الواقع كانت طريقة التعليم في اليونان، كما ذكرنا، تتم بين المعلم وتلاميذه؛ إما في رواق، وإما على ممشى بين الأشجار؛ أي في حديقة. فالأكاديمية - وهي التي سماها العرب أقاذيميا - كانت في الأصل حديقة سميت باسم البطل أكاديموس. وكان كبار السفسطائيين الذين علموا في بيوت أشراف أثينا يلقون دروسهم وهم يمشون في الرواق. ذلك أن القصور كانت تبنى بحيث يفسح فيها مكان لأروقة تقام على أعمدة تلقي ظلا يخفف من حرارة الجو. ولكن بعض المدارس اشتهرت تاريخيا بنسبتها إلى خاصية معينة؛ مثل مدرسة المشائين، وحديقة إبيقور، ورواق الرواقية.
والرواقية مذهب تغير على مر الزمن؛ فهي على يد مؤسسها زينون خلافها على يد أبكتيتوس أو مرقص أوريليوس مثلا. ولكنها على الرغم من تطورها، وعلى الرغم من هجرها لاتجاهات مادية أو طبيعية، فقد بقي لها طابع عام لا يزال حتى اليوم يميزها عن أي مدرسة فلسفية أخرى. والرواقي صفة تطلق - وبخاصة في اللغات الأوروبية - على الشخص الذي يمتاز بثلاثة أمور كلها أخلاقية؛ هي التحرر من الأهواء، وعدم الخضوع للأفراح والأحزان، والاستسلام لقانون القضاء. فإذا تيسر لأحد أن يملك زمام نفسه على هذا النحو؛ فهو الحكيم الرواقي. ويمكن القول بعبارة أخرى، إن الحكيم الرواقي هو الذي يصبر على أحداث الزمان، ويرضى بما يجري عليه ولا حيلة له فيه من العطاء أو الحرمان، وهذا شيء ليس من اليسير أن يتقبله كل إنسان.
والرواقية مدرسة عجيبة ظهرت في بلاد اليونان، ولكن مؤسسها غير يوناني، وجمعت بين السيد والعبد على صعيد واحد، ولم تميز بين شرقي ولا غربي، ولم تستقر في مكان واحد أو داخل جدران مدرسة واحدة، ومع ذلك انتشرت تعاليمها، ولا تزال سارية حتى الآن. وتطورت آراؤها على مر العصور، ولكنها احتفظت بطابع أخلاقي يميزها عما عداها.
استمرت رسميا خمسة قرون، من الثالث قبل الميلاد، إلى الثاني بعد الميلاد. أول ممثليها زينون، وآخرهم مرقص أوريليوس المتوفى 180ب.م. وتقسم المدرسة عادة إلى قديمة ووسطى وحديثة؛ فالقديمة في أثينا، ويمثلها زينون وكليانتس وكريسبوس. ووسطى يمثلها بناثيوس وبوزيدونيوس، وحديثة في روما يمثلها سينيكا وأبيكتيتوس ومرقص أوريليوس. ثم تسربت آراؤها إلى المسيحية واستمرت في التراث الغربي حتى الوقت الحاضر. وقد كان لها أثر كبير على الحكام والملوك الذين اعتنقوا هذه الفلسفة، حتى قيل إن معظم الملوك بعد الإسكندر المقدوني كانوا من أتباع الرواقية.
وتقوم الرواقية على مبدأين أساسيين مع التوفيق بينهما؛ وهما الحتمية الكونية والحرية الإنسانية . والأول منهما خاص بالطبيعة، والثاني بالإنسان؛ ذلك أن حوادث الكون محكومة بقوانين صارمة، وليس ثمة في نظر الرواقيين صدفة أو اتفاق. وعندهم أن كل شيء في هذا العالم مسوق نحو غاية ومدبر لخدمة الإنسان، وهذه هي نظرية العناية الإلهية. وعلى الإنسان أن يسعى بإرادته، ومحض حريته واختياره إلى أن يتوافق مع القوانين العامة للطبيعة. فالفضيلة إذن تقوم في حرية الإرادة الموافقة للطبيعة. وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن يكون الحكيم الرواقي سيد نفسه، لا يهمه فقر أو غنى، ولا تصده أي قوة خارجية عن الفضيلة.
