Macqul Wa La Macqul

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
79

Macqul Wa La Macqul

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Genres

يحاول ابن جني هنا أن ينظر في أنواع الكلمة، أيها أسبق من أيها؟ فهنالك الأسماء والأفعال والحروف، فهل يا ترى ظهرت هذه الأنواع الثلاثة دفعة واحدة، أو هي تعاقبت في الظهور بحسب الحاجة إلى التعبير؟ ثم إذا كانت قد ظهرت كلها معا دفعة واحدة، فهل تكون - مع ذلك - على درجة واحدة من الأولوية، أو أن منها ما هو أسبق منطقيا من الآخر؟

ويبدأ ابن جني إجابته بذكر ما قاله أستاذه، الذي لا ينقطع عن الرجوع إليه من أول الكتاب إلى آخره، وهو «أبو علي»، فيقول: «اعلم أن أبا علي - رحمه الله - كان يذهب إلى أن هذه اللغة - أعني ما سبق منها ثم لحق بها ما بعده - إنما وقع كل صدر منها في زمان واحد، وإن كان تقدم شيء منها على صاحبه، فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم، ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل، والفعل قبل الحرف، وإنما يعني القوم بقولهم: إن الاسم أسبق من الفعل، أنه أقوى في النفس، وأسبق في الاعتقاد من الفعل، لا في الزمان، فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل، ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم، وكذلك الحرف؛ وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم، وعرفوا مصاير أمورهم، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني، وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف ، فلا عليهم بأيها بدءوا: أبالاسم أو بالفعل أم بالحرف؛ لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جمع؛ إذ المعاني لا تستغني عن واحد منهن» (ج2، ص30).

فإذا أعدنا هذا الذي رواه ابن جني عن أستاذه - وذهب فيه مذهبه - بطريقة أوضح عرضا لنقاطه الرئيسية، قلنا:

لا فرق في طبيعة اللغة بين حالتها عند أول ظهورها، وحالتها في أي مرحلة لاحقة من مراحل تاريخها، فالصورة التي بدأت بها هي الصورة التي دامت عليها، اللهم إلا في اتساعها وغزارتها، أما «الكيف» فلم يتغير.

وهذه الصورة التي تتغير كيفا، هي أنها نشأت بأنواع الكلمة الثلاثة؛ الأسماء والأفعال والحروف، كلها معا.

فإذا فرضنا جدلا أن هذه الأنواع قد تلاحقت ظهورا على مجرى الزمن، فلسنا نرى - من طبائع هذه الأنواع - أيها تقدم الآخر؟ لأنها في هذا سواء، إذ ربما كان التقدم في الظهور للأسماء، وربما كان للأفعال، وربما كان للحروف، فليس بين أيدينا شاهد عقلي يحسم الأمر لواحد دون الآخر.

ومع ذلك فالشائع بين من تناولوا الموضوع بالنظر، أن الاسم أسبق من الفعل، لكن القائلين بهذا لم يقصدوا بالأسبقية أسبقية في زمن الظهور، بل هي عندهم أولوية منطقية، وأما زمان الظهور فواحد في كليهما، والمقصود بالأولوية المنطقية أن الاسم قد يستغني عن الفعل عند الاستعمال، أما الفعل فلا يستغني عن الاسم.

لو كانت هذه الأنواع الثلاثة قد تعاقبت ظهورا، ولم تتزامن في لحظة واحدة، فقد كان المعول في هذا هو «المعاني» التي طرأت بأذهانهم وأرادوا التعبير عنها، فربما وجدوا المطلوب لهذا التعبير اسما، أو فعلا، أو حرفا، فكان البدء بأيها تطلب المعنى المراد إخراجه في لفظ - ولما كانت هذه المعاني إنما تستوجب للتعبير عنها أسماء وأفعالا وحروفا في وقت معا، إذن فلا بد أن تكون الأنواع الثلاثة قد نشأت معا.

وتعليقا على هذه الوقفة العقلية الرائعة من اللغة ونشأتها، نقول: إنها - برغم ذلك - وقفة قد خلط فيها صاحبها بين ما هو «منطق» وما هو «نحو» خلطا أدى به إلى خطأ النتائج التي انتهى إليها، فأولا - تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف هو تقسيم يعرفه النحو لما بين هذه الأقسام من اختلافات في قواعد الاستعمال وقواعد الإعراب، وأما المنطق فله في ذلك نظرة أخرى، وهي أن الكلمة كائنة ما كانت هي اسم على كل حال، وكل ما في الأمر أن الاسم أحيانا يطلق على كائن ذي درجة نسبية من الثبات، وأحيانا أخرى يطلق على مسيرة حركية، وأحيانا ثالثة يطلق على علاقة قائمة بين أشياء، هي كلها «أسماء» نطلقها على ما هنالك من وقائع، خذ مثلا قولنا: «محمد يلعب الكرة في الحديقة»، أتقول إن الأسماء هنا ثلاثة، هي: محمد والكرة والحديثة، وأما «يلعب» فهي فعل، وأما «في» فهي حرف؟ لكن دقق النظر قليلا تجدك قد أطلقت لفظة «يلعب» على مجموعة حركية من نمط معين، تماما كما أطلقت «الكرة» على جسم اتخذ مجموعة أوضاع متباينة، وكذلك الأمر في حرف الجر «في»؛ لأنه الرابطة المرئية بين الأطراف الأربعة الأخرى: محمد، كرة، حديقة، يلعب، وإذا شئت تعبيرا فلسفيا مألوفا، فقل: إن هذه الأطراف الأربعة هي بمثابة «مادة» الفكرة، وأما «في » فهي «صورتها» التي لولاها لما تكونت لنا فكرة من تلك الأطراف المتفرقات.

ومع هذه التسوية بين الألفاظ الخمسة جميعا في كونها جميعا أسماء برغم الفوارق بين المسميات: أهي أشياء أم حركات أم علاقات، لا بد لنا من تفرقة منطقية بينها، تجعلها في مستويين لا في مستوى واحد، فأما الأطراف الأربعة التي هي: محمد، كرة، حديقة، يلعب - فكلها سواء تقع في درجة وحدها، هي الدرجة التي تكون فيها المسميات كائنات أو أفعالا ذوات مكان وزمان، ويمكن الإشارة إليها، فنقول: هذا محمد، وهذه كرة، وهذه حديقة، وهذه مجموعة حركية مما نسميه لعبا، وأما كلمة «في» فهي في درجة منطقية وحدها؛ لأنه ليس لها ما يشار إليه بها، ومع ذلك فهي في الجملة كلها بمثابة «الروح» التي لولاها لبقيت الأطراف وكأنها الأشلاء المبعثرة لا الأعضاء ذات الوظائف الحيوية؛ ولذلك يطلق على أمثال هذه الكلمات في الفكر الفلسفي التحليلي المعاصر «كلمات منطقية» بالقياس إلى النوع الآخر من الكلمات التي هي «كلمات شيئية» أي كلمات تشير إلى أشياء، وسواء كانت الكلمة منطقية من شأنها أن «تبني» الفكرة، أو كانت شيئية من شأنها أن تشير إلى ما هو كائن في الموقف الذي نتحدث عنه، فهي في كلتا الحالتين «اسم» على كل حال، له ما يعنيه.

Unknown page