Macqul Wa La Macqul

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
100

Macqul Wa La Macqul

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Genres

فليس عبثا ولا مصادفة أن نجد كثيرين من الفلاسفة الأعلام في العالم كله - قديمه وحديثه - يقفون من علوم عصرهم وقفة متأملة قد تقصر بهم وقد تطول، والأرجح أن يتناولوا تلك العلوم بشيء من التصنيف والترتيب يجيء كاشفا - إلى حد كبير - عن وجهة نظرهم فيما يريدونه لعصرهم من توجيه علمي، فلئن كان الرجل العادي من رجال العالم يكفيه أن يتقن علما واحدا تخصص فيه، فإن «فيلسوف العلم» لا يرضى عن نفسه إلا إذا اتخذ موقفا «أعلى» من العلوم لينظر إليها النظرة المقارنة التي قد تنتهي بتوحيدها جميعا في منظومة واحدة، فيها ما هو أدنى وما هو أعلى، بمعنى ما هو أخص وما هو أعم؛ لأنك إذا عرفت أين يقع علمك الذي تخصصت فيه من سائر العلوم، أدركت الهدف البعيد لطريق سيرك، وإدراك الهدف عامل قوي في تنظيم الخطى وتمييز الأهم من المهم ومما ليس بذي خطر من أجزاء مادتك العلمية نفسها.

يبدأ الفارابي بهذه العبارة التي يوضح فيها خطته في تصنيف العلوم المعروفة في عصره وترتيبها، فيقول: «قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وأجزاء كل ما له منها أجزاء، وجمل ما في كل واحد من أجزائه، ونجعله في خمسة فصول؛ الأول في علم اللسان وأجزائه، والثاني في علم المنطق وأجزائه، والثالث في علوم التعاليم (= الرياضة) وهي العدد والهندسة وعلم المناظر وعلم النجوم التعليمي وعلم الموسيقى وعلم الأثقال وعلم الحيل (= الميكانيكا)، والرابع في العلم الطبيعي وأجزائه، وفي العلم الإلهي وأجزائه، والخامس في العلم المدني وأجزائه، وفي علم الفقه، وعلم الكلام» (إحصاء العلوم ، تحقيق الدكتور عثمان أمين، ص43).

ونظرة سريعة إلى هذا التقسيم تكشف عن جانب مما أراده الفارابي؛ وذلك أن أربعة أقسام من الخمسة، خاصة بالعلوم النظرية، وأما الخامس فخاص بالتطبيق العملي على الحياة الاجتماعية في المدينة والحياة الفردية في العقيدة والشريعة، كأنما يريد الفارابي أن يقول: إن هدف الفكر النظري لا بد أن يكون هو التطبيق على الحياة العملية، هذه واحدة، والأخرى هي أنه في نطاق العلوم النظرية نفسها، سار من علوم الصورة (اللغة والمنطق والرياضة) إلى علوم المادة (الطبيعة وما وراء الطبيعة)، أي إنه سار هابطا من الأعم إلى الأخص، فالعلم الأخص لا يستغني عن العلم الأعم، ولكن العكس غير صحيح، بمعنى أن العام يستغني عن الخاص؛ فاللغة والمنطق والرياضة لا يعنيها أن تنحصر في مادة علمية بذاتها؛ لأنها «مقولات صورية» قابلة لأن تمتلئ بأية مادة علمية، وأما علم الطبيعة وعلم ما وراء الطبيعة فلهما مادة علمية معينة لا بد من تناولها، على أن يجري هذا التناول في إطارات اللغة والمنطق والرياضة.

وسنكتفي هنا بلقطة واحدة نلقطها من «إحصاء العلوم» لنقف حيالها وقفة تحليلية تكشف عن نفاذ البصيرة عند الفارابي من جهة، وتفيدنا نحن اليوم فيما يمس موضوعها من جهة أخرى، وإنما قصدت إلى ما ارتآه الفارابي في طبيعة «الشعر» ما هي؟ (راجع «إحصاء العلوم»، ص67-68)؛ وذلك لأن فيلسوفنا الفارابي قد وصف طبيعة الشعر ومهمته التي يؤديها، وصفا يضع به الأساس لمذهب في الفن الشعري، قريب الشبه جدا ببعض مذاهب الشعر في النقد الأدبي المعاصر، نذكر منها على سبيل المثال رأي «إ. إ. رتشاردز» الذي بسطه في كتابه «مبادئ النقد الأدبي».

ومؤدى هذا المذهب الفارابي هو أن الغاية التي يحققها الشعر، هي أن يوحي لقارئه بوقفة سلوكية يريدها له الشاعر، لا بالقول المباشر، بل برسم صورة يكون بينها وبين السلوك المرتجى علاقة الإشارة الموحية. ولو صدق هذا المذهب لكانت لنا به ثلاثة معايير يكمل بعضها بعضا، نستطيع بها أن نميز جيد الشعر من رديئه؛ أولها: أن ترسم القصيدة صورة أو صورا تتكامل أجزاؤها بحيث يمكن تصورها، وثانيها: أن يكون للصورة المرسومة من قوة التداعي ما تستجلب به إلى الذهن شبيها لها من الخبرة المكنونة عند قارئها، وثالثها: أن تكون الصورة المستدعاة حافزا لصاحبها على اصطناع وجهة للنظر، ينظر بها إلى العالم، فيصطبغ بها سلوكه على وجه الإجمال.

إذن فهذه ثلاث خطوات تتحقق بها طبيعة الشعر؛ صورة ترسم أولا، فخبرة خاصة تستدعيها هذه الصورة المرسومة من ماضي ذكرياتنا ثانيا، فوقفة سلوكية نقفها إزاء العالم بناء على هذه الخبرة الخاصة ثالثا. وسأعرض عبارة الفارابي بنصها، مجزأة ثلاثة أجزاء، كل جزء منها يصف مرحلة من المراحل الثلاث، معقبا على كل جزء من النص بشيء من الشرح يلقي الضوء على معناه: (1)

يبدأ الفارابي بقوله: «الأقاويل الشعرية هي التي تؤلف منها أشياء، شأنها أن تخيل - في الأمر الذي فيه المخاطبة - خيالا ما، أو شيئا أفضل أو أحسن، وذلك إما جمالا أو قبحا، أو جلالة أو هوانا، أو غير ذلك مما يشاكل هذه.»

إلى هنا ينتهي الفارابي من الخطوة الأولى، وهي أن تخيل القصيدة خيالا ما، في الموضوع الذي يريد أن يخاطب الناس فيه، أي أن ترسم القصيدة صورة ما، لا ينعكس فيها الواقع انعكاسا مباشرا، ومعنى هذا أن الصورة الشعرية لا تجيء محاكاة للحقيقة الواقعة في عالم الأشياء، بل هي صورة يختار لها الشاعر أجزاءها كما يريد له فنه، ولا يشترط أن تكون الصورة المرسومة محببة إلى النفس، بل قد تكون كريهة منفرة تبعا لنوع الفكرة التي يريد الشاعر أن يوحي بها إلى القارئ، والتي ستكون بدورها أساس الوقفة السلوكية التي ينتظر للقارئ أن يقفها إزاء العالم، إذ قد يريد الشاعر لقارئه أن يزور عن فعل معين أحيانا، كما قد يريد أن يقبل على فعل آخر أحيانا أخرى. (2)

ننتقل الآن إلى الجزء الثاني من عبارة الفارابي، وهو الجزء الذي يصف به المرحلة الثانية، عندما يتأمل القارئ الصورة التي قدمها إليه الشاعر، لا ليقف عندها وكفى، بل لتثار في ذهنه خبرات ماضية، بينها وبين الصورة الحاصرة أمام ذهنه شبه؛ ففي هذا الجزء يقول الفارابي: «ويعرض لنا عند استعمال الأقاويل الشعرية - عند التخيل الذي يقع عنها في أنفسنا - شبه بما يعرض لنا عند نظرنا إلى الشيء الذي يشبه ما يعاف، فإنا من ساعتنا يخيل لنا في ذلك الشيء أنه مما يعاف، فتقوم أنفسنا منه، فتتجنبه، وإن تيقنا أنه ليس في الحقيقة كما يخيل لنا.»

وهذه هي الخطوة الثانية، فبعد أن ترسم الصورة التي قدمها الشاعر في ذهن القارئ، يحدث له نفس الشيء الذي يحدث حين ينظر إلى شيء ليس في ذاته كريها، لكنه يشبه شيئا آخر كريها، فيستدعي الشبيه شبيهه إلى الذهن، فمن الحقائق النفسية المعروفة ذلك القانون الذي يسمونه بقانون التداعي، وخلاصته أنه إذا اقترن في خبرتك شيئان لأي سبب من الأسباب، ارتبط هذان الشيئان أحدهما بالآخر، بحيث إذا عرض لك أحدهما، وثب الآخر إلى ذهنك فورا؛ فقد تصف الشيء الواحد بصفتين، كلتاهما - من حيث الواقع - صحيحة، ومع ذلك فإحداهما تكون مدحا، والأخرى تكون قدحا، حسب ما تستدعيه كل منهما إلى الذهن، فالأمر كما يقول الشاعر في عسل النحل:

Unknown page