ولما كانت آراء هذه المدرسة غير منفصلة عن حياة أصحابها، فلنشرع في الحديث عن أبرزهم، مبتدئين بمؤسسها.
ذكرنا أن زينون الرواقي - وهو خلاف زينون الإيلي تلميذ بارمنيدس - من أصل فينيقي. ولد في قبرص بمدينة أكتيوم، وازدهر في أوائل القرن الثالث من قبل الميلاد. وكان أبوه تاجرا، فاشتغل زينون في صباه بالتجارة، وركب البحر متجها إلى بلاد اليونان يبيع شحنة من الأرجوان، غير أن السفينة تحطمت، فذهب إلى أثينا، وأخذ يدرس الفلسفة. ويحكى في سبب ذلك أنه اختلف إلى دكان وراق (أي صاحب مكتبة)، وقرأ عنده مذكرات زينوفون التي روى فيها أحاديث سقراط، فأعجب بالمحاورات إعجابا شديدا وسأل أين يمكن أن يجد شخصا مثل سقراط. ولقد ظلت شخصية سقراط المثل الأعلى للرواقية في شتى عصورها؛ إذ أعجب الرواقيون بموقفه في المحاكمة، ورفضه الهرب من السجن، وهدوئه في مواجهة الموت، وعلى الجملة سيرته الأخلاقية الفاضلة. كما أعجب الرواقيون كذلك ببساطة سقراط في الطعام والشراب والملبس، وعدم مبالاته بالحر أو البرد، وعزوفه عن الرفاهية والترف؛ من أجل ذلك اقترنت الرواقية بالزهد والأخلاق الفاضلة.
عاش زينون حتى بلغ التسعين، وظفر بشهرة واسعة، وكان له تلاميذ كثيرون في المدرسة التي خلفه على رئاستها كليانتس. اشتهر بأمرين؛ الأول: التمسك بأن الأرض مركز الكون؛ ولذلك يجب الحكم على أرسطارخوس بالإعدام لإلحاده بسبب قوله إن الشمس مركز الكون لا الأرض. والثاني: قصيدته التي نظمها في تقديس زيوس.
غير أن خليفته في المدرسة وهو كريسيبوس (280-207ق.م.) هو الذي يعزى إليه تثبيت دعائم المدرسة، وتنظيم المذهب، والعناية بالمنطق ونظرية المعرفة. وكان زينون يقول إن الفلسفة بستان والمنطق سوره، والطبيعة شجره، والأخلاق ثمره؛ وبذلك جعل الأخلاق لب الفلسفة، والمباحث النظرية من طبيعة ومنطق تابعة لها. ولكن يبدو أن كريسبوس أفرد للدراسة النظرية مكانا أوسع، وبخاصة المنطق، الذي أضحى جزءا من الفلسفة، لا كما ذهب أرسطو آلة لتحصيلها فقط. ومن أقواله في الأخلاق إن الرجل الفاضل سعيد دائما، والشرير شقي أبدا، وإن النفس تبقى بعد فناء البدن إلى أن يحين الاحتراق العام.
ثم انتقلت الرواقية إلى روما غربا، مع ظهور الإمبراطورية الرومانية. وتعدل المذهب أولا على يد بناثيوس (توفي 110ق.م)، الذي أدخل في الرواقية عناصر أفلاطونية، وهجر مادية المدرسة القديمة، وكان صديقا لشيبيو. كما أثر في شيشرون صاحب الفضل في نشر الرواقية بين الرومان. وقد تعلم بوزيدونيوس من بناتيوس وخلفه. وبوزيدونيوس إغريقي من سوريا، شهد في صباه نهاية الدولة السلوقية في سوريا، ودفعه ما رآه من فوضى إلى الهجرة غربا، فذهب أولا إلى أثينا، حيث رضع لبان الرواقية في ظل الرواق. غرب إلى أقصى غرب الإمبراطورية الرومانية في شمال أفريقيا وإسبانيا وفرنسا. وقد تعلم شيشرون على بوزيدونيوس في رودس وعنه أخذ هذا المذهب. وقد اتجه وجهة رياضية موفقا بين تعاليم أفلاطون الأصلية - لا تعاليم الأكاديمية التي اصطنعت مذهب الشك - وبين الأخلاق الرواقية.
Unknown page