Macna Hayat Muqaddima Qasira
معنى الحياة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وعلى أية حال، فإن الوعي بحقيقة أنك تسير في حياتك بشكل جيد يعزز على الأرجح من إحساسك بالسعادة؛ ويبدو من غير المعقول ألا تضيف هذه الميزة الإضافية المستحسنة إلى حالتك العامة من السعادة والرضا. بعبارة أخرى، ليس صحيحا أنك تشعر بالسعادة فقط إذا كنت لا تدركها. والتأمل الذاتي دائما ما يكون محبطا بشكل مميت لتلك الرؤية الرومانسية إلى حد السذاجة. وهذا هو ما قد يطلق عليه المرء نظرية الاجتياز الخطر للهاوية في الحياة: فكر في الأمر وسوف يصيبك الفشل في الحال. ولكن معرفة الكيفية التي تتوافق بها الأمور معك هو شرط أساسي لمعرفة ما إذا كان عليك محاولة تغييرها، أم أن تبقي عليها كما هي تقريبا. فالمعرفة بمثابة عامل مساعد للسعادة وليست غريما لها.
غير أن السؤال عن معنى وجود الإنسان في حد ذاته يوحي بأننا ربما قد نكون ضللنا طريقنا بشكل جماعي، مهما كنا نرتحل فرادى. في فترة ما حوالي عام 1870 أو 1880 في بريطانيا، بدأت خيوط بعض الحقائق اليقينية الفيكتورية بشأن هذا السؤال في التكشف؛ لذلك نجد أن توماس هاردي وجوزيف كونراد مثلا يطرحان سؤال معنى الحياة بإلحاح من المستحيل تخيله في حالة ويليام ثاكاري وأنتوني ترولوب. وبالمثل جين أوستن، التي سبقت هؤلاء الكتاب. بالطبع أثار الفنانون السؤال قبل عام 1870، ولكن نادرا ما كانوا يطرحونه كجزء من «ثقافة» كاملة قائمة على التساؤل والتشكيك. وبحلول العقود الأولى من القرن العشرين، اتخذت هذه الثقافة - بمخاوفها الوجودية الملازمة لها - شكل الحداثة، وهي تيار أنتج بعضا من أبرز أعمال الفن الأدبي التي شهدها الغرب على الإطلاق. ومع تحدي كل ما هو تقليدي من قيم واعتقادات ومؤسسات، باتت الظروف مهيأة الآن للفن كي يطرح أكثر الأسئلة الاستقصائية عن مصير الثقافة الغربية في حد ذاتها، ومصير الإنسانية نفسها. ولا شك أن أحد أتباع الماركسية السوقية من ذوي العقليات الكئيبة قد يدرك وجود علاقة بين هذا الحراك الثقافي وبين الكساد الاقتصادي في نهاية العصر الفيكتوري، واندلاع الحرب الإمبريالية العالمية في عام 1916، والثورة البلشفية، وصعود الفاشية، والأزمة الاقتصادية في فترة ما بين الحربين العالميتين، وظهور الستالينية، وانتشار الإبادة الجماعية، وما شابه. نحن أنفسنا نفضل أن نحصر تخميناتنا وأفكارنا بشكل أقل سوقية في الحياة المعرفية والفكرية.
خلف هذا الأسلوب الخصب والمتمرد في التفكير آثارا لاحقة - كما رأينا - في الوجودية؛ ولكن بحلول خمسينيات القرن العشرين تعرض للانحسار بشكل عام ليظهر على السطح مرة أخرى في موجة لاحقة من الازدهار في الثقافات المضادة في ستينيات القرن العشرين؛ ولكن بحلول منتصف السبعينيات تقلصت مثل هذه الطموحات الروحانية ، وبترت في الغرب بفعل انتشار مناخ سياسي حاد وبراجماتي متزايد. وقد رفضت حركة ما بعد البنيوية - ومن بعدها حركة ما بعد الحداثة - جميع المحاولات للتفكير في الحياة الإنسانية ككل باعتبار أنها موصومة بأنها «إنسانية»؛ أو بالأحرى باعتبارها نوعية النظرية «الشمولية» التي قادت بشكل مباشر إلى معسكرات الموت في الدولة الاستبدادية. فلم يعد هناك آنذاك ما يسمى بالإنسانية أو الحياة الإنسانية للتأمل فيها؛ فلم يكن هناك سوى اختلافات، وثقافات محددة، ومواقف موضعية.
ولعل أحد الأسباب وراء إسهاب القرن العشرين في التفكير في معنى الوجود بأسلوب أكثر ابتئاسا مقارنة بمعظم العصور الأخرى أنه قد اعتبر الحياة الإنسانية زهيدة وبلا ثمن بشكل مثير للفزع. فقد كان هذا العصر أكثر العصور دموية على مدار التاريخ، بالنظر لملايين الأرواح التي أزهقت بلا مبرر. فإذا كانت قيمة الحياة قد انحدرت بهذا الشكل العنيف في الواقع، فمن الممكن إذن أن يتوقع المرء أن يقع معناها تحت طائلة الشك من الناحية النظرية. ولكن ثمة قضية أكثر عمومية هنا أيضا. فمن الشائع في العصر الحديث أن ما قد يطلق عليه البعد الرمزي للحياة الإنسانية يتعرض للتهميش بشكل مستمر ومنتظم. وقد كان هذا البعد يضم ثلاثة جوانب طالما كانت حيوية: الدين، والثقافة، والجنس. وقد أصبحت هذه الجوانب الثلاثة جميعا أقل أهمية بالنسبة للحياة العامة مع بزوغ العصر الحديث. أما في مجتمعات ما قبل الحداثة، فقد كانت في أغلب الأحيان جزءا من المحيط العام وكذلك الخاص. فلم يكن الدين مجرد مسألة ضمير شخصي وخلاص فردي، بل كان أيضا مسألة نفوذ دولة، وطقوس عامة، وأيديولوجيات قومية. وباعتباره عنصرا أساسيا للسياسات الدولية، فقد شكل مصير الأمم على طول الطريق من الحروب الأهلية إلى زيجات السلالات الحاكمة. ويوجد نذر شؤم تنذر بأن الفترة التي نعيشها قد تعود إلى ذلك الوضع في نواح معينة.
أما بالنسبة للثقافة، فلم يكن الفنان شخصية منعزلة متقوقعة يتسكع في إحدى المقاهي البوهيمية الماجنة بقدر ما كان موظفا عاما له دور محدد داخل القبيلة أو العشيرة أو البلاط الملكي. وإن لم توظفه الكنيسة، فقد يعين من قبل الدولة أو أحد الرعاة ذوي النفوذ ممن ينتمون للطبقة العليا. وقد كان الفنانون أقل ميلا للتفكر والتأمل في معنى الحياة حينما كانوا يتقاضون عمولة مجزية لتأليف موسيقى قداس الموتى. إلى جانب ذلك، كان الإيمان الديني يحسم المسألة إلى حد كبير بالنسبة لهم. أما عن الجنس، فكان آنذاك مسألة حب شهواني وإشباع شخصي مثلما هو الآن. ولكنه أيضا كان محبوسا داخل أعراف النسب، والإرث، والطبقة الاجتماعية، والملكية، والسلطة، والمكانة بشكل أعمق مما هو عليه الآن بالنسبة لمعظمنا.
وليس المقصود من هذا إضفاء مثالية على الأيام الخوالي. فالدين والفن والجنس ربما كانوا أكثر أهمية للشئون العامة أكثر من اليوم؛ ولكن من الممكن أيضا أن يكونوا بمثابة الخدم المطيعين للسلطة السياسية، ولنفس الأسباب إلى حد كبير. وبمجرد أن استطاعوا الخروج من قبضة هذه السلطة، استطاعوا الاستمتاع بدرجة من الحرية والاستقلال لم يحلموا بها من قبل. غير أن ثمن هذه الحرية كان باهظا. فقد استمرت هذه الأنشطة الرمزية في أداء أدوار عامة ذات أهمية؛ ولكنها عموما كانت تقصى بشكل متزايد إلى المجال الخاص، حيث لم تكن تخص أي شخص سوى صاحبها.
كيف يرتبط ذلك بالسؤال عن معنى الحياة؟ الإجابة هي أن هذه بالضبط هي المجالات التي كان الرجال والنساء يتجهون إليها عادة حين يتساءلون عن معنى وقيمة وجودهم. فكان من الصعب أن تجد أسبابا أكثر حيوية وجوهرية للعيش أكثر من الحب، والإيمان الديني، والقيمة النفيسة لعشيرة الفرد وثقافته. في الواقع، كان هناك عدد ضخم من الناس على مدى القرون على استعداد للموت، أو مستعدين للقتل، باسمها. وقد اتجه الناس إلى هذه القيم بشكل أكثر حماسا ولهفة حين أصبح الميدان العام نفسه مجردا من المعنى بشكل متزايد. فقد بدا أن الحقيقة والقيمة قد انفصلا، تاركين الأولى شأنا عاما، والأخيرة شأنا خاصا.
وكما اتضح، فقد أثقلت الحداثة الرأسمالية كاهلنا بنظام اقتصادي وسيلي بشكل بحت. فقد كان عبارة عن أسلوب حياة مكرس للنفوذ والربح والبقاء المادي، وليس لتنمية قيم المشاركة والتكافل الإنسانيين. وكان المجال السياسي مسألة إدارة ومناورة أكثر من كونه تكوينا مشتركا لحياة مشتركة. حتى المنطق ذاته انحدرت قيمته حتى أصبح مجرد حسبة تحكمها المصلحة الذاتية. أما بالنسبة للأخلاقيات والفضيلة، فقد أصبحت أيضا شأنا خاصا بشكل متزايد، يرتبط بغرف النوم أكثر من ارتباطه بقاعة الاجتماعات. وتنامت أهمية الحياة الثقافية من جانب، لتتطور إلى صناعة كاملة أو فرع من فروع الإنتاج المادي. غير أنها - على جانب آخر - تضاءلت لتصبح مجرد تزيين لواجهة نظام اجتماعي لم يكن لديه سوى وقت محدود للغاية لأي شيء لم يكن بإمكانه تسعيره أو قياسه. فقد انحصرت الثقافة آنذاك إلى حد كبير في كيفية شغل انتباه الناس بدون ضرر حين لم يكونوا يعملون.
غير أنه كانت هناك مفارقة في هذا الشأن. فكلما أجبرت جوانب الثقافة والدين والفن والجنس على العمل كبدائل لقيمة عامة مضمحلة، قلت قدرتها على القيام بذلك. وكلما تركز المعنى في المجال الرمزي، كان ذلك المجال ينحرف عن المسار الصحيح بفعل الضغوط التي كان ذلك يفرضها عليه. ونتيجة لذلك، بدأت الجوانب الثلاثة للحياة الرمزية جميعا في إظهار أعراض مرضية. فتحول الجنس إلى هوس غريب، بل وكان أحد المصادر القليلة للمذهب الحسي التي ما زالت متبقية في عالم منهك القوى. فحلت الصدمة والغضب الجنسيين محل اقتتال سياسي مفقود. وبنفس القدر أصبح الفن متضخما في قيمته؛ إذ أصبح في نظر الحركة الجمالية آنذاك لا يقل عن كونه نموذجا للحياة، فيما كان الفن - في رأي بعض أتباع حركة الحداثة - يمثل المأوى الهش الأخير للقيمة الإنسانية في الحضارة الإنسانية؛ تلك الحضارة التي نبذها الفن نفسه في ازدراء. غير أن هذا كان ينطبق فقط على أثر شكل الفن. ونظرا لأن محتواه كان انعكاسا حتميا للعالم المادي من حوله، فلم يكن باستطاعته تقديم مصدر دائم للخلاص والنجاة.
شكل 1-2: تجمع لحركة «العصر الجديد» في ستونهنج. (© Matt Cardy/Alamy)
Unknown page