يقال لهم: (إن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه.
فإن قال قائل: تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط، ولو فسر ذلك بمفعولاته - وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب - فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فر منه، فإن الفعل المعقول لا بد أن يقوم أولًا بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول المشاهد للعبد مثلوا، وإن أثبتوه خلاف ذلك، فكذلك سائر الصفات) (^٢).
(فإن قيل: إنما نفينا الرحمة والمحبة والرضا والغضب ونحو ذلك من الصفات لأنه لا يعقل لها حقيقة تليق بالخالق إلا الإرادة، فالمحبة والرضا إرادة الإحسان، والغضب إرادة العقاب منه، فالفرق بينهما بحسب تعلقاتها لأن هذه في نفسها ليست عده. قيل هذا باطل فإن نصوص الكتاب والسنة والإجماع
_________
(^١) المصدر السابق ص (١١/ ٣٥٧ - ٣٥٨).
(^٢) التدمرية، ص ٤٦.
1 / 13
مع الأدلة العقلية تبين الفرق، فإن الله ﷾ يقول: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧]، وقال تعالى: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء: ١٠٨]، فبين أنه لا يرضى هذه المحرمات، مع أن كل شيء كائن بسبه، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥)﴾ [البقرة: ٢٠٥].
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة قبل حدوث أقوال النفاة من الجهمية ونحوهم، أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وأنه يرضى هذا ولا يرضى هذا، والجميع بمشيئته وقدرته) (^١).
ويقال لهم أيضًا: (إن محبة المُتقرِب إلى المُتقرَب إليه تابع لمحبته وفرع عليه، فمن لا يُحِب الشيء لا يمكن أن يُحِب التقرب إليه، إذ التقرب وسيلة، ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود، فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود بالوسيلة.
وكذلك العبادة والطاعة إذ قيل في المطاع المعبود: أن هذا يُحِب طاعته وعبادته، فإن محبته ذلك تبع لمحبته، وإلا فمن فَمن لَا يُحِبهُ لا يُحِب طاعته وعبادته، ومن كان لا يعمل لغيره إلا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاوضًا له أو مفتديًا منه لا يكون محبًا له، ولا يقال أن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته، فإن محبة المقصود وإن استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة، فإن ذلك يقتضي أن يعبر بلفظين محبة العوض والسلامة عن محبة العمل، أما محبة الله فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض، ألا ترى أن من استأجر أجيرًا بعوض لا يقال أن الأجير يحبه بمجرد ذلك، بل قد يستأجر الرجل من لا يحبه بحال بل من يبغضه، وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب، لا يقال أنه يحبه، بل يكون مبغضًا له. فعلم أن ما وصف الله به عباده المؤمنين، من أنهم يحبونه يمتنع أن لا يكون معناه إلا مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الأغراض المخلوقة، من غير أن يكون ربهم محبوبًا أصلًا (^٢).
ويقال لهم أيضًا: إن الله ﷿ قد فرق بين محبته ومحبة العمل له في قوله تعالى: ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾ [التوبة: ٢٤]، كما فرق بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى: ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، فلو كان المراد بمحبته ليس إلا محبة
_________
(^١) شرح العقيدة الأصفهانية ص ٢٩.
(^٢) مجموع الفتاوى ص (١٠/ ٦٩ - ٧٠).
1 / 14
العمل لكان هذا تكريرًا، أو من باب عطف الخاص على العام، وكلاهما على خلاف ظاهر الكلام، الذي لا يجوز المصير إليه إلا بدلالة تبين المراد، وكما أن محبته لا يجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله، فكذلك لا يجوز تفسيرها بمجرد محبة العمل له، وإن كانت محبته تستلزم محبة رسوله، ومحبة العمل له.
وأيضًا فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته لا عن محبة نفسه أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازًا، فحمل الكلام عليه تحريف محض أيضًا (^١).
ويقال لهم أيضًا: (إن أردتم أن ذلك يقتضي حاجته إلى العباد وأنهم يضرونه أو ينفعونه، فهذا ليس بلازم، ولهذا كان الله منزهًا عن ذلك ...
فالله أجل من أن يحتاج إلى عباده لينفعوه أو يخاف منهم أن يضروه، وإذا كان المخلوق العزيز لا يتمكن غيره من قهره، فمن له العزة جميعًا، وكل عزة فمن عزته أبعد من ذلك، وكذلك الحكيم المخلوق إذا كان لا يفعل بنفسه ما يضرها، فالخالق ﷻ أولى أن لا يفعل ذلك لو كان ممكنًا فكيف إذا كان ممتنعًا) (^٢).
ويقال لهم: إن (كنتم نفيتم حقيقة الحب والرضى لأن ذلك يستلزم اللذة بحصول المحبوب، قيل لكم: إن كان هذا لازمًا فلازم الحق حق، وإن لم يكن لازمًا بطل نفيكم، والفرح في الإنسان هو لذة تحصل في قلبه بحصول محبوبه) (^٣).
ويقال لمن نفى ذلك - يعني المحبة والفرح والحكمة ونحو ذلك -: لم نفيته ولم نفيت هذا المعنى وهو وصف كمال لا نقص فيه؟ ومن يتصف به أكمل ممن لا يتصف به؟ وإنما النقص فيه أن يحتاج فيه إلى غيره والله تعالى لا يحتاج إلى أحد في شيء بل هو فعال لما يريد (^٤).
فإن قال نافي المحبة والفرح والحكمة ونحو ذلك: هذا يستلزم حاجته إلى المخلوق ظهر فساد قوله.
_________
(^١) المصدر السابق ص (١٠/ ٧١ - ٧٢).
(^٢) النبوات ص ١٦٠.
(^٣) المصدر السابق ص ١٦٢ - ١٦٣.
(^٤) المصدر السابق ص ١٦٣.
1 / 15
وإن قال: (إن كان وصف كمال فقد كان فاقدًا له، وإن كان نقصًا فهو منزه عن النقص، قيل له: هو كمال حين اقتضت الحكمة حدوثه، وحدوثه قبل ذلك قد يكون نقصًا في الحكمة أو يكون ممتنعًا غير ممكن كما يقال في نظائر ذلك (^١).
(فإن قال - أي الأشاعرة-: تلك الصفات أثبتها بالعقل، لان الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك.
فلا ريب أن ما أثبته هؤلاء الصفاتية من صفات الله ثابت بالشرع مع العقل، وهو متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها، وإنما خصوا هذه الصفات بالذكر دون غيرها لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم) (^٢).
فيقال لكم جوابان:
أحدهما: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم من المعارض المقاوم.
الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: ... وإكرام الطائعين دليل على محبتهم) (^٣).
فإن قال - أي المعتزلة-: أنا لا أثبت شيئًا من الصفات، قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى: مثل حي، عليم، قدير، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلًا لما يثبت للعبد، فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه.
وقيل له أيضًا: (لا فرق بين إثبات الأسماء وبين إثبات الصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيها وتجسيما، لأنا لا نجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم قيل
_________
(^١) المصدر السابق ص ١٦٣ - ١٦٤.
(^٢) شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص ٢٤.
(^٣) التدمرية ص ٣٣.
1 / 16
لك: ولا تجد في الشاهد ما هو مسمى بأنه حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا لجسم فانف الأسماء، بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا لجسم) (^١).
ويقال له: قد سمى الله ورسوله صفات الله علمًا وقدرةً وقوةً، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾ [الروم: ٥٤]، ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا﴾ [يوسف: ٦٨]، ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثير، وهذا لازم لجميع العقلاء، فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضا، والغضب، والمحبة، والبغض، ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبية والتجسيم، قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما.
فإن قال - أي الجهمية-: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة.
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلًا له.
فإن قال-غلاة الجهمية والفلاسفة-: أنا لا أثبت شيئًا، بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه.
وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك.
وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجبًا بنفسه، ولا قديما أزليًا، ولا خالقًا لما سواه، ولا غنيًا عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم والآخر حادث، أحدهما غني والآخر فقير، أحدهما خالق والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئًا موجودًا ثابتًا ومن المعلوم أيضًا أن أحدهما ليس مماثلًا للآخر في حقيقته) (^٢).
_________
(^١) التدمرية، ص ٣١ - ٣٢.
(^٢) شرح العقيدة الطحاوية ص (١/ ٦١ - ٦٢)، التدمرية، ص ٣١ - ٣٣، ١١٩، شرح العقيدة الأصفهانية ص ٢٥ - ٢٦.
1 / 17
(وإن كان المخاطب من الغلاة، نفاة الأسماء والصفات، وقال: (لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير.
قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيها بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات) (^١).
وأما قولهم بأن ذلك مجازًا: (فالمجاز لا يطلق إلا بقرينة تبين المراد، ومعلوم أن ليس في كتاب الله وسنة رسوله ما ينفي أن يكون الله محبوبًا، وأن لا يكون المحبوب إلا الأعمال لا في الدلالة المتصلة ولا المنفصلة بل ولا في العقل أيضًا، وأيضًا فمن علامات المجاز صحة إطلاق القول بأن الله لا يُحِب ولا يُحَب، ... ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين، فعلم دلالة الإجماع على أن هذا ليس مجازًا بل هي حقيقة) (^٢).
فإن قال النفاة: لو قلنا: إن الصفات تقوم به، للزم أن يكون جسمًا، والأجسام حادثة، لأنها لم تسبق الحوادث، ولا تخلو عنها، وما لا يسبق الحوادث، ولا يخلو عنها فهو حادث (^٣).
فيقال: (إن الله ﷾ لم يزل متصفًا بصفات الكمال: صفات الذات وصفات الأفعال، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفًا بها، لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفًا بضده) (^٤).
(وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال، فإن أريد أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلالته وعظمته، فهذا نفي باطل) (^٥).
_________
(^١) التدمرية، ص ٣٦.
(^٢) مجموع الفتاوى (١٠/ ٧١).
(^٣) منهاج السنة النبوية (٣/ ٣٦١)، انظر مجموع الفتاوى ص (٦/ ٣٤).
(^٤) شرح العقيدة الطحاوية ص (١/ ٩٦).
(^٥) المصدر السابق ص (١/ ٩٧).
1 / 18
قال شيخ الإسلام ﵀: (وبكل حال فمجرد هذا الاصطلاح، وتسمية هذه أعراضًا وحوادث: لا يخرجها عن أنها من الكمال الذي يكون المتصف به أكمل ممن لا يمكنه الاتصاف بها، أو يمكنه ذلك ولا يتصف به) (^١).
قالوا: (لو قامت الحوادث بالله تعالى، للزم تغيره والتغير على الله محال، ويقصدون بالحوادث أفعال الرب ﵎ الاختيارية، فعندهم: لو قام فعل حادث بذات الله، لاتصف به، كما اتصف بالحياة والقدرة والعلم والمشيئة ولو اتصف بها لتغير بها، والتغير عليه ممتنع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: (لفظ التغير لفظ مجمل فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، بل إن لفظ التغير في كلام الناس المعروف يتضمن استحالة الشيء، والناس إنما يقولون تغير: لمن استحال من صفة إلى صفة، فالإنسان مثلا: إذا مرض، وتغير في مرضه، كأن اصفر لونه، أو شحب، أو نحل جسمه: يقال: غيره المرض، وكذا إذا تغير جسمه بجوع أو تعب، قيل قد تغير، وكذا إذا غير لون شعر رأسه ولحيته، يقول قد غير ذلك، وكذا إذا تغير خلقه ودينه؟ مثل أن يكون فاجرا فيتوب، ويصير برا أو يكون برا، فينقلب فاجرا فهذا يقال عنه: إنه قد تغير.
فالمقصود أن مثل هذه الأمور يقال لها تغير أما ما يقوم بالإنسان من أفعال: كتكلمه، ومشيه، وقيامه، وقعوده، وطوافه، وصلاته، وركوبه، وأمره، ونهيه، فلا يقال إن هذا تغير.
فالناس لا يقولون للإنسان إذا كانت عادته أن يقرأ القران ويصلي الخمس أنه كلما قرأ وصلى قد تغير، وإنما يقولون ذلك لمن لم تكن عادته هذه الأفعال، فإذا تغيرت صفته وعادته: قيل: إنه قد تغير.
وكذلك الناس لا يقولون للشمس والكواكب إذا كانت جارية في السماء، ذاهبة من المشرق إلى المغرب أنها متغيرة. ولا يقولون للماء إذا جرى مع بقاء صفائه أنه قد تغير، ولا للفاكهة أو الطعام عند الإطلاق، أو عند تحويلها من مكان إلى مكان أنه تغير) (^٢).
فالحركة المكانية: هذه لا تسمى تغيرا، بل تسمى تحركا.
والمقصود مما تقدم أن لفظ التغير من الألفاظ المجملة فقد يراد به في بعض المواضع: الاستحالة وقد يراد به الحركة الكيفية أو الكمية، لا الحركة المكانية (^٣)، وإذا نزه الله تعالى عن التغير؟ فالمراد تنزيهه عما ينافي كماله جل وعلا؟ كانقلاب صفة الكمال إلى صفة نقص، أو نحو ذلك.
_________
(^١) مجموع الفتاوى ص (٦/ ٩١).
(^٢) مجموع الفتاوى ص (٦/ ٢٤٩ - ٢٥٠).
(^٣) المصدر السابق ص (٦/ ٢٨٦).
1 / 19
أما أفعال الله جلا وعلا: ككونه يتصرف بقدرته، فيخلق، ويرزق، ويستوي، وينزل، ويفعل ما يشاء بنفسه، ويتكلم إذا شاء، ونحو ذلك فهذا لا أحد يسميه تغيرا فهو تبارك وتقدس لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام، وكماله من لوازم ذاته، فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصا بعد كماله (^١)، وهذا الأصل عليه يدل قول السلف وأهل السنة: إنه لم يزل متكلما إذا شاء، ولم يزل قادرا، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، ولا يزال كذلك، فلا يكون متغيرا (^٢).
فليس المراد بقيام الأفعال في ذات الله تعالى تغيره واستحالته، وإنما المراد فعل ذلك بمشيئته وإرادته، وليس هذا تغيرا.
ومعلوم أن من كان قادرا على أن يفعل بمشيئته وقدرته ما شاء، كان أكمل ممن لا يقدر على فعل يختاره، يفعل به المخلوقات، ولا كلام يتكلم به بمشيئته، ولا يرضى على من أطاعه، ولا يغضب على من عصاه (^٣).
_________
(^١) المصدر السابق ص (٦/ ٢٥٠ - ٢٥١).
(^٢) المصدر السابق ص (٦/ ٢٥١).
(^٣) درء تعارض العقل والنقل ص (١٠/ ٧٧)، وانظر مجموع الفتاوى ص (٦/ ٢٤٢).
1 / 20