Macqul Wa La Macqul

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
86

Macqul Wa La Macqul

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Genres

وإنما موضع الإعجاز هو في النظم والتأليف، أي في نظم المعاني والتأليف بينها، ويتخيل الجرجاني أن معترضا يعترض على ذلك فيقول بأن هذا المبدأ يخرج ما في القرآن من استعارة ومن سائر ضروب المجاز، على اعتبار أن هذه أمور تتعلق باللفظ لا بالمعنى، فيرد الجرجاني على الاعتراض قائلا: «بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز؛ لأنها ... من مقتضيات النظم، وعنها يحدث، وبها يكون؛ لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو» (ص281).

ليس الإعجاز في مجرد ضم كلمة إلى كلمة بحيث يكون لهما جرس خاص، بل لا بد أن يكون في ضم المعنيين؛ فالضم «لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة من غير اتصال يكون بين معنييهما؛ لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضم اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: «ضحك خرج» أن يحدث من ضم «خرج» إلى «ضحك» فصاحة، وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضم الكلمة إلى الكلمة توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما» (ص282).

وليس موضع الإعجاز في القرآن هو «أن يكون قد تحفظ مما تخطئ فيه العامة، ولا بأن يكون قد استعمل الغريب؛ لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة، وبأنفس الكلم المفردة، وبما طريقه طريق الحفظ دون ما يستعان عليه بالنظر ويوصل إليه بإعمال الفكر» (ص283)، «وتأمل ما جمعه العلماء في غريب القرآن، فترى الغريب منه - إلا في القليل - إنما كان غريبا من أجل استعارة فيه» (ص284).

وليس الإعجاز في سلامة الإعراب؛ وذلك أن حكمنا بالفصاحة «لا يكون من أجل شيء يدخل في النطق، لكن من أجل لطائف تدرك بالفهم » (ص286)؛ فالتفاضل بين كلامين إنما يكون بعد أن يكونا قد برئا من اللحن، وسلما في ألفاظهما من الخطأ.

ولو كانت فصاحة اللفظة في ذاتها لا في معناها، للزم أن تكون فصيحة أينما وردت، لكنها تكون فصيحة آنا وغير فصيحة آنا، حسب موضعها حين تشترك مع غيرها في أداء معنى مقصود (ص287).

ولما كانت الفصاحة وضعا للمتكلم لا لواضع اللغة، كانت بالتالي وصفا مترتبا على المعنى الذي يؤديه المتكلم بكلامه؛ إذ إنه لم يغير من أوضاع اللغة شيئا، وإلا لما كان متكلما يتكلم ليفهم (ص288)، وهذه هي عبارة الجرجاني في ذلك: إن المتكلم «لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئا أصلا، ولا أن يحدث فيه وضعا، كيف، وهو إن فعل ذلك أفسد على نفسه، وأبطل أن يكون متكلما؛ لأنه لا يكون متكلما حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت هي عليه ...»

الحكم في فصاحة اللفظ لا يكون بحاسة السمع، بل بالعقل، وفي ذلك يقول: «لا تخلو الفصاحة من أن تكون صنعة في اللفظ محسوسة تدرك بالسمع، أو تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب، فمحال أن تكون صفة في اللفظ محسوسة؛ لأنها لو كانت كذلك لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحا، وإذا بطل أن تكون محسوسة وجب الحكم ضرورة بأنها صفة معقولة، وإذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة، فإنا لا نعرف للفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس إلا دلالته على معناه» (ص291).

لو كانت فصاحة اللفظ في سمعه، لحكمنا بوجودها عند سمعه، لكننا في الحقيقة ننتظر حتى يتم النطق بالجملة كلها ثم نحكم عليها بالفصاحة فكأننا - إذا كان المدار على السمع - نحكم بوجود الصفة بعد زوال موصوفها، وهذه هي عبارة الجرجاني في ذلك: «إن القارئ إذا قرأ قوله تعالى:

واشتعل الرأس شيبا

فإنه لا يجد الفصاحة التي يجدها، إلا بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره، فلو كانت الفصاحة صفة للفظ «اشتعل» لكان ينبغي أن يحسها القارئ فيه حال نطقه به، فمحال أن تكون للشيء صفة ثم لا يصح العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه، ومن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده، حتى إذا عدم صارت موجودة فيه؟ وهل سمع السامعون في قديم الدهر وحديثه بصفة شرط حصولها لموضوعها أن يعدم الموصوف؟» (ص292).

Unknown